عبد الكبير عطوف باحث مجد في مجال الهجرة . صدر له أخيرا كتاب الأصول التاريخية للهجرة المغربية. لتسليط الضوء عليه كان معه هذا الحوار الهجرة المغربية نحو الخارج ارتبطت بالاستعمار الفرنسي كما ذكرت ذلك في كتابك «الأصول التاريخية للهجرة المغربية نحو فرنسا) 1910-1963 (« و المنشور بالفرنسية ( Chez Connaissances et Savoirs) لماذا اختيار 1910 بدل 1912 تاريخ توقيع اتفاقية الحماية ؟ في الواقع ان سنة 1910 كانت أول مرة نجد فيها أثرا لمهاجرين مغاربة بمدينة نانت الفرنسية يشتغلون بأحد المقاولات رغم أن عددهم لم يكن يتجاوز المائة.حسب العديد من الوثائق التي يمكن الاضطلاع عليها. وكنا بعيدين عن موجات الهجرة الكثيفة التي انطلقت مع بداية الحرب الاولى للمشاركة في مجهود الحرب الذي فرضته فرنسا الاستعمارية: ليوطي اعترف بمشاركة حوالي 45 الف جندي مغربي ، دون ان ننسى ما كان يسمى « عمال المستعمرات» والذين كان عددهم يناهز 35 الف رجل .والذين اشتغلوا بالمصانع الحربية ما بين 1916 و1918، وفي الفلاحة، الأنشطة الصناعية والمناجم...والذين تم تشغيلهم من طرف « مصلحة عمال المستعمرات» التي تم إنشاؤها سنة 1916 وتم حلها سنتين بعد ذلك. وهو ما يعني انه على الأقل 85000 مغربي تم تدبيرهم ،تأطيرهم ومراقبتهم من طرف وزراة الحرب الفرنسية خلال الحرب العالمية )1914 -1918( . وهي تشكل بداية صفحة جديدة من التاريخ الاجتماعي التي تمت كتابتها، مجسدة بذلك انطلاق أولى الهجرات المغربية المعسكرة والتي ستكون اساس انطلاق ما يسمى «نمط الاجتثاث العسكري.» في اعتقادك لماذا لم تكن السلطات الاستعمارية الفرنسية شفافة حول عدد المغاربة الذين تم إقحامهم في الحرب العالمية الأولى ؟ هل تخوفا من الرأي العام المغربي ،اذا أمكن تسميته بهذا المفهوم في ذلك الوقت , أم ان اعتبارات أخرى كانت وراء هذه السرية؟ هذا أمر صحيح وهو ما ميز كل المصادر والارشيف المتوفر حول عدد الجنود المغاربة المشاركين والذين تم تجنيدهم من طرف فرنسا الاستعمارية في اطار المجهود الحربي وهناك تعارض في الارقام الى حد يمكننا الحديث عن» حرب الارقام». وهذا التضارب حول الارقام يمكن تفسيره بتلاثة اعتبارات: - الاعتبار الاول ان المسؤولين العسكريين يريدون دائما الاحتفاظ بسرية الارقام حول الجيش الفرنسي لاعتبارات أمنية. - - الاعتبار الثاني ان السلطات الاستعمارية بالمغرب حاولت التقليل من هذا الرقم حول عدد الجنود المغاربة حتى لا يتم استعماله او استغلاله من طرف الرأي العام الوطني ( بفرنسا أو المغرب ) والدولي حتى لا تتم اثارة الرأي العام. - الاعتبار الثالت يعود الى ظروف الحرب نفسها، التي فرضت خلال هذه الفترة) 1914-1918( إلغاء توجه بعض الفرق العسكرية من المغرب نحو اوربا او العودة السريعة لبعض القوات المغربية من اوربا نحو المغرب .وفي بعض الاحيان كانت هناك ظروف يلفها الغموض حيث يتم الغاء مهام احد الفرق او يتم احتسابها مرتين رغم انه يجب الاعتراف ان هذه الحالة الأخيرة كانت نادرة. وقضية الأرقام وعدد الجنود المغربة المشاركين في الحرب سوف تتكرر اثناء الحرب العالمية الثانية 1939 و1945 .