تتوالى التحضيرات على قدم وساق لعقد المؤتمر الوطني الثامن لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. سيكون المؤتمر عاديا من الناحية المسطرية واستثنائيا من الناحية السياسية بحكم الظروف الخاصة التي يجتازها الحزب بعد قبول الكاتب الأول تجميد عضويته في المكتب السياسي وحصول اتفاق على إدارة الحزب بشكل جماعي من طرف أعضاء المكتب السياسي في انتظار أن يفرز المؤتمر الكاتب الأول الجديد أو أن يتم اختياره من طرف الجهاز الذي سينبثق عن المؤتمر. وقد تشكلت كما هو معلوم خمس لجان لتحضير المؤتمر وهي: لجنة الهوية، لجنة التنظيم، لجنة القضايا الاقتصادية والاجتماعية، اللجنة السياسية، ولجنة الإعداد المادي. وقطعت اللجان الأشواط الأساسية للنقاش العام، وطرحت مشاريع وثائق للتداول، توجد من بينها ورقة حول الإصلاحات الدستورية. وحسب الأصداء التي تصل إلى الملاحظين خارج الحزب، فإن أجواء التحضير تطبعها الجدية والوعي بدقة الظرف والاستعداد المبدئي لإجراء عدد من التغييرات في التنظيم والممارسة والخطاب. كما أن نصوص الوثائق التي حررها الاتحاديون هنا وهناك تحمل نفسا نقديا حقيقيا، وتدعو إلى نبذ الكسل الفكري ولغة الخشب، وتقترح التحلي بالشجاعة المطلوبة لمحاسبة الذات والاعتراف بالأخطاء واستشراف آفاق جديدة. وبلاشك، فإن نتائج المؤتمر ستكون لها انعكاسات ملموسة على مسار الحياة السياسية المغربية وعلى وضع اليسار خصوصا، نظراًً للدور المركزي الذي لعبه الاتحاد في تاريخ المغرب المستقل، ولذلك فإن المتطلعين إلى غد مغربي مستوف لشروط الديمقراطية، سيتمنون لمؤتمر الاتحاد كامل النجاح والسداد. الاتحاد الاشتراكي هو الحزب الذي شد إليه الأنظار أكثر من غيره، وهو الحزب الذي كتب فيه وقيل عنه ما لم يكتب في غيره ولا قيل عن غيره. قبل عشر سنوات، كان الاتحاد يحتفظ بخصائص تميزه عن بقية الأحزاب المغربية، ويحظى باحترام وتبجيل قل نظيرهما. بعد تصويته لأول مرة بنعم على دستور 1996 وقبوله المشاركة في الحكومة عام 1998 والملابسات التي أحاطت بإعداد مؤتمره الوطني السادس، انسحب من الحزب الآلاف من مناضليه. وكان مجموع الأعضاء يبلغ آنذاك حوالي 55 ألف عضو. ورغم الانسحابات، وقيمتها النوعية- إذ كانت قائمة المنسحبين تضم مثلاً أغلب الأطر الوطنية المسيرة للكونفدرالية الديمقراطية للشغل وأغلب أعضاء المكاتب الوطنية التي توالت على تسيير الشبيبة الاتحادية منذ 1987 -فإن معظم أعضاء الحزب ظلوا مرتبطين قانونيا بحزبهم، وهذا ما يمكن الوقوف عليه بسهولة من خلال تأمل نسب المؤتمرين في مؤتمرات الأطراف المنسحبة من الاتحاد. وإذا كانت أغلبية الاتحاديين قد اختارت مواصلة الانضواء في لواء الحزب وعدم مغادرته، فإن هذا لا يعني أن كل من بقي ملتئما في سلك الاتحاد كان راضيا على ما يصدر باسم الحزب من مواقف وممارسات وسلوكات. إن الأعضاء الذين ظل البيت الاتحادي يؤويهم ينقسمون إلى ثلاث فئات: - فئة كانت تعارض مسار المشاركة الحكومية في الشروط التي تمت فيها عام 1998، واختار بعضها نقد هذا المسار، في محاولة ل«تصحيح» الوضع من الداخل، وبعضها الآخر اختار الانتظار والوقوف وقفة تأمل وتريث إلى أن «تتضح» الأمور أكثر، أو الانزواء في ركن من البيت والتقيد بالسكينة والصمت وعدم إثارة الجلبة والضوضاء. - فئة كانت تؤيد مسار المشاركة الحكومية من منطلقات مبدئية لا تغشاها مطامح شخصية ولا تحركها دوافع أنانية. يتعلق الأمر هنا بمناضلين حقيقيين قدروا أن دخول الحزب للحكومة سيمنح البلاد