تمضي البشرية في بحوثها العلمية وتحديها للطبيعة وقوانينها، وتسمو معها حضارتها وثقافتها. لترتقي بعقل الإنسان، وتجعله يلقي وراءه طقوسا وعادات رأى أنها أصبحت متجاوزة وأن من يحتفظ بها يعد خارج تغطية المجتمع الحضري، تقاليد لازمت أحزان البشرية وأفراحها وأعيادها وأعرافها الدينية، لم تستطع الصمود أمام قوة تقدم الإنسان ونمائه... وبالمقابل، ورغم ارتقاء البشرية واطلاعها على خبايا الطبيعة وتحولاتها المنتظمة، فإن العديد لازال يركض خلف البدع والخرافات و الشعوذة من أجل تحقيق مطالب أو مكاسب كان بالإمكان بلوغها بالمثابرة والاجتهاد. رجال ونساء، بعضهم مثقفون، يؤمنون بقوة «موالين الحال والبركة ومصابي الجن والعفاريت...» على تحقيق ما استعصى عليهم بالطرق العلمية الحديثة، يتبركون بأشخاص رفعوا شعار معالجة كل ما يصيب البشرية من أمراض ومشاكل ويمدهم بالحلول السهلة والسريعة لفك الألغاز وترقب المستقبل..انساقوا وراء حواديث زمان (سال المجرب لا تسال الطبيب، تبع الكذاب حتى لباب الدار، الفقيه ببراكته اطلب التسليم، اللي خاف نجا ...)، يرون أنه بالإمكان قهر الأعداء وكسب القلوب والأموال عن طريق حجاب يضم وصفة من «فقيه» به حبيبات من الشبة والحرمل وورقة بيضاء زينت بخطوط لن يفكها حتى واضعها. حجاب (القبول) يلف داخل قليل من الصوف ويخصص له مكان داخل أحد الجيوب أو في المحفظة، أو تعلقه إحداهن بحبل حول عنقها لترى الحياة بمنظور «الفقيه» أو العرافة وتبتسم لها المسالك الوهمية وتفتح في وجهها أبواب لم تدرك أنها كانت مفتوحة قبل لقائها ب «الفقيه». الإيمان بقدرة السحر على تغيير الواقع يؤمنون بوجود (فكاك لوحايل والمربوط والثقاف )، وبقدرته على إضعاف الزوج القوي المتسلط وإخضاعه لزوجته (يولي خاتم في يديها أو ضبع تسوقه كما تريد)، وإنجاح التلميذ أو الطالب الكسول الذي عادة ما يحمل معه شعار (ارحموا من في القسم يرحمكم من في الوزارة) ليجتاز الامتحان، ويضمن الوظيفة للعاطل،... الخ لم يدققوا يوما في العلاقة التي تربط عتاد الفقيه أو الشوافة (جلد القنفذ أو دمه، مخ الضبع، السبرديلة، البلغة، تراب الرجلين، علبة الكبريت، اللدون، وسخ العايم، الشعر، أثر قدم الانسان، زغيبات الفار، الكتابة بالشمع، التفوسيخة بالشبة والحرمل، بخور ليلة القدر، الساكتة والمسكوتة، ورق، يد الميت، لعب الأوراق (السوطة والكبال والراي، قراءة الكف... واللائحة طويلة...)، ومطالبهم تستلزم حركة ونشاطا ورغبة وجدية لتحقيقها. أثواب رثة تعلق فوق القبور أو أشجار النخل بجوار بعض أضرحة أولياء الله الصالحين، وأخرى تلف وفق وصفات «الفقيه» والشوافة لتزف تحت الأرض، بهدف تشريد أصحابها أو إخضاعهم لزبائنهم. أحذية ومواد قذرة يرى المشعوذ أن بإمكان الزوجة أن تقتنيها من بين أرشيف زوجها الملقى فوق السطوح أو في «الزريبة»، لتعصر وسخه بعد صب الماء عليه وتقدمه لزوجها ضمن الوجبات اليومية، لكي تحصل على زوج أبله تسهل قيادته. وإذا كانت المجالات الحضرية تعيش الوضع ونقيضه، خرافات وأساطير بين مؤيد ومعارض ومتحفظ ويائس متقلب، كهنة وفقهاء وعرافات...، أقنعوا بطرقهم الخاصة فئات من النساء والرجال بعدما أدلوا بالحجج والبراهين أنهم قادرون على فك الألغاز وشفاء المرضى وتقريب المتخاصمين...، فكانوا دعما لهم وعملوا على نصرتهم داخل مجتمع غير مؤطر، فأكسبوهم سمعة وشرفا وزادوا من حقيبة زبائنهم، فإن سكان العالم القروي يعيشون أوضاعا شاذة بإصرارهم على تصديق أعمال الشعوذة والعمل بها لضمان أسرع الحلول بأثمنة زهيدة (شمعة أو بيضة أو بياض نقدي...)