ليست هاته المرة الأولى التي أحضر فيها معرضا للكتاب، لكن مشاركتي في معرض الكتاب بالدارالبيضاء كان لها هاته السنة نكهة خاصة وطعم جديد وذوق عجيب بحكم كون مغاربة الخارج -وأنا منهم- كانوا ضيف الشرف، وكان البرنامج حافلا بندوات ونقاشات حول الإبداع الفكري والعلمي والإنتاج الأدبي والفني لمغاربة المهجر، وقد تفاجأت بالإقبال الكبير والنجاح التي لاقته هاته الندوات والمشاركة الإيجابية خاصة لمغاربة الداخل سواء في التدخلات أو في ما سمعته من ملاحظات وتعاليق، وبالمناسبة أشكر من قاموا على إنجاح هذا الحدث. لن أفشي سرا إذا أخبرتكم أنني من أولئك المغاربة المقيمين بالخارج الذين إذا دخلوا للمغرب أخفوا كل ما يمت للخارج بصلة، من لباس وهيأة ، وكلام وحديث، وهذا يجعلني منصهرا في أصلي وفصلي وعرقي وجذوري، وقد يفاجَأ البعض عندما يكتشف بوشاية أحدهم أنني من "الزماغرية" وكم أكره هذه الكلمة. وهكذا وقع لي في العديد من المرات أن يتحدث البعض أمامي بانتقاص شديد عنهم للعديد من الاعتبارات، منها ما يرجع فعلا لعجرفة وكبرياء بعض من اكتسب سيارة مرقمة بأوروبا ورجع بها محملا بالهدايا وعلب الشاي الأخضر، وكأن مواكبة ركب الحضارة والثقافة الغربية تقتصر على حشو الكلام بعبارات وألفاظ لاتينية، والتقدم والتطور يعني إظهار القدرة على شراء لباس معين والقول والافتخار بكون السروال الملبوس يساوي أكثر من الأجرة الشهرية للمخاطَب المسكين الذي لن يزداد إلا حنقا وغضبا على هذا المتعجرف الذي قدم فأصبح كل شيء بثمن باهظ، وهو الذي إذا طلب منه ثمن لم يكتف بأدائه لكنه زاد عليه لا صدقة ولا زكاة بل كبرياء وحبا للظهور، ولكم استأت من أمثال هؤلاء وتصرفاتهم مما يجعلني أحيانا أتدخل لأبين لهم أن في المغرب قوانين وعادات وأعراف يجب احترامها ومراعاتها وأن الإقامة بالخارج ليست بطاقة بيضاء تمنح الحق في غير ما لا يُستحق. لست من هواة تصنيف الناس بين الخواص والعوام كما فعل بعض علمائنا في كتبهم، لكن حضوري في معرض الكتاب والتقائي بنخبة من مغاربة الخارج والداخل، جعل شعوري وإحساسي يزداد رسوخا وتجذرا بكون قيمة الإنسان تتجلى فيما يمكن أن يقدمه ويعطيه، ولكلٍ مواهبُه وعطاءاتُه وإنجازاتُه بغض النظرعن مكان إقامته ، ومغاربة الخارج المقيمون في العالم الغربي-وهذا بيت القصيد- يمكن لهم أن يلعبوا دورا لا يمكن أن يقوم به غيرهم، بحكم احتاككهم وتشبعهم بحضارة وثقافة تختلف في الأصل والفصل والدين واللغة والفكر والأدب والعادات والتقاليد والأعراف عن ما عرفوه وعايشوه وتربوا عليه في المغرب. إنه أي الدور المنوط بهم هو إعطاء بُعدٍ حقيقي لحوار الثقافات لئلا أقول حوار الحضارات، والمساهمة في خلق دينامكية توصد باب الباحثين عن المصادمات وتغلق فجوة المشاحنات، لتفتح باب الانفتاح على الغير مع التشبت بالأصل والارتكاز على الثوابت والمعتقدات. بيد أن حوار الثقافات لابد له من ثقافة الحوار التي تسمح بالانفتاح دون انغلاق ولا انسلاخ، لأننا نجد نفسنا أمام اتجاهين نقيضين، كِليهما يريد فرض آرائه وتصوراته ويعتقد أن الصواب بجانبه. الاتجاه الأول وهواتجاه "نظرية المؤامرة" الذي يرى أن لا فائدة من الحوار ومن النقاش مع الغرب وأهله، وأن ملة الكفر واحدة، والكفار جميعهم سواء وأن السبيل الأوحد هو المواجهة ومقارعة الحجة بالحجة إن لم يكن بغيرها، ليظهر الحق ويزهق الباطل، وكل ما يأتي من الغرب المراد منه الإبقاء على غلبته وإفساد المجتمعات الإسلامية وأصالتها، ولهذا يجب الرجوع إلى الأصل والتشبث بالسلف ورفض ما عدا ذلك؛ وهذا الاتجاه موجود حتى في أوروبا بين أفراد المسلمين والمغاربة منهم. الاتجاه الثاني - وهنا لن أتكلم عن المنسلخين بتاتا الذين لو استطاعوا تغيير ألوانهم وشكلهم لفعلوا، لأن هؤلاء اختاروا تموقعهم ولن يُسهموا في شيئ- ،هو من يعتبر الثقافة والحضارة الإسلامية والمغربية الأصيلة جزءا من التراث لا غير، يصلح للمواسم والأعياد والاحتفالات فقط، ويعتقد أن كل ما يمت بالأصل هو تخلف ورجعية ، وأن التقدم والحداثة والعصرنة تقتضي اتباع سبيل الغرب لا في قيمه فحسب بل في عاداته أيضا، ولا في مبادئه فقط بل في أعرافه كذلك. إن حوار الثقافات والحضارات من مغاربة الخارج يقتضي منهم أولا التشبع والتحصن بالأساس وبالمبادئ وبالركائز التي من دونها سيذوبون، وكثيرا ما نجد من هؤلاء المغاربة من يختزل ثقافته وحضارته في الكسكس وشرب الشاي مع التشبث ببعض التقاليد والعادات، ضاربين عرض الحائط المبادئ والقيم وربما حتى الدين والعقيدة، والأمثلة كثيرة في هذا المجال، ومنها ما يباح للولد ما لا يباح لأخته فلا عيب ما دام الولد رجلا ذكرا فحلا. وأخيرا، إذا كان حوار الثقافات وكما ذكرنا يقتضي وجود ثقافة الحوارمن كلا الطرفين التي تسمح بالإنصات للآخر والاستماع إليه يجب أن نعلم أنه قبل هذا وذاك للحوار شروط وضوابط ، ومنها أنه لمد الجسور لابد من الاهتمام بالجذور. [email protected]