هكذا حاول الوطنيون المغاربة استغلال واستعمال هذه الارقام حول عدد الجنود المغاربة وعملوا على النفخ في ارقامها : حسن الوازاني في مذكراته يتحدث عن 90000 جندي في حين ان مختلف الارشيفات التي تمت دراستها تتحث عن رقم ما بين 70000 او 80000 جندي مغربي مشارك في هذه الحرب. هذه الحرب حول الارقام لا تقتصر حول عدد الجنود المشاركين بل كذلك حول عدد القتلى بينهم من أجل فرنسا او عدد المصابين بجروح خطيرة.وفرنسا حاولت الحفاظ على سرية هذه الأرقام الى حدود نهاية الحرب.وهو ما يعني ان العائلات المعنية لم تعرف شيئا عن ابنائها الى نهاية الحرب .هذا بالاضافة ان عدد الضحايا ( قتلى،جرحى ومختفون) قد تم التخفيض من عددهم لأسباب ايديلوجية وسياسية. الموضوع المهم الاخر الذي تطرحه في كتابك هو مشاركة المغاربة من المنطقة الفرنسية بكثافة في الحرب الاهلية الاسبانية. كيف ظلت هذه الحقيقة في طي الكتمان وخفية سواء بالمغرب او اسبانيا؟( اغلبية الجنود المغاربة الذين شاركوا في الحرب الاهلية من مجموع 87000 هم من المناطق التي كانت تحت الحماية الفرنسية وليس من المنطقة الموجودة تحت الحماية الاسبانية ص 51 ) أظن ان العزاء السيكولوجي والتاريخي لهذه الصفحة من التاريخ التي مست المشاركة الكثيفة للمغاربة في الحرب الاهلية الاسبانية ضد الجمهوريين لم يتم سواء بالمغرب او اسبانيا. وحتى يتم هذا العزاء لا بد في البداية من كتابة هذه الصفة من التاريخ جيدا وقراءة هذه الضفحة بشكل جيد وكامل ، وادارة هذه الصفحة من أجل الذاكرة الجماعية لمختلف الاجيال حتى لا يتم نسيانها وتتم عملية هضمها في ظروف جيدة وبدون تشويه لمضمونها. للايجابية على الشطر الاخير من سؤالك الذي يبقى مهما : أفضل الحديث عن تاريخ غير معروف وليس خفي كما ذكرت،لأن استقطاب المغاربة لتجنيدهم كان جد مهم ومحفز من طرف الاسبان أكثر من الفرنسيين. الى حد ان فرانكو كان يعد بعض المغاربة الذين يجندهم بان يؤدي لهم تكاليف فريضة الحج. وان الحرب ضد الجمهوريين هي حرب مقدسة وجهاد... وهو ما يفسر ان عملية استقطابهم لقت نجاحا كبيرا من جميع الجهات الجغرافية للمغرب وعلى الخصوص المنطقة الواقعة تحت النفوذ الفرنسي . لقد ذكرتم ان الحرب العالمية الاولى في سياق كلونيالي كانت هي العامل الذي فجر موجة الهجرة المغربيةنحو فرنسا ،لو افترضنا ان المغرب لم يخضع للاستعمار هل كان سيعرف ظاهرة الكثافة من الهجرة؟ الإشكالية لم تطرح جيدا لأنه لا يمكننا كتابة التاريخ بلو . تنقل السكان كانت ظاهرة دائما موجودة. لكن على عكس ذلك ألاحظ شيئا عاديا.قبل استعمار المغرب كل اشكال الهجرة التي عرفها المغرب كانت محدودة، فقط مع المرحلة الاستعمارية يمكننا الحديث عن هجرة مغربية بالمعنى السوسيولوجي والتاريخي للكلمة .وقد عشنا الموجات الكبرى للهجرة التي ستؤسس لاولى الموجات الهجروية بين المغرب وفرنسا اثناء الحرب الاولى )1914-1918 (بداية، وبعد ذلك في مرحلة مابين الحربين. هذه الوضعية ارتبطت بالاستعمار وكانت اساس الموجات الكبرى للهجرة التي لم يعرفها تاريخ المغرب المعاصر قبل سنوات 60 و70 من القرن الماضي . لا بد من قراءة وتحليل الاستعمار كنظام بنيوي وشامل مس كل بنيات المجتمع المغربي، كسر بنيات العلاقات الاجتماعية. ونزع أهم الاراضي الخصبة، ومارس عنفا رمزيا وحقيقيا (عسكري،مالي،ايديولوجي ،سياسي واداري...) على الساكنة المغربية التي لم يكن لها اختيار