فرصة التقدم إلى الأمام. لم يكن همهم هو احتياز مصالح أو منافع أو امتيازات أو تحسين وضعية، بل اعتبروا أن هناك فرصة ذهبية لكي يوضع المغرب على سكة تحول عميق ينقله إلى مصاف الدول الديمقراطية ويحقق انفراجاً واسعاً في الوضع الاجتماعي. وكان هؤلاء يلحون باستمرار على قبول المشاركة، لكن مع ضرورة «تحصينها» أي فرض قواعد تتبع و»مصاحبة» تمثل مبادئ وأخلاقيات المشاركة التي يتعين إشهارها على العموم فور حصول المشاركة. - فئة كانت تناصر مسار المشاركة من موقف إعياء وإحباط وانقياد للأمر الواقع، وتنظر إليها من زاوية المغانم الفردية. إنها الفئة التي اعتبرت أن زمن المعارضة قد ولى إلى غير رجعة، وأن الاتحاد إذا لم يشارك في حكومة 1998 فلن يشارك ربما في أية حكومة أخرى، وأن الجري وراء سراب الانتخابات النزيهة وتقييد المشاركة بشروط دستورية أو سياسية سيجعل هذه المشاركة متعذرة باستمرار. هناك من كان يخشى على نفسه الموت معارضاً، ويبدي تعلقا وثنيا بالمشاركة، ويعتبرها في جميع الأحوال أحسن مخرج من أزمة ذاتية تلوح في الأفق، إذ أن رفضها يعني أن تترك المقاعد فارغة ليملأها الآخرون. هذه الفئة استبد بها اشتهاء لتلك المقاعد لا مثيل له، فتحت مبرر انعدام أية بدائل أخرى أصبح المطلوب هو المشاركة فقط، فتحولت إلى هدف، وأصبح الشعار هو أن فعل أي شيء كيفما كان من موقع المشاركة هو على كل حال أحسن من عدم المشاركة. وبدون أية قراءة للنوايا لا نخشى القول بأن عدداً من أفراد هذه الفئة ربما استسلموا لنوع من الضعف الإنساني، وشغلهم التفكير في مستقبلهم كأفراد ومستقبل أبنائهم ونوع تعليمهم وظروف العيش والسكن وفي جاذبية الجاه والثروة والمكانة الاجتماعية. لقد كانت كواليس الاجتماعات والتعيينات في المناصب تشي بكل شيء، وتقدم الحقائق عارية. إن مثل هذه النزعات يمكن أن تظهر في أي حزب سياسي، والمهم هو أن يتمكن عبر ترسانة من القواعد والآليات من ضبط هذه النزعة ومحاصرتها. وإذا كنا لا نستطيع أن نقدر حجم تواجد كل فئة من الفئات الثلاث داخل الاتحاد الاشتراكي غداة مشاركته في الحكومة، فإننا نستطيع القول مع ذلك أن تصور الفئة الثالثة هو الذي طغى في النهاية، بدليل الحرص خلال المشاركة على عدم إبداء أية «قتالية» لفرض توجهات الحزب، وعدم مقاومة أي من التوجهات السائدة الأساسية. لقد خيف أن يفضي الإلحاح على إدخال تحويلات جذرية في بنيات النظام السائد إلى الإلقاء بالمشاركين في قارعة الطريق. وشيئا فشيئا عوض أن تباشر المشاركة الحكومية تحويل بنيات النظام، تولت تحويل بنية الحزب، فأصبحنا عمليا أمام حزب جديد تقريبا، لا نكاد نتعرف فيه على ملامح الحزب الأصلي. هذا الحزب الجديد انحسرت لديه مساحة المبدئي في السياسة، فباسم إفساح الطريق للمشاركة تم قبول مقاعد مزورة، وباسم «إنجاح» المشاركة تم تسويغ قمع الصحافة والقبول ببرنامج الدولة الذي كان موضوع نقد دائم من طرف الحزب، وتم التخلي عن بنود واردة في برنامجه، وتم بذل تنازلات للدولة وترسيخ «التقاليد المرعية»، وتم الاستقواء على الخصوم بالدولة وبالقرابة «الجغرافية» معها، وتم تغيير وسائل عمل الحزب في الميدان واقتباس وسائل «الآخرين»، وتم باسم محاربة الإرهاب الدفاع عن المس بقواعد حقوق الإنسان، وتم تأبيد استعمال التحالفات غير الطبيعية، وتم الهجوم على كل من يطالب بإصلاحات دستورية، وتحول الحزب إلى دار للفتوى لصالح القوى المحافظة، وأعلنت الحرب على «العدمية»، فلم يتم الاكتفاء بالتخلص من بعض أبناء الحزب بل تم استعمال