يخطئ من يظن أن تقرير لجنة مجلس حقوق الإنسان الأخير، المعروف اختصارا بتقرير غولدستون، جاء منصفا في المهمة التي أنيطت به. وبغض النظر عن مظاهر الفرحة والابتهاج التي سادت الساحتين السياسية والإعلامية في العالم العربي، فإن القراءة القانونية لهذا التقرير ربما أعطت صورة مختلفة عن القراءة التي تغنى بها السياسيون والإعلاميون. بل إنه ليس من المبالغة القول إن تقرير غولدستون شمل «تبريرا غير مباشر» لكثير من الانتهاكات القانونية الدولية التي قامت بها إسرائيل خلال حربها الأخيرة على غزة. في الثالث من أبريل 2009، وتنفيذا لقرار مجلس حقوق الإنسان رقم 60/251 المنعقد بتاريخ 12 يناير 2009، أنشأ رئيس مجلس حقوق الإنسان بعثة الأممالمتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة، مسندا إليها ولاية قوامها «التحقيق في جميع انتهاكات قانون حقوق الإنسان الدولي والقانون الإنساني الدولي والتي تكون قد ارتكبت في أي وقت في سياق العمليات العسكرية التي جرى القيام بها في غزة في أثناء الفترة من 27 ديسمبر 2008 إلى 18 يناير 2009، سواء ارتكبت قبل هذه العمليات أو أثناءها أو بعدها». كما يتضح من هذا القرار، فإن مسؤولية اللجنة محددة بمكان معين، وهو غزة. ولكن اللجنة قامت من ذات نفسها ووسعت دائرة التحقيق لتشمل الانتهاكات القانونية التي حدثت في إسرائيل والضفة الغربية، إضافة إلى غزة، بزعم أن انتهاكات القانون الدولي في تلك الفترة شملت هذه المناطق، رغم أن قرار المجلس كان محددا بغزة فقط! والمشكلة هنا هي أن اللجنة قامت بتوسيع دائرة عملها من غير أساس قانوني، وفي ذلك تعدٍ للتفويض الذي كلفت به! ولا يكفي القول إن اللجنة أخطرت الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان بهذا التصرف مسبقا، لأن أي تعديل لأي تفويض قانوني يتطلب العودة إلى المصدر. حري القول إنه، نتيجة لتوسعة دائرة التفويض هذه، صار بإمكان اللجنة أن تنظر في ما تراه انتهاكات من جانب الفصائل الفلسطينية ضد إسرائيل، كإطلاق الصواريخ على المدنيين الإسرائيليين، ولولا هذا المدخل المثير للجدل ما كان التقرير ليخلص إلى أي اتهامات ضد حماس وبقية الفصائل الفلسطينية المسلحة. وإن دلت هذه الملاحظة على شيء فإنما تدل على أن اختيار شخص غير محايد لترؤس هذه اللجنة لم يكن موفقا البتة! وإذا كان المفترض في أي لجنة تحقيق أن تؤدي دورها ب«نزاهة»، فإن من أبجديات اختيار اللجنة لكي تكون «نزيهة» أن تكون محايدة. وواقع الأمر أن اختيار شخص غير محايد لترؤس لجنة التحقيق هذه أمر يثير تساؤلات عن السبب الذي من أجله غلَّبت لجنة حقوق الإنسان الاعتبارات السياسية على الاعتبارات القانونية في مسألة قانونية دولية صرفة! وإذا كان غولدستون نفسه عبر عن «صدمته» لاختياره رئيسا لهذه اللجنة، فمن حق المواطن العربي أن يطرح تساؤلات غير بريئة عن سبب عدم اختيار لجنة محايدة! يؤكد عدم حيادية اللجنة ما اعترفت به اللجنة في تقريرها من أنها «لم توثق جميع الحوادث ذات الصلة التي وقعت في الفترة المشمولة بولاية البعثة»، وأنها اكتفت بما يوضح «الأنماط الرئيسية» للانتهاكات الإسرائيلية، حيث اعترفت اللجنة بأنها لم تحقق سوى في 36 حادثة في غزة فقط! غني عن القول إن 36 حالة لا تمثل حتى واحدا في الألف من حالات الانتهاكات القانونية الدولية في غزة، أو جرائم ساعة واحدة من ساعات القصف الإسرائيلي إبان الحرب على غزة. في السياق ذاته، شمل التقرير اتهامات مبطنة لحماس والجماعات المسلحة (وهي اتهامات ذات مغزى خطير) بأنهم كانوا يطلقون الصواريخ ضد إسرائيل من «مناطق مدنية»، والمقصود هنا هو «تبرير غير مباشر»، كما يسمى في القانون، لاستهداف القوات الإسرائيلية للمناطق المدنية داخل غزة، قد يستخدم لاحقا أثناء المحاكمات إذا ما حصلت. أي أنه إذا كان تقرير اللجنة أقر بأن الجماعات المسلحة الفلسطينية كانت تتخذ من المناطق المدنية حصنا لها في إطلاق الصورايخ ضد إسرائيل، فإن ذلك قد يكون مبرراً كافيا لردة فعل عسكرية إسرائيلية ضد المناطق المدنية في غزة. (لست أدري من أين أتى التقرير بهذه المعلومة المشوهة! اللهم أنه زعم بأن هذه المعلومة تبينت للبعثة على أساس «معلومات مجمعة» لديهم!). وتضع اللجنة النقاط على الحروف في هذا الشأن حين تصرح بأنه «في حين أن مباشرة أعمال القتال في المناطق المدنية لا تشكل في حد ذاتها انتهاكا للقانون الدولي، فإن الجماعات المسلحة الفلسطينية، في الحالات التي تكون فيها قد أطلقت هجمات بالقرب من مبانٍ مدنية أو مبانٍ محمية، تكون قد عرضت سكان غزة المدنيين للخطر على نحو غير ضروري». وفي هذا الكلام ما يعين أي محام يحمل عبء الدفاع عن مجرمي الحرب الإسرائيليين في حال مثولهم أمام المحاكم الدولية، في أن ما قام به الجيش الإسرائيلي من قصف للمناطق المدنية أو المحمية، كالأونروا، إنما جاء كرد فعل ضد الجماعات الفلسطينية المسلحة، التي كانت تطلق صواريخها من مناطق مدنية أو محمية، اضطرت الجيش الإسرائيلي للرد عليها! وفي الوقت الذي تقر فيه اللجنة بأن إسرائيل لم تتعاون معها البتة، فإنها تصدر شهادة تخفيف التهمة حين تقول «وتسلم البعثة بالجهود التي بذلتها إسرائيل لإصدار تحذيرات عن طريق المكالمات الهاتفية والمنشورات والإعلانات الإذاعية وتسلم بأن هذه التحذيرات، وخاصة في الحالات التي كانت فيها محددة بوجه كافٍ، قد شجعت السكان على ترك المنطقة والابتعاد عن موقع الخطر»! وكأن من واجب اللجنة أن تقبل جبين الجيش الإسرائيلي على إنذاره المدنيين من شيوخ وعجزة ورضع في إخلاء منازلهم المدنية الآمنة قبل إطلاق الصواريخ عليهم! فأي تضليل وتحقير للعقل أكبر من هذا؟! أمر مهم، هو أن التقرير اتهم حماس بشكل مباشر بأنها هي التي انتهكت وقف إطلاق النار الذي تسبب في اندلاع الحرب، في تبريرٍ آخر غير مباشر للحرب الإسرائيلية على غزة! أي كأن التقرير يقول إن إسرائيل ما كانت لتبدأ الحرب على غزة لولا أن حماس أطلقت الصواريخ أولاً! ولم تكترث اللجنة للتصريحات التي كان أدلى بها الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر حين قال في لقاء مع محطة سي إن إن «إن حركة حماس لم تنتهك الهدنة، وإن حماس لم تنتهك عهدا قطعته على نفسها»! القراءة القانونية أيضا تثير شكوكا في حيادية التقرير، الذي تحدث عن الجندي الإسرائيلي المأسور مرات عديدة، في حين لم يشر، لا من قريب ولا من بعيد، إلى أكثر من عشرة آلاف فلسطيني بين مختطف وأسير في سجون الاحتلال! أما حين يتحدث التقرير عن قنابل الدايم، فتبدو محاباة فاضحة للجانب الإسرائيلي، حين يذكر التقرير أنه «في حين أن البعثة ليست في وضع يمكنها من أن تعلن على نحو مؤكد أن القوات المسلحة الإسرائيلية قد استعملت ذخائر متفجرة معدنية خاملة كثيفة (الدايم)، فإنها لم تتلق تقارير من الأطباء الفلسطينيين والأجانب ممن عملوا في غزة أثناء العمليات العسكرية تفيد بوجود نسبة مائوية مرتفعة من المرضى ذوي الإصابات التي تتمشى مع تأثير هذه الذخائر». ولعل ما في هذه العبارة من الصياغة الملتوية ما يغني عن التعليق!