، والتي غالبا ما يتحول مقابلها إلى دجاجة سوداء أو خروف أو نعجة أو ثور أسود... عدة دواوير بالجماعات القروية التابعة لجهة الشاوية ورديغة وضواحي المحمدية، يتبرك ساكنتها ببعض النساء أو الرجال، منهم من أصبح فجأة يقرأ الطالع أو يداوي المرضى، ومنهم من احترف النصب على النساء بدعوى تحقيق أحلامهن في الحمل أو الزواج أو التحكم عن بعد في أزواجهن وتحويلهم إلى دمى في أيديهن. ولعل إصرار الضاوية على لقاء «الفقيه» الذي يقطن بجوارها، واستشارته حول موضوع ابنتها التي تأخر حملها، وطلبها وصفة سحرية لجعلها حبلى قبل مجيء زوجها المهاجر بالديار الإسبانية، يؤكد مدى اعتقاد العجوز في قدرات «الفقيه» الذي جعلته طبيبها ومنجدها في كل خصوصياتها. قالت الضاوية: «الفقيه» هو الذي زوج ابنتي واختار لها عريسا غنيا، فقد أعطاني حجابا تركته لثلاث ليال في سطل به ماء وملح، وطلب مني أن أجعلها تستحم به وتردد كلمات (زوج غني ثلاث مرات)، ولم يمض شهر على تطبيق وصفته حتى طلبها للزواج ابن عمتها الذي يعمل بإسبانيا». «الفقيه» القادر على جعل المرأة حبلى كانت الضاوية تحكي عن قدرات «الفقيه» وتدافع عنه بشراسة أحسست معها أنني لن أوفق في إقناعها بأكاذيب «الفقيه». وبدواوير عديدة حطت «المساء» في محاولة لاستقاء آراء سكانها حول مدى ثقتهم في المشعوذين وقدراتهم التي تصل حد المعجزات حسب ما تردده بعض الألسن. خيام لعرافات مشهود لهن داخل الدوار بالكشف عن الحقائق المخفية، وإيجاد المسروق، والسارق، والمسحور والساحر وإبطال مادة السحر... «فقهاء» جمعوا بين تلقين الأطفال القرآن الكريم وحضور الأحزان والأفراح لتلاوة آيات من الذكر الحكيم وتحقيق رغبات النساء والرجال بتوفير وصفات الشعوذة وفق الطلبات. وتزيد جلسة «الفقيه» أو العراف من حرارة البحث والتنقيب حول مسار الشعوذة والمشعوذين. يمتلك «الفقيه» العبدي الحس الكافي الذي اكتسبه عبر سنين الممارسة، يعرف جيدا من بين طارقي بابه، الضيف الذي جاء يطلب العون والزائر الذي ينوي من زيارته أمورا أخرى. ولربما عبارة: (اللي خاف نجا واطلب التسليم) التي واجهني بها عند دخولي منزله الصفيحي بضواحي مدينة المحمدية، أكبر دليل على أنه اكتسب مهارة كبيرة في مراوغة كل زائر. قال العبدي: «لو أنك جئتني في يوم عطلة لوجدت العديد من السيارات مركونة بجانب خيمتي، يأتي أصحابها للتبرك ببركاتي وأمنحهم الثقة والحلول لكل مشاكلهم»، وتابع: اللي «تعجب يتبلى». وبدأ يعد عدته الخرافية من تفوسيخة وبخور وأغطية بألوان غريبة وأدوات تقليدية متنوعة يداعبها أثناء حديثه. لم يشأ أن أطيل الجلوس معه، فخاطبني بلغة الوجه الجديد الذي حاول رسمه: «رجع لدارك آولدي واطلب التسليم لا تملك وتصير بحالي...». ألقيت التحية التي لم أجد لها صدى بالخيمة، وخرجت لحال سبيلي. مثل هؤلاء وأولئك هنا وهناك، يمارسون شعوذتهم معتمدين على تقنيات المراوغة والتخويف بالانتقام من كل من سولت له نفسه التشكيك في قدراتهم، هم أصدقاء الجن والعفاريت وهم قادرون على تسخير (عايشة قنديشة ومعها لفيف من الجنيات) للفتك بكل النساء اللواتي يرفضن التعامل معهم، لتجد بعض المسؤولين المحليين يفضلون الابتعاد عنهم وتركهم في حالهم (التيقار)، ماداموا لا يقومون بأعمال إجرامية مباشرة وصريحة، كقول أحد أعوان السلطة (الله يبعد بلانا على بلاهم، الذنب ذنب اللي كاي تعاملو معاهم...). ولعل أبرز ما استقته «المساء» في رحلتها عبر دواوير الجماعات القروية، اعتقال عدة عرافات و«فقهاء» كانوا السبب في تطليق زوجات من أزواجهن أو إصابة بعض الرجال بأمراض تعفنية بسبب وصفات الشعوذة أو الوصفات الطبية التي تعتمد على أنواع من الأعشاب وأعضاء الحيوانات البرية.