حق المطاردة لملاحقتهم في ديارهم الجديدة ولمحاولة تجريدهم من حقوقهم الدستورية بدعوى محاربة البلقنة، وتم تحويل معركة التنوير إلى حملة لتصفية حسابات انتخابية مع حزب أصولي وللإشادة بأصولية المخزن في ذات الوقت، وتم تقديم صورة عن الحالة السياسية في المغرب مخالفة للواقع، وتمت المشاركة ثانية في «حكومة جطو» كما لو أن التواجد في الحكومة أصبح قاعدة قارة، أيا كانت الشروط أو أنواع الحلفاء، مادام ذلك التواجد مرغوبا فيه من أعلى. وفي النهاية، ترتب عن كل ذلك شعور عام لدى قطاع واسع من المغاربة بأن الاتحاد خذلهم، وبأنه لم يف بما وعد به، وأنه غدا مثل الآخرين وتجرد مما كان يشكل موطن قوته، وجاء تراجعه الانتخابي الكبير ليكشف عن تضرر صورته لدى الناخبين. إن الاتحاد يعاني اليوم من فقدان المصداقية وهذا هو سر نكسته الانتخابية. فالأزمة الانتخابية لدى الاتحاد الاشتراكي أصلها سياسي، بينما الأزمة السياسية لدى بعض مكونات اليسار المعارض مثلاً أصلها انتخابي. والأصل السياسي لأزمة الاتحاد له علاقة «بالتناوب» ونتائج «التناوب» وبحصيلة مشاركته الحكومية. وإذا كانت نتائج انتخابات 2002 لم تسجل تراجعا في حصة الاتحاد منها، فإن ذلك يفسر ربما باتجاه الناخبين إلى منح فرصة ثانية للحزب واتجاه الدولة إلى تهيئة ظروف انتخابية «مواتية». إن الأزمة التي يعيشها الاتحاد حاليا واضحة ولا يمكن الالتفاف عليها، فهي بارزة للعيان وتتجلى في تآكل رصيده الرمزي والمعنوي. هل يمكن له أن يسترجع المصداقية ويخرج من الأزمة مستقبلا؟ لا ندري كم سيتطلب ذلك من الوقت: خمس أو عشر سنوات أو أكثر من عشر سنوات أو أقل من خمس؟ المهم أن على مناضليه الحقيقيين أن يتحلوا بالشجاعة المطلوبة لمواجهة الأزمة ولتمكين الحزب من استرجاع ثقة الناس به. هذا لا تسعف فيه حملة إعلامية لتسويق الصورة الجديدة، بل لابد من إجراءات فعالة ذات أثر ملموس. وبدون إدعاء تقديم دروس للحزب ومناضليه، يمكن المساهمة باقتراح جملة من الإجراءات التي يمكن أن تساعد في الخروج من الأزمة: أولا -قيادة جديدة- ربما كان الأليق بالحزب في إطار تقديم صورة جديدة عن نفسه، انتخاب قيادة جديدة لا تضم الوجوه التي قادت المرحلة السابقة أو تلك التي ساهمت في الحكومة. والأمر لا يعني الانتقاص من قيمة أو وزن الرجال والنساء الذين تحملوا مسؤولية تسيير الحزب وطنيا، بل هو ترجمة لمبدأ تحمل المسؤولية نفسه، فمادام هناك فشل، فالقيادة المسؤولة عنه يتعين أن تتنحى جماعياً لمصلحة الحزب كله. لا يعني الفشل هنا، انعدام وجود مؤشرات للتحسن في بعض القطاعات، بل يعني أن «التجربة» لم تمكن المغرب سياسياً ومؤسسيًا من التخلص نهائياً من العناصر والعوامل الثقيلة التي عددها الحزب في بيان 21 أكتوبر 2007 الشهير، وأن مؤشرات التحسن لم تكن على درجة من الكثافة والفعالية كافية لتوليد الانطباع بنجاح التجربة. ثانيا -العودة إلى المعارضة- هناك مستندان أساسيان للعودة إلى المعارضة: أ -أغلبية المقاعد في تشكيلة المجلس المنبثق عن انتخابات 7 شتنبر تعود إلى أحزاب اليمين والقوى المحافظة عموما، بمعنى أن احترام «المنهجية الديمقراطية» يتطلب شغل اليسار لموقع المعارضة. أما مقولة المشاركة ل»مواصلة أوراش الإصلاح»، فقد أدرك الجميع اليوم أنها مجرد شعار لتبرير المشاركة الدائمة. ب- الظروف والملابسات التي جرى في ظلها تشكيل الحكومة الحالية والتي جعلت منها فضيحة وطنية بامتياز، وأوقعت الاتحاد الاشتراكي في موقف لا يحسد عليه، ذلك أن مشاركته جعلته هذه