اخر الا الانضمام الى الجيش الفرنسي او الاسباني او العمل لدى المعمرين الاوربيين سواء بالدارالبيضاء او بالمستعمرة الجزائرية او في فرنسا . بمعنى اخر انه اصبح للمغاربة اختيار هجروي من خلال الاستعمار أكثر من السابق. وهو ما يحيل الى علاقة الارتباط المعقدة مع المعاملات النقدية اي النقود والاجر: فاكتشاف النقود والاجر تحت الحماية يمثل عنفا لا يمكن قياسه من حيث الاستلاب وتدمير العلاقات الاجتماعية التي تفرض بشكل صارم وضع المشروع الهجروي في خانة مجتمع الاستهلاك الحضري. بشكل عام كل هذه الهجرات المغربية اتجهت من الجنوب في اتجاه شماله ( في انتظار تواصلها نحو الخارج) خاصة الدارالبيضاء التي عرفت أحياء الصفيح في ظل الاستعمار منذ سنوات 1930 و1932 . وظهور وبروز احياء الصفيح كان نتيجة السياسية الاستعمارية من اجل امتصاص المهاجرين كنتيجة حتمية لنزع أراضيهم و اغتصابها من طرف الاستعماراوهروبا من حرب « التهدئة») 1934-1936( التي عرفها الجنوب المغربي . لماذا قامت السلطات الاستعمارية بتهجير السكان من الجنوب اكثر من باقي المناطق المغربية ؟ أولا سكان المغرب الجنوبيون هم الاكثر تعودا على التنقل.وهذه الساكنة مارست التجارة مع سكان الصحراء الكبرى ومع سكان شمال أفريقيا منذ عدة قرون قبل وصول الاستعمار. المهاجرون من اصل سوسي هاجروا واشتغلوا : بالمناجم ، الموانئ، الفلاحة والورشات الكبرى للاستعمار الفرنسي منذ استعمار الجزائر سنة 1830 وتونس سنة 1880و1881. ومن المؤكد ان الموجات الكبرى للهجرة المغربية من الجنوب هي موجهة لإعتبارات ايديولوجية،سياسية وعسكرية واضحة. هكذا فان المقيم العام الفرنسي الجنرال ليوطي )1912-1925 (الذي عرف عنه كتكتيكي،وتقني،وديبلوماسي ومنظر للاستعمار ،فرض من خلال ظهير شريف منذ 23 مارس 1918 ان يكون استقطاب المرشحين للهجرة نحو فرنسا مقتصرا على الجنوب المغربي. وهي الطريقة الانسب « الى عودة الهدوء الى هذه المناطق من خلال اعطاء الأهالي عملا معوضا عنه واخراجهم من حالة التمرد» . يعترف ليوطي ، بشكل واضح، انه يريد استعمال الهجرة لفسخ العلاقات الاجتماعية وتكسير المقاومة الصلبة التي شهدها الجنوب المغربي والذي لم يعرف « التهدئة» الا بين 1934 و1936. في النهاية فان ميزة التخصص والتوجيه لهذه الهجرة من الجنوب المغربي هي التي ستطبع تاريخ الهجرة السوسية التي ظلت الخزان الاساسي للهجرة المغربية نحو فرنسا خلال سنوات 1920 الى 1970. فقط ابتداءا من سنة 1965 الى 1970 دخلت مناطق مغربية اخرى لمنافسة سوس وهي منطقة الدارالبيضاء ومنطقة الريف.واذا كانت الهجرة السوسية تكاذ تقتصر على الهجرة الى فرنسا فان هجرة منطقتي الدارالبيضاء والريف هي الاكثر تشتتا فى البلدان الاوربية وباقي العالم. هذه الوضعية يمكن شرحها (من خلال إحصائيات صحيحة وموثوق بها) من خلال العلاقات التاريخية التي تطرقت لأهم محاورها والتي شرحتها بشكل مفصل داخل كتابي المنشور وكذلك من خلال اطروحة الجامعية التي تتضمن تفاصيل اكثر. ما هي انعكاسات هذه الهجرة التي لا حظتها على المغرب وسكانه بعد المشاركة في الحرب العالمية الاولى والثانية سواء كعمال او جنود؟ انعكاسات مشاركة المغاربة في حربين عالميتين كانت كبيرة وأساسية على اكثر من مستوى.لا بد من الاشارة الى مؤسسة الموجة الاولى للهجرة بين المغرب وفرنسا وكذلك اوربا والتي هي اصل تطور كل الهجرات المغربية السابقة لما نشهده اليوم. ونتيجة ذلك هو اننا نشاهد انذماج الهجرة المغربية في المشهد العالمي ويمكننا الحديث عن هجرة دولية او عالمية تتجاوز اليوم عدد 3 ملايين و500 ألف يعيشون بالخارج وهو ما يشكل 10% من سكان المغرب المحليين .هكذا نحن امام ملاحظة جد هامة ، باستتناء تركيا، فان الهجرة المغربية هي الاكثر انتشارا عبر العالم. أمر اخر أساسي ومهم هو انه لأول مرة يكتشف الاف المغاربة حرب عصرية لمجتمع استهلاكي مثير ،افكار جديدة تزحزح الوعي الجماعي.هكذا فان اقامة الجنود و «العمال الكولونياليين » » travailleurs coloniaux «) كما كانت تتم تسميتهم( في فرنسا واوربا كان مفيدا على جميع الواجهات. خاصة من خلال بروز وعي اجتماعي وسياسي لديهم لا يمكن لأي مدرسة «تعليمهم « أياه. من النتائج ايضا التي ترتبت عن هذين الحربين العالميتين هو هزيمة فرنسا في شهر ماي 1940. وفهم المغاربة من خلال ذلك ان فرنسا ليست بلد لا يهزم ،وان استقلال المغرب لن يتم الا بالاسلحة في اليد أي المقاومة. والفترة الاساسية في التوجهات الوطنية وجدت شرعيتها في وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944 .وعلينا ان لا ننسى ان العديد من المغاربة المشاركين في « الجيش الفرنسي شاركوا في عملية المقاومة المسلحة ضد معمري الشمال والجنوب. في سنوات 1953-1955 وحتى بعد استقلال المغرب من أجل تحرير المناطق الصحراوية التي كانت تحتلها اسبانيا. يمكننا ان نفهم من قولك ان المقاومة المغربية هي نتيجة الهجرة .خاصة ان الفرنسيين شجعوا الهجرة من بعض المناطق من أجل التهدئة لكن العكس هو الذي حصل؟ لم افهم جيدا سؤالك ولم أصغ الأشياء بالطريقة التي ذكرتها ،لا أريد تكرار ما قلته لكن كما ذكرت سابقا أأكد ان ليوطي وجه وسهل الهجرة وخص بها منطقة الجنوب مع منع الهجرة من باقي المناطق المغربية الاخرى حتى 1918 . هذه التوجيه والتحكم هو ناتج في نفس الوقت على المقاومة القوية التي قامت بها هذه المنطقة ضد فرنسا والتي لم تعرف»التهدئة» والهجرة كانت أحد الوسائل من أجل تكسير العلاقات الاجتماعية وتسهيل السيطرة الكولونيالية . الباحثة جواني راي لم تتردد في القول «ان كل سوسي يهاجر الى فرنسا هوبمثابة بندقية يفقدها الجنوب المغربي.» تحدثت عن أسطورة العودة في الصفحة 109 هل هذا الهجرة التي كانت مؤقتة و في بدايتها كانت مسالة العودة النهائية حاضرة بها؟ في البداية يكون المشروع الهجروي مؤقت دائما والنتيجة ان العودة تكون حاضرة في مخيل المهاجر. لكن مع الاجتتات وطول فترة الاقامة في الهجرة .العودة لا يمكن الا ان تتحول الى أسطورة في اتجاه ان «قوة العادة» و»تأثير الهجرة» تلعب دورا في المحافظة على المهاجر في نفس الوضع أي الاقامة بالهجرة واستمرار المؤقت في المنفى. هذه القضية تم تحليلها بشكل جيد من طرف السوسيولوجي عبد المالك الصياد في احد كتبه الاساسية « الاجيال التلاثة للهجرة الجزائرية »الذي صدر سنة 1977 والذي لا زال لم يتجاوز بعد نظرا لعلميته التي يمكن تطبيقها على كل الهجرات الكولونيالية . لأنه في النهاية، اسطورة العودة هي من احد توابث تاريخ الهجرة. تطرقت ايضا الى وجود تقاليد للهجرة بالجنوب المغربي منذ القرن 19 عشر،لكن في الثقافة التقليدية المغربية مغادرة أرض الاباء والهجرة يعتبر « حشومة « وعار.كيف نفسر هذه الظاهرة رغم وجود التقاليد؟ من المؤكذ ان التقاليد الهجروية لسكان جنوب المغرب ( خاصة سوس) ليست في حاجة على البرهنة خاصة أمام الأوجه السوسيو اقتصادية وحتى السياسية بالنسبة للبعض هي اقوى من «العار» او « حشومة « كما ذكرت من خلال تعبيرك. لكن العار بالنسبة للمهاجر أي مهاجر هو عدم تمكنه من بناء وضع اجتماعي لم يكن يتوفر عليه او فقده لعدة اعتبارات.هكذا فان احساس العار لا وجود له بالنسبة لمشروع هجروي له القدرة على اخراج الالاف من الناس من الفقر المادي والمعنوي ومن العزلة ما دامت الهجرة هي وسيلة اللقاء بامتياز، للاكتشاف،المغامرة الانسانية والحلم. ... المهاجر لا يغادر «ارض الاباء» بل ايضا اصدقاءه، مجاله الثقافي وفضاؤه الرمزي .. وينغرس في فضاء اخر ليس هو فضاؤه : مجتمع اخر مليء بالغرائب ليس له نفس المرجعية والرموز الثقافية . لكن التحدي بالنسبة لمهاجرنا « المنفي « هو كبير لتجاوز وضع اجتماعي ضعيف ومتجاوز من اجل الانتصار ،على عقدة العار السيكولوجي والاجتماعي. هذا «العار « لا بد ان يمر الى مستوى ادنى من أجل فتح الطريق الى النجاح الهجروي المراد او المنتظر من خلال الهدايا واموال الهجرة التي يتم بعثها الى البلد الى «أرض الاباء» التي اصبحت في حالات كثيرة مرتبطة باموال الهجرة. الهجرة السرية هي ظاهرة جد قديمة بالمغرب كما اشرت اليها في كتابك ( منذ عشرينات القرن الماضي).قضية سيدي فروخ اشتهرت في ذلك الوقت ورددتها وسائل الاعلام بعد غرق العديد من المهاجرين السريين المغاربة في احد البواخر( ًص 154) للاسف الظاهرة ما زالت مستمرة حتى اليوم هل يمكن ان نعتبر ذلك قدرا؟ لا يمكننا ان نعتبرها «قدرا» بل انا افضل تسميتها بثوابت الهجرة الدولية والمغرب لا يمكنه ان يفلت من هذه القاعدة التي طبعت التاريخ الاجتماعي عامة. وعلينا ان نعرف ان تاريخ الانسانية هو تاريخ الهجرات سواء معترف به او «سري» ( مثال الولاياتالمتحدةالامريكية ، كندا واستراليا ). والمفهوم الذي ينعث الهجرة بالسرية ليس محايدا والهجرة «السرية « يمكن اعتبارها ايديولوجية سياسية خاطئة .سوف اشرح ما اريد قوله: على المستوى المنهجي والابستيمولوجي نطرح السؤال التالي : فمقارنة مع ماذا يمكن ان نتحدث عن السرية؟ ومن هو السري ؟ المهاجر نفسه،الهجرة او المسؤولون عن سياسية الهجرة ( دول الاصل ودول الاستقبال) او المٌشغلون ..ألخ. في الحقيقة اذا اخذنا الهجرة المغربية الى فرنسا والتي اشتغلت عليها حوالي 20 سنة ، ماذا نلاحظ؟ لا بد من القول ان انطلاق الهجرة المغربية كان سريا ( بنسبة 50 في المائة حتى حدود عقد 60) لكن اقامة هؤلاء المغاربة وعملهم لم يكن كذلك لأن الدولة الفرنسية كانت «تسوي «وضعهم القانوني سواء بشكل فردي او جماعي. بعد اقامة قصيرة كان هؤلاء المغاربة يحصلون على الاوراق اللازمة ،وبدون تواطؤ المشغلين بفرنسا فان الحصول على الاقامة هو غير ممكن. ان المشغل الذي لا يمر بالمكتب الوطني للهجرة( 1945-1988) ومكتب الهجرة الدولية منذ 1988 لكي لا يؤدي مستحقاته للدولة، وهنا نجد ان هؤلاء ارباب العمل هم الذين يوجدون في وضع غير قانوني وسري ويصنعون ما يسمى بالهجرة السرية. ولا بد من الاشارة كذلك الى نفاق الدولة الفرنسية التي تجرم الهجرة دون المشغّلين الذين لم يتعاملوا بشفافية. وتاريخ فرنسا مليء بالتسويات التي يطلق عليها اسم استتنائية بيد انها بنيوية. هكذا تتم تسوية ما يسمى ب»السريين» كل عشر سنوات ونقوم بتسوية هذه الهجرة كلما أصبحت بارزة بالنسبة للراي العام . بعض السياسيين يعتقدون، وهم مخطئون في ذلك ، ان التسوية تجنب المهاجرين المعنيين بالامر اللجوء الى « السرقة « من أجل « الاكل». لكن هؤلاء السياسيين لا يقولون لنا ان بعض القطاعات ( البناء ، قطاع المطاعم والنسيج ..) لا يمكنها الاستمرار ومواجه المنافسة التي أصبحت عالمية بدون هؤلاء المهاجرين الذين يساهمون في دينامية الاقتصاد ( الموازي). لماذا استمرت الهجرة المغربية نحو اوربا بعد الاستقلال بل ان اعدادها تضاعف؟ هناك عواملت عديدة كانت وراء تزايد وثيرة الهجرة المغربية نحو الخارج: يمكنني ان اشير الى تفسخ العلاقات الاجتماعية بفعل العنف الذي مارسه الاستعمار والتطور الحضري الذي لا يمكن فصله على انتشار التعامل بالنقود والأجر الذي بدا يتعمم رويدا وريدا.في هذه الظروف برزت علاقات اجتماعية جديدة وسلوكات لا تجد اية شرعية وجودية لها الا في المجتمعات الاستهلاكية التي عكستها الهجرة الى المدن المغربية الكبرى ( في البداية الدارالبيضاء) وبعد ذلك نحو الخارج وعلى الخصوص نحو فرنسا التي تعتبر علاقاتها التاريخية مع المغرب غير محايدة ونصف الهجرة المغربية باوربا هي مركزة بهذا البلد المستعمر القديم. وعمليا،أن أول اتفاق لليد العاملة بين المغرب وفرنسا تم توقيعه سنة1963 وهو الذي كان احد عوامل ارتفاع نسبة هذه الهجرة.هذه الاتفاقية كان لها دور ادماج المغاربة بشكل نهائي في الرأسمال العالمي . لهذا الاعتبار فان الهجرة المغربية هي مشتتة عبر العالم ( مثل الهجرة التركية) على خلاف الهجرة الجزائرية المركزة بفرنسا التي تعتبر وجهتها الوحيدة ( 90 في المائة). وعلينا الا ننسى السياسة الاقتصادية والاجتماعية الكارثية التي تم نهجها النظام في سنوات الستينات والسبعينات والتي عكستها أحداث الريف) 1958-1959 (واحداث 1963- 1965 : التظاهرات وعمليات التقتيل التي شهدتها مدينة الدارالبيضاء واختطاف واغتيال المهدي بنبركة في 29 اكتوبر 1965 . في هذه الظروف، زد على هذا سياسة « المغربة «التي افرغت من محتواها و استفاد منها المخزن ونخبته ( هذا الوضع حلله بشكل جيد و جميل جدا جون واتيربوري في كتابه امير المؤمين ، الملكية المغربية ونخبتها» . (والهجرة كانت الوسيلة الوحيدة لألاف المغاربة المنحدرين من الفئات الشعبية. بماذا تفسر غياب العمال المغاربة بالمهجر عن المعارك السياسية والاجتماعية التي استحود عليها الطلبة والتي خلفت آثاراهامة في الحي اللاتيني بباريس والتي كونت « النخبة الاحتجاجية « كما سميتها في كتابك؟ هناك العديد من العوامل التي تشرح غياب العمال المغاربة عن المعارك السياسية والاجتماعية بفرنسا ( حسب الوثائق التي نتوفر عليها الان). هؤلاء العمال هم أميون بشكل عام ويعيشون فيما بينهم بعيدين عن العمال المهاجرين الاوربيين والفرنسيين . لكن العامل الاساسي لهذا الغياب في اعتقادي يكمن في المراقبة الصارمة التي كانوا يخضعون لها. لا بد ان نعرف و نعترف بان الهجرة المغربية هي من الهجرات الاكثر مرقابة عبر العالم. وهذه الوضعية بدات في فترة الاستعمار( وهو ما حللته في كتابي السالف الذكر) واستمرت ما بعد مرحلة الاستعمار: الامر الذي حاولت شرحه في كتاب انهيته وسيخرج قريبا حول عمال المناجم المغاربة بمنطقة الشمال الفرنسي 1917-1987. لن اقول اكثر حتى لا أزعج الناشر. هل يمكننا ان نعتبر ان عائدات الهجرة هي بترول المغرب اللا متناهي و الذي بدأ منذ الحرب الاولى وما زالت مستمر حتى اليوم؟ من المؤكذ ، أن عائدات الهجرة هي بمثابة بترول المغرب اللامنتهي والتي بدأت منذ الحرب العالمية الاولى ومازالت مستمرة حتى اليوم. وقد مرت تحويلات اموال الهجرة من سنة 1980 الى 2003 من,6 4147 مليون درهم الى, 8 34581 مليون درهم مما يعني ان التحويلات تضاعفت ب 8,3 وهو رقم جد كبير تجاوز بشكل كبير عائدات الفوسفاط منذ منتصف الثمانينات وبدون تحويلات المهاجرين فان ميزانية الدولة المغربية لن تكون متوازنة. لكن الازمة الاقتصادية الحالية تدعو الى التفكير حاليا اذ ان هذه التحويلات تراجعت نسبة 14 الى 20 في المائة مقارنة مع السنة الماضية ، هذا بالاضافة الى كون الاجيال الجديدة ليست لهم نفس الاهتمامات كالاباء من أجل الاستتمار وتحويل جزء من أموالهم الى البلد الاصلي المغرب وهو ما يعني ان تحويلات الهجرة سوف تتراجع في المستقبل. هناك جانب اخر دو أهمية وهي ان تحويلات الهجرة غير مستعملة في احسن وجه من أجل التنمية لأن الابناك المودوعة بها هذه الاموال هي المستفيد الاول ولا تترك للسكان الا الفتات. لهذا فان الحديث عن التنمية ليس امرا صحيحا. تحدثت في نهاية كتابك أن تدريس تاريخ الهجرة ما زال غائبا عن الجامعة ، كيف تفسر ذلك؟ فرنسا هي « بلد هجرة تتجاهل ذلك» لأن سياسة الهجرة ( ومازالت كذلك رغم المجهود المبدول) هي دائما مؤقتة.المسؤولون السياسيون لم يفهموا الوجاهة العلمية والبيداغوجية لتدريس تاريخ الهجرة الى الاجيال الجديدة التي تعاني من ثقب في الذاكرة جد واسع من خلال «ثقافة الحقد» ، الغيرية والخوف من الاخر. كيف ترى الهجرة المغربية المستقرة بفرنسا اليوم؟ الهجرة المغربية الى فرنسا هي الاكثر تطورا والأكثر تنظيما بالعالم اذا قارناها بباقي الجاليات المغربية عبر العالم ما عليك الا ملاحظة عدد مسئولي الجمعيات والمساهمين في الحياة السياسية وداخل الاحزاب والنقابات...رغم اننا لا نعطي حيزا أكبر للشباب من أجل التعبيرعن قضاياهم وهي قضية تحيل على قضايا اخرى لا يمكن ان نستقيض فيها في هذا الحيز. ففرنسا مازالت الوجهة الاساسية للمغاربة بالخارج 1131000 تتبعها اسبانيا 545000 وايطاليا 380000، بلجيكا 285000 وهولندا 278000 وألمانيا 130000. وتوجد جاليات اقل اهمية بالبلدان الاسكندنافية 17000 وحوالي 50000 بانجلترا، الولاياتالمتحدةالامريكية 100000 وكندا 70000 .واذا أحصينا المغاربة الذين يعيشون في الدول العربية واليهود المغاربة المستقرين في اسرائيل والاف المهاجرين «بدون اوراق اقامة»، فانه يمكننا الحديث عن 4 ملايين مغربي او من اصل مغربي يعيشون عبر العالم. أي حوالي 10 في المائة من مجموع سكان المغرب الذين بلغوا 34،3 مليون حسب احصائيات 2008 ( احصائيات مؤسسة الحسن الثاني لسنة 2009).