من كثرة ما نكتبه عن احتلال الفاسيين لمناصب المسؤولية في دواليب الدولة والمؤسسات المالية منذ الاستقلال إلى اليوم، صار البعض يعتقد أننا نحمل ضغينة دفينة لفاس وأهلها. والصحيح هو عكس ذلك تماما. ففاس ليست هي تلك الحفنة من الأثرياء الذين هجروها واستقروا في أحياء كاليفورنيا وأنفا للإشراف على شركاتهم في الأحياء الصناعية بهوامش الدارالبيضاء، بل هي تلك المدينة العريقة التي تسقط بيوتها على رؤوس ساكنيها في الأحياء القديمة التي تنتظر «الإنقاذ» منذ 1981، تاريخ إعطاء انطلاقة مشروع «إنقاذ فاس» تزامنا مع إعلانها من طرف اليونسكو إرثا حضاريا إنسانيا. ومنذ أن أعطت اليونسكو فاس علامة «إرث الإنسانية» ومتبرعون دوليون، منهم البنك الدولي، يضخون الأموال في مشروع «إنقاذ فاس» بدون طائل. فالأموال إما سرقت وإما بددت في دراسات مشاريع الجدوى الباهظة التي لا يعرف أحد أسماء المكاتب التي استفادت منها. وعدا ساحة النجارين وجزء من مسجد القرويين وبعض أجزاء المدرسة المصباحية والبوعنانية، التي خضعت للترميم بفضل أموال «الإنقاذ»، ظلت المآثر الأخرى، التي كانت تنافس مآثر أصفهان ودمشق وإسطنبول وقسطنطينة، عرضة للإهمال، يخترقها نهر كان اسمه نهر الجواهر فأصبح اسمه «واد بوخرارب». وكما أن هناك جريمة اسمها عقوق الوالدين، فهناك أيضا جريمة أكبر منها اسمها عقوق مسقط الرأس. ومثلما يتنكر الأبناء العاقون لآبائهم، فهناك أبناء يتنكرون لمدنهم التي ولدوا فيها وينسون فضلها عليهم عندما يكبرون وتكبر حساباتهم في البنك. لقد تعمدنا أن ننشر أمس على صدر الصفحة الأولى صورة ذلك الشاب المذبوح في أحد شوارع الأحياء الراقية بفاس والملقى على الأرض أمام الملأ في واضحة النهار. إنها الصورة الحقيقية لما وصل إليه الإجرام في هذه المدينة الروحية التي تزهق روحها ببطء. ورغم أن وزير الداخلية ينحدر من هذه المدينة، فإنه عجز، إلى حدود اليوم، عن ضمان الحد الأدنى من الأمن لسكانها. فأصبحت المدينة الآمنة، التي كان التجار يتركون دكاكينهم فيها مفتوحة من أجل الذهاب للصلاة في المسجد، مضطرين إلى تدعيم أبواب محلاتهم بالشبابيك الحديدية لاتقاء هجمات اللصوص والمنحرفين. إن ما يبعث على الاستغراب والدهشة هو أن احتلال الفاسيين لمناصب المسؤولية في الدولة والحكومة لم ينعكس بشكل مباشر على مسقط رأسهم فاس. فالعاصمة الروحية للمغرب تكاد تكون عاصمة الإجرام في المغرب، إلى درجة أن التجار والسكان يخرجون في مسيرات احتجاجية للمطالبة بالأمن. والفقر يضرب قلب المدينة وهوامشها، وأسقف البيوت تتساقط على رؤوس سكانها، والحل الوحيد المتبقي أمام السكان هو دعم منازلهم وجدران أحيائهم بالأعمدة الخشبية. منذ الخمسينيات وإلى حدود سنوات السبعينيات، فضلت أغلب العائلات البورجوازية الفاسية الثرية مغادرة فاس للاستقرار في الدارالبيضاء واستثمار أموالها في العقار والسيارات والنسيج والمواد الغذائية والنقل وقطاع البنوك. آخرون تقربوا من الدولة وصناع القرار السياسي واستطاعوا أن يجدوا لهم ولأبنائهم موطئ قدم في مؤسسات الدولة والحكومة، وصاروا يتوارثونها كما يتوارث أبناء الفقراء الأحذية والدفاتر المدرسية. وهناك صنف ثالث استفاد بشكل لافت من سياسة المغربة، وعلى رأسه الفاسي كريم العمراني الذي راكم ثروة خيالية بفضل هذه السياسة الاقتصادية. وبينما ساهم هؤلاء الأثرياء الفاسيون في نهضة عمرانية كبيرة في الدارالبيضاء، من خلال الأحياء الراقية الجديدة التي شيدوا عليها قصورهم الفخمة، لم تحظ فاس من طرف أغلب هؤلاء الأثرياء ولو بالتفاتة بسيطة تعيد الاعتبار إلى مآثرها التاريخية وأحيائها العتيقة. واحد مثل أنس الصفريوي، جمع ثروته كلها من جبال الغاسول بالأطلس، يبني في جميع مدن المغرب الأحياء والمركبات السياحية، لم يستطع أن يخصص جزءا بسيطا من ثروته لإنقاذ أحياء مسقط رأسه فاس من الدمار. والثري كريم العمراني، الذي يوجد في صحة جيدة ويدير أعماله بنفسه كما أخبرتنا بذلك وكالة بوزردة للأنباء، لم يستطع أن يخصص جزءا من ثروته الهائلة لإنقاذ مدرسة من مدارس فاس العتيقة، كمدرسة الصهريج التي يعود تاريخ تشييدها إلى سنة 1321، والتي أصبحت للأسف زبالة، مع أنها لوحدها يمكن أن تجلب عشرة ملايين سائح نظرا إلى كونها الأقدم في كل فاس. إن هؤلاء البناة الجدد مهووسون فقط ببناء المركبات السياحية والفنادق من صنف خمس نجوم، معتقدين أن السياح الذين يأتون إلى فاس سيهمهم أن يتمتعوا بالزخرفة التي في أسقف غرفهم بالفندق، مع أن كنوز فاس الحقيقية ليست هي الفنادق وإنما المآثر التاريخية كمدرسة العطارين والمدرسة البوعنانية، التي تم ترميم نصفها فقط، ومدرسة الشراطين. هذه هي جواهر فاس الحقيقية والتي لوحدها تستطيع أن تجذب ملايين السياح نحو المغرب. جميل أن يكون الملياردير الحاج السقاط ومولاي الكتاني قد خصصا جزءا من ثروتيهما لأعمال البر والإحسان في الدارالبيضاء، لكن الأجمل منه سيكون هو تخصيص ابنيهما ووريثي ثروتيهما، فاضل السقاط وسعد الكتاني، لجزء من ثروة عائلتيهما لإنقاذ فاس، المدينة التي لولاها لما وصل أبواهما إلى ما وصلا إليه من جاه وثروة. إن جميع أثرياء فاس مدعوون اليوم إلى تحمل مسؤوليتهم التاريخية أمام مدينتهم التي تتساقط أحياؤها وتتعاظم فيها الجريمة وتكثر فيها البطالة والفقر. الأثرياء، مثل الإمبراطور المالي عثمان بنجلون وآل البناني وبنشقرون والعراقي والمنجرة وبنسودة وبنيس وبقية الأسرة الفاسية الكبيرة والثرية المستقرة في كاليفورنيا وأنفا بالدارالبيضاء وحي الرياض وطريق زعير وعين عودة بالرباط، مدعوون جميعا إلى التصالح مع مدينتهم الأم والاستماع إلى شكواها ومسح دموعها وترميم جراحها، وذلك بفتح قلوبهم، وبالأخص دفاتر شيكاتهم، لمنح مشروع «إنقاذ فاس» الإمكانيات المادية للانطلاق بشكل جدي ومستمر إلى حين استعادة فاس لرونقها وعمقها التاريخي والروحي وإشعاعها العالمي. إنه لمن المخجل أن نسمع اليوم عن مهاجمة اللصوص والمجرمين لسياح أمريكيين وأوربيين في شوارع فاس، في وقت تستطيع فيه أية سائحة مراهقة أن تتسكع في أزقة إشبيلية، أخت فاس التوأم، أو إسطنبول بعد منتصف الليل دون أن يقلق راحتها أحد. أية بلاد هذه التي سيقبل أن يأتي إليها السياح لكي يهاجموا بالسيوف وتسرق منهم أمتعتهم ووثائقهم. هناك معادلة لا يريد المسؤولون عن السياحة استيعابها في المغرب، وهي أنه لا سياحة بدون أمن، ولا سياحة مع الفقر. السائح الذي بمجرد ما ينزل من الحافلة تهاجمه جحافل المتسولين أو الباعة المتجولين والعشرات من المحتالين واللصوص، سيفكر ألف مرة في العودة إلى هذه البلاد، وسينصح كل معارفه بالتفكير في وجهة أخرى غير هذه. لذلك على هؤلاء الأثرياء الفاسيين أن يساهموا بجزء من ثرواتهم في خلق مناصب الشغل في فاس ومدارها الحضري لاستيعاب اليد العاملة المعطلة، والتي لا تجد بدا من شغل نفسها بنهب وسرقة الآخرين لضمان خبزها وخبز أبنائها. إنها لمفارقة عجيبة أن تنجب فاس في الوقت نفسه أثرياء المغرب الكبار وفقراءه الكبار أيضا. وأحزمة البؤس هذه التي تطوق فاس هي التي تهدد مستقبلها بالانفجار الاجتماعي. والحل الوحيد لتفادي مثل هذه الأحداث، التي رأينا مثلها سنة 1990، هو خلق فرص الشغل. والبورجوازية الفاسية جمعت ما يكفي من الأموال والوسائل والمؤهلات للانخراط في هذه «الثورة» الاجتماعية الهادئة لتحويل فاس من مختبر لصناعة الجهل وعتاة المجرمين والقتلة إلى مدينة لإنتاج العلم والثروة لجميع أبنائها، وأيضا لضيوفها القادمين من النواحي. أولئك «العغروبية» الذين تعتبرهم البورجوازية الفاسية السبب الرئيسي في مغادرتها فاس نحو الدارالبيضاء والرباط. «فاس عمغوها غي العغوبية» يقولون ساخرين لبعضهم البعض في صالوناتهم المترفة لتبرير هروبهم الجماعي من مدينتهم الأم، التي تركوها تصارع مصيرها لوحدها، بينما هم جالسون يعدون ثرواتهم ويطالعون أخبارها المحزنة عبر الجرائد ونشرات الأخبار. هذه، إذن، صرخة منا لأجل فاس، عسى أن يستفيق ضمير أبنائها المترفين، ويفكروا في إنقاذها من كل هذا «العكر الفاسي» الذي يخفي تقرحات وجروحا وندوبا غائرة على وجهها البهي.