المرة يظهر في صورة حزب مستعد لقبول مالا يستسيغه العقل والمنطق والذوق، ويصنع نقيض ما يعلنه من مواقف وإشارات. ثالثا -تغيير الخط السياسي- ويعني ذلك الانخراط فعليا في توجه سياسي يشخص استقلالية الحزب عن الدولة، ويتجاوب مع المتطلبات الأخلاقية والفلسفية للمشروع الديمقراطي واليساري للحزب، ويقرن القول بالفعل، وينهض بالمهام الحقيقية لبناء الانتقال الديمقراطي في المغرب. هناك عدة جبهات لإبراز التغيير المطلوب في خط الممارسة الاتحادية، ومنها مثلاً: أ- مجال الإصلاح الدستوري الذي يجب أن يعتمد فيه الحزب برنامجا جريئاً يعالج الاختلالات العميقة للحالة الدستورية المغربية. ويجب التمييز في هذا الصدد بين المطالبة بالإصلاح الدستوري كأساس محوري للنضال الديمقراطي في المغرب، وبين رفع شعار الإصلاح الدستوري للابتزاز السياسي، وذلك باستعماله كوسيلة للضغط من أجل أخذ مكتسبات متعلقة بالقرب «الجغرافي» من جهاز الدولة، أي رفع الشعار لدى كل «خصومة عائلية» مع النظام، ثم وضعه في الرف عندما تعود المياه إلى مجاريها ويلتئم شمل العائلة وتتحسن الأجواء بين الأطراف. ب -مجال الربط بين المبادئ والوسائل في الممارسة السياسية- يجب أن تعالج قضية المعايير والأدوات المتوسل إليها في العمل السياسي بكامل الصرامة، ومن ذلك مثلاً التحديد الواضح لمعايير المشاركة الحكومية حتى لا ترتهن تلك المشاركة لنوع من البراغماتية التي يمليها أحيانا ضعف بشري إزاء الإغراءات. ويتعين إعادة تخليق الممارسة الانتخابية للاتحاد ورفض استيراد مرشحي الأحزاب الإدارية، ورفض «الهدايا» الانتخابية غير المستحقة، والقبول بنتائج الاختبار الديمقراطي أياً كانت النتائج، واحترام حق الجميع في الديمقراطية ومواجهة أي مس بحقوق الإنسان حتى ولو كان ضحاياه من خصوم الحزب، والاعتراف للمجتمع المدني والصحافة المستقلة بحق المبادرة والاختلاف، وهجر تقليد المنازعة دوماً في شرعية «الآخرين» وثقافة الاشتباه في ظروف نشأتهم.. ج- مجال التحالفات- يجب أن يميز الحزب بين الحلفاء الطبيعيين والحلفاء غير الطبيعيين، وأن يفك الارتباط نهائيًا مع مفهوم «الأغلبية الحكومية الدائمة»، وألا يعتبر أن تكوين الأغلبيات هو مجرد تجميع رقمي دون أساس برنامجي، وأن يعيد تقييم علاقاته مع مكونات اليسار الأخرى بالتوقف عن اعتبار شعار وحدة اليسار مبرراً لكي يملي الاتحاد على تلك المكونات فروض الطاعة والتبعية له ودعمه المطلق في جميع الظروف وإزاء جميع مبادراته حتى ما كان منها مناقضا للمنطلقات اليسارية والديمقراطية. هذا مع الإشارة إلى أن العمل في إطار قطب يساري لا يستبعد بناء جبهة ديمقراطية مع قوى متنورة ونزيهة ومستقلة عن الدولة. رابعا- اعتماد بنية تنظيمية جديدة- إن الاتحاد الاشتراكي يمكن أن يقدم نموذج حزب يساري عصري متعدد التيارات. هناك أحزاب أوروبية يعتبرها الأقرب إليه إيديولوجيا ولكنه يتردد في تشخيص قرابة تنظيمية معها. كما أن الرأي العام المغربي في حاجة إلى أن يقدم له الاتحاد «ضمانات» بجدية حرصه على النزاهة والأخلاق وإعمال الديمقراطية الداخلية، وذلك مثلا بإخضاع الاقتراعات داخل الحزب لمراقبة حقوقية من خارجه، وسن قواعد مراقبة ممتلكات القادة والمسيرين وتأمين حق نقدهم العلني، وتقرير جزاءات عن تأخير المؤتمرات ومحطات تجديد الأجهزة، وعدم الجمع بين المهام، وتمكين الرأي العام والناخبين عبر مساطر خاصة من تتبع سلوك المنتخبين والأعضاء... إلخ. إن الإجراءات الواردة أعلاه لن تمر طبعا بدون عوائق وصعوبات...