يتداول عدد من مرتادي موقع فيسبوك المغاربة منذ مدة عريضة غريبة، عريضة يدعون فيها المغاربة الآخرين المسجلين بالموقع للانضمام إلى حلف ضد ما يسمونه ب "الفاسيين". فكرة إنشاء هذه العريضة، كما يظهر، أصلها مغاربة مغتربون، ومضمونها يتلخص في دعوة كل "المتضررين" من نفوذ الفاسيين بالمغرب إلى التكتل والتوحد. والحقيقة أن موقفا كهذا، و تصورا كهذا يتهم "أهل فاس" بالاستيلاء على خيرات البلاد والتحكم في دواليبها الاقتصادية والسياسية والاستفراد بالسلطة والجاه، هو تصور قديم نسبيا، وأسبابه متعددة. نفوذ أهل فاس، والمورسكيين عموما، منذ أن دخلوا المغرب في نهاية القرن الخامس عشر بعد طردهم من الأندلس، كان دائما قويا، وهذا ما تشهد به أحداث تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، وما تشهد به كتابات الضعيف الرباطي والناصري، فما من سلطان مغربي إلا وكان لأهل فاس معه شأن، ففاس محل أهل الحل و العقد، وهي أول حاضرة كان السلاطين يسعون لنيل بيعة أهلها. والمواقف السلبية من أهل فاس هي أيضا قديمة، سواء كانت، كما في السابق، مجرد "كليشيهات" شعبية و"نكتا" ينتجها أهل البادية والجبل الذين يعانون شظف العيش، نكاية بهؤلاء "البيض" المترفين، وريثي الرفاهية و الرقي الأندلسيين في المطعم و الملبس، أو كانت تعبيرا عن طموح سياسي في تغيير المجتمع، كما كان عليه الحال مع فصائل اليسار الثوري، في مغرب الاستقلال الذين كانوا لايتورعون في نعت أعيان فاس ب"أغنياء حرب" وبحلفاء "المخزن". لكن، وبعيدا عن مضمون هذه "الوثيقة" الرقمية، وعن الموقف الأخلاقي الذي يمكن أن نقفه إزاءها، ومن الاستهجان الذي قد نبديه تجاه النزعة "العرقية" التي تسكنها؛ بعيدا عن هذه الكليشهات التي غالبا ما تكون خاطئة وغير دقيقة، بعيدا عن كل ذلك يبقى سؤال هو: ما الذي يبرر أن ينتج مغاربة الويب مبادرة كهاته ؟ ففاس الأمس عمليا انتهت؛ فاس العدوتين والقرويين انكسرت، وأهل فاس الأوائل هجروها، وأهلها اليوم أغلبهم من سكان الضواحي المجاورة، وهم في واقعهم اليومي ليسوا أقل قهرا أو ضنكا من باقي المغاربة، وتطاحنات مغرب الستينيات والسبعينيات انحلت، وخطاب التشكيك في المؤسسة الملكية و مسانديها انفرط، فما العلة في أمر كهذا؟ لماذا تكون مثل هذه الوثيقة ممكنة أصلا؟ لماذا في هذا التوقيت بالذات؟ و إلى ماذا تشير؟ الأمر بسيط للغاية، في نظري، لأن أصله يعود "للسلوك" السياسي لقادة حزب الاستقلال الآخذ بزمام الشأن العام اليوم. الأمر ليس متعلقا بفاس كمدينة، و لا بالفاسيين كعرق، بل بطبقة متنفذة تسير الشأن العام، فعندما يتأمل المواطن البسيط "شبكة" العلاقات الأسرية "الاستقلالية"، وكيف تتمدد هذه الشبكة كل يوم في أوصال المجتمع السياسي والاقتصادي الحيوية؛ عندما ينظر إلى ما آلت إليه وزارة السكنى من "تفويس"، و ما تفعله "وزيرة" مثل ياسمينة بادو، تمثل شخص الملك و شرعية الشعب، و كيف تبث، رفقة كاتب وزارتها الوسيم، آلها و أهلها في كل قطاعات وزارتها، بمعيار واحد وحيد هو مدى القرب أو البعد عن حزب الاستقلال؛ عندما يتأمل ما يفعله أصهارها و أقرباؤها من آل الفهري و آل الفاسي و آل العراقي، لا يمكن أن يسلك إلا طريقين : إما أن يركب الشعبوية ويسقط في اتهام فاس والفاسيين وسبهم و الدعوة إلى نبذهم؛ وإما أن يبحث عن صيغة أكثر تحضرا، و لو أنها ليست الأفضل، للتعبير عن "وعيه" هذا، فيلجأ إلى الفيسبوك مثلا. كثير من المغاربة البسطاء اليوم يترحمون على ادريس البصري، ليس لأنهم ينسون ما فعله هذا الرجل أيام سطوته و بطشه، بل لأنهم لا ينسون أيضا أنه كان الشخص الذي فتح الإدارات و المناصب أمام "العروبية" من المغاربة، و كسر بذلك احتكار أهل فاس لها. ومهما يكن رأينا في إدريس البصري، ومهما يكن تقويمنا لهذا "الحنين" الذي يعبر عنه بعض البسطاء لعهد البصري، إلا أن هذا الأمر يحمل دلالة ويعبر عن وعي سياسي. المغاربة يميزون و يعرفون، ولو بالسليقة، أن دولة حقيقية لا يمكن أن تتأسس على الولاءات والأنساب والمصاهرات والزيجات؛ المغاربة يدركون أن المساواة في الواجبات والحقوق، والإيمان بالانتماء المشترك لهذا البلد، في الضراء و السراء، هو ما يمكن أن يحافظ على عقدنا الاجتماعي، غير أن هذا الوعي، في نظري، هو الذي لا نجده متحققا عند كثير من "قادة" المرحلة.