حكيم عنكر: كنا قد أشرنا في عدد سابق من «المساء» إلى تصدر فيلم «نحن من يملك الليل» للقاعات السينمائية العالمية، واعتبرنا في تحليلنا أن السينما الأمريكية تعود إلى الأرشيفات السرية وإلى محاضر شرطة مكافحة الجريمة من أجل كتابة، أو بالأحرى صناعة فيلم فيه الوصفة السحرية التي تقول في المقدمة «بأن وقائع هذا الفيلم حقيقية وليست متخيلة» وهذا ما يحدث طبعا مع الفيلم البوليسي الأمريكي «نحن من يملك الليل» لجيمس غراي. في فيلم «نحن نملك الليل» للمخرج وكاتب السيناريو جيمس غراي، تشبه بالعالم الذي يمتح منه مارتن كورسيزي، فالفيلم يدور في الأحياء الخلفية لمدينة نيويورك عند نهاية الثمانينات، حين كانت تلك الأحياء مرتعا لعصابات تهريب المخدرات والسموم البيضاء، وداخل هذا العالم الذي يستيقظ في الليل ليبدأ نشاطه، تسود صراعات الرجال من مختلف الأعراق، بينما يتراجع دور المرأة كثيرا ليبقى في الخلفية، كل وظيفته هو أن تزداد الشحنة العاطفية والوجدانية في الفيلم. ومثل العديد من أفلام سكورسيزي أيضا تعيش الشخصية الرئيسية صراعا داخليا بين الخطيئة والتفكير، في وقوفها الحائر بين الانحياز للقانون أو الولاء لمن هم خارجون عليه، وفوق هذا الخيط الرفيع يمضي بطل فيلم «نحن نملك الليل». يشير عنوان الفيلم إلى شعار اشتهرت به شرطة نيويورك خلال تلك الفترة، وهكذا يضعك الفيلم مع مشاهده الأولى في قلب الصراع بين عالمين يدوران في الليل: عالم المتعة الخاصة المحرمة والجريمة المنظمة، وعالم القانون والنظام، ويقف البطل بوب محاولا ألا ينحاز لجانب دون آخر، فكل اهتمامه هو هذا العمل الذي يحقق له ذاته كما يتصور، حتى إنه يصبح مرشحا لإدارة ملاه أكبر تمولها العصابة، ناهيك عن علاقته مع فتاة الملهى الجميلة أمادا «إيفا مينديز» ذات الجذور اللاتينية، لكن استقرار بوب على هذا الخيط الرفيع لن يدوم طويلا، فسرعان ما يستدعيه شقيقه جوزيف ليطلب منه أن يكون جاسوساً في عالم العصابة، وهو ما يرفضه بوبي، حتى بعد أن يواجهه الأب بيرت في حزم ممزوج بالحنان: «عاجلاً أو آجلاً سوف يكون عليك الاختيار بين أن تقف معنا أو معهم». يعود بوبي إلى حياته الليلية المترعة بالملذات الحسية، لكن قوات الشرطة تقتحم المكان بقيادة الشقيق جوزيف، من دون أن تعثر على دليل على إدانة فاديم وإن كانت تعتقل أحد رجاله لإحرازه بعض المخدرات كما يتم اعتقال بوبي، الذي سوف يشهد مصرع رجل العصابة في زنزانته قتيلا أو منتحرا كما يشاع. وتحدث المواجهة المتوقعة بين الشقيقين بوبي وجوزيف، التي تتطور إلى شجار حقيقي يعمق الخلاف بينهما، لكن في تلك الليلة ذاتها، تشن العصابة هجوما على الشقيق الضابط جوزيف خلال عودته إلى منزله، برصاصة تخترق رأسه، وزجاجة “مولوتوف” تحرق منزله، الأمر الذي يؤدي بجوزيف إلى أن يقضي فترة طويلة بين الحياة والموت. وتكون تلك هي النقطة التي لا بد فيها لبوبي أن يأخذ موقفا، وأنت تعرف بالطبع أنه سوف يقبل أن يتسلل إلى عالم العصابة لحساب الشرطة، بما قد يذكرك مرة أخرى بالفيلم الأخير لسكورسيزي “الأرواح الهائمة”. تزداد الدراما توترا عندما تطلب العصابة من بوبي في نفس الوقت أن يكون شريكا فاعلا في تهريب المخدرات، ليمضي السيناريو في تطورات قد يتوقع المتفرج معظمها قبل أن يراها على الشاشة، لأنها مقتبسة اقتباسا مباشرا عن العديد من الأفلام التي تنتمي إلى هذا النمط، مثل اللحظة التي يتكشف فيها للعصابة أن بوبي يعمل لحساب الشرطة، وتهديده بقتل أمادا، وتصل المأساة إلى ذروتها بمصرع الأب على يد العصابة، وهنا لا بد للشقيقين أن يقفا معا للانتقام من العصابة، وإعادة النظام والقانون إلى مجراه، كما يمضي الفيلم إلى مطاردة بالسيارات تذكرك بأفلام المنتج صاحب الأفلام “المبهرة” جيري بروكهايمر، ومطاردة أخرى داخل حقول القمح حيث يختفي الفريسة والصياد ويتبادلان الأدوار. قد ترى في فيلم «نحن نملك الليل» بعضا من ملامح أفلام سكورسيزي، لكنها تبدو مثل الشبح الباهت، لأن الفيلم تجاهل رسم شخصياته على نحو مقنع مما ترك ثغرات في الدراما فأنت لا تعرف على سبيل المثال لماذا هجر البطل بوبي أسرته وأعرافها ليذهب إلى عالم مناقض، كما يقفز الفيلم على احتمال كشف العصابة منذ البداية انحدار بوبي من عائلة تعمل في مجال الشرطة. الفضاء العام للفيلم يبدأ الفيلم بأسياد آخرين لهذا الليل، الذي يتجسد في ملهى ليلي يديره الشاب بوبي جرين «يواكين فينيكس»، وفي هذا الملهى يرتع تاجر المخدرات ذو الأصل الروسي فاديم “أليكس فيدوف”، ابن شقيق صاحب الملهى مارت “سوني موشونوف” الذي نعرف لاحقا أنه الزعيم الحقيقي للعصابة الشهيرة رغم الابتسامة الطيبة الرقيقة التي تعلو وجهه، كما نعرف من جانب آخر أن بوبي ينحدر من عائلة ذات جذور بولندية، لكنه غير اسمه كما انفصل عن أسرته التي تتبنى أخلاقا مناقضة تماما، فأبوه هو قائد الشرطة بيرت جروسينسكي “روبرت دوفال”، وشقيقه هو الضابط الملتزم جوزيف “مارك والبيرج”.