شكل الانتخاب، نظريا، فى الديمقراطيات الحديثة، اللحظة الذهبية أمام المواطنين للتعبير عن آرائهم السياسية وانتخاب منتخبيهم، لذلك يبقى الانتخاب هو المصدر الأصلي لفكرة اللامركزية وفكرة البرلمانية؛ وبالتالي، فهو المركز الأساسي لسلطة الدولة. إلا أنه بعد أكثر من تجربة اقتراعية، تبين أن الآليات الانتخابية مجرد تقنية وطقس موسمي، تعكس أزمة تنمية سياسية متعددة الأبعاد: هناك من ربطها بقصور الدولة عن فرض سياستها المادية وتطبيق القانون داخل مجالها الترابي لكى تمر العملية بشفافية؛ وهناك فريق آخر ربطها بأزمة المشاركة، بمعنى عدم انخراط قطاعات عريضة من المواطنين في الإسهام في وضع القرار الوطني والمحلى بسبب عدم فعالية القنوات المؤسساتية أو بسبب الفوارق الاقتصادية والاجتماعية؛ وهناك فريق ثالث أرجع هذا الانحراف إلى كون الآليات الانتخابية عبارة عن ثقافة وسلوك دخيلين على الذهنية السياسية المغربية. في جل الأنظمة السياسية التي تبلورت غداة الاستقلال هيمن المنطق العمودي فى العلاقة بالسلطة السياسية، مما جعل السلوك الانتخابي في حالة استحالة موضوعية بغياب ملحوظ للمنافسة الشريفة، سلوكا وشفافية، لأن عددا من الأنظمة دأبت على اتخاذ القرار وفق منطق عمودي من الأعلى إلى الأسفل. لا شك أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لها تأثيرها الكبير على العملية السياسية برمتها. الفقر مشكلة تنمو فيها كل المشكلات السلوكية والاجتماعية. فجدلية الصراع بين من يملك وبين من لا يملك، زيادة على تراجع قيم التكامل والتراحم وانتشار ظواهر الانحراف من تعاطي المخدرات والتسول والانحراف الجنسى... كل هذه العوامل قللت من الاهتمام بالسياسة لدى أغلبية المواطنين. عامل الفقر الذي أدخلنا في مأزق السياسة والتنظيرات الاقتصادية يذكرني بخطاب الحبيب بورقيبة الذي ألقاه في 20 نونبر 1964، حيث لم يتردد في التقليل من قيمة العملية الانتخابية كما يظهر من قوله: «كيف يمكن لإنسان جائع أن يكون حرا؟ نحن نعلم بأن الناس يحتاجون إلى الحرية أكثر من احتياجهم إلى الخبز، لكننا نعرف كذلك أن الناس عندما يفقدون الخبز فإنهم لا يكترثون للحرية، ويصبحون كالقطيع الذي يبحث عن معاشه اليومي، نحن نعرف الدور الذي يلعبه الغذاء في الانتخابات في بعض الدول». ولذلك نلاحظ منذ الستينيات، خاصة في القرى والبوادي، أن الاقتراع مجرد تجديد للثقة بين الناخب الذي لا يملك والمنتخب الذي يملك. أما الفريق الذي أكد عدم جدوى العملية الانتخابية بسبب عدم فعالية القنوات المؤسساتية، فإنما فعل ذلك لأن الدولة اكتفت بالاحتفاظ بالشكل الاستعراضي مقابل استبعاد المضمون؛ وبالفعل فقد شكل النظام الانتخابي إحدى أهم الوسائل المؤسساتية لمحاصرة المعارضة والسماح لأحزاب الأعيان والإدارة بضمان أغلبية ساحقة، حيث يجد الناخب صعوبة في التمييز بين أحزاب يمينية تتكون من تجمع أشخاص مختلفين، وأحيانا متعارضي التوجهات الفكرية والأصول الاجتماعية لكنهم يتقاسمون نفس التوجهات المصلحية، مما يسهل حشدها في أية لحظة. فالآلية الانتخابية، علاوة على دورها في قياس الميولات الشعبية وتحولات النخب ودرجات الولاء، تعتبر كذلك آلية تستخدم لترويض الأحزاب التى تستعين بها الدولة من أجل التعبئة؛ فالقادة يدركون مدى الأهمية التي يشكلها الغطاء الشعبي فى مواجهة الأزمات أو اتخاذ القرارات المصيرية. إن فكرة العدد والمعارضة كأساس للانتخابات لا تحيلنا على الاختلاف في الرأي والتعدد الإيديولوجى، بل على التشرذم والفرقة كما أشار إلى ذلك عدد من الباحثين الأنجلوساكسونيين الذين اهتموا بالبناء الانقسامي للمجتمعات؛ ففي مجتمعنا نجد أنفسنا أمام انقسامية بدون هوية سياسية، ولكنها تعتبر أداة للتعبئة خلال إجراء الحملات الاستفتائية والاستشارات الشعبية. ولذلك، فالانتخابات ليست فقط سلوكا وثقافة دخيلين على الحياة السياسية المغربية، بل ترجمت إلى نوع من الطقوس الموسمية، وبالتالي لا تهمنا نتائج العمليات الانتخابية أكثر مما يهمنا البناء المؤسساتي الذي تمخض على المستوى الجماعي والبرلماني... فرهان رجل السياسة هو البحث عن المشروعية كيفما كان نمط السيطرة بمفهومها الفيبيري...