محمد مفضل هيمن المنهج الشكلاني على النقد الأدبي إلى حدود الستينيات من القرن الماضي، ولم تحد عن هذه الهيمنة سوى التيارات النقدية ذات الأبعاد السياسية كالنظرية الماركسية بمختلف توجهاتها، والنقد النسوي. وكانت تدعو إلى فتح النص الأدبي على سياقه التاريخي. فإذا كان النص الأدبي لا يُختزل في شكله فقط، وإذا كان لا يستبطن علاقة شيء ما غير نفسه، فإن النقد الأدبي، في سعيه لتحليل الظاهرة الأدبية في خصوصيتها التاريخية، واجه عدة أسئلة تتعلق، أولا، بطبيعة العلاقة بين النص وخارج النص، وهذا ما استأثر باهتمام النظرية الماركسية للأدب، وثانيا، بالشيء الذي يقيم معه النص هذه العلاقة: هل هو التاريخ كمعطى مادي وكواقع خارج نصي وكخلفية للنص كما ذهب إلى ذلك المنهج التاريخي التقليدي، أم أن التاريخ هو كذلك نص كباقي النصوص، كما يؤكد النصيون والتفكيكيون، الذين يؤمنون بأنه لا يوجد شيء خارج النص؟ إذا كان من الضروري، في سياق النظريات الحديثة، أرخنة النص وتنصيص التاريخ، فإن السؤال الثالث يتعلق بضرورة خلق تصور جديد لعلاقة النص بالتاريخ بعيدا عن نموذج المحاكاة والترميز والتخييل. إن موضعة النص في التاريخ وفي سياق الصراعات الفاعلة في المجتمع يجعل منه خطابا كباقي الخطابات، وهو بذلك ليس انعكاسا لسياقاته، بل تعبيرا جماليا عن وجهة نظر جماعية وفق مصالح خاصة تروج لطريقة تفكير معينة. ويحدد التاريخ موضوع الأدب/الخطاب، لكن الأدب يتوفر على قوة فعل خطابية تؤثر في الواقع التاريخي. فالعلاقة بين الأدب والتاريخ هي، إذن، علاقة تأثير متبادل. لقد حاولت التاريخانية الجديدة، التي ظهرت في الولاياتالمتحدة، ويعتبر غرينبلات أحد روادها البارزين، الجواب عن السؤال الثالث وتبيان آثاره على نظرية الأدب. وذلك بالتأكيد على بعض المبادئ الأساسية، ومنها أن النص الأدبي هو نص كباقي النصوص، له دوافع وأهداف ولا يعبر بالضرورة عن طاقة إبداع فردية، بل يتوفر على طاقة اجتماعية، فالنص الأدبي هو إنتاج ثقافي أنتجته أكثر من ذات واعية لأن العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية في مجتمع معين هي التي تحدد في الأصل الأدب الذي ينتجه هذا المجتمع. وتنتشر هذه العوامل في المجتمع عبر الطاقة الاجتماعية، التي توجد مشفرة في الأعمال الأدبية الكبرى، والتي تتعدى إطارها التاريخي وتصبح وسيلة لتمثيل إيديولوجية الثقافة عبر النصوص. ويعتبر كل عمل أدبي نتاجا لتفاوض، حسب غرينبلات، بين المبدع أو طبقة للمبدعين تتوفر على مجموعة مشتركة من المواضعات، ومؤسسات وممارسات المجتمع؛ ويؤدي هذا التفاوض في نهاية المطاف إلى تبادل عبر تعديلات للنظام الجمالي الذي يحكم النص، ويحقق عائدا يقاس بمقياسي المتعة والمصلحة. ومادام مفهوم التاريخ قد تغير من كونه واقعا ماديا ومعطى إلى كونه نصا - مادام الرجوع للتاريخ لا يتم إلا عبر اللغة- فإن تصور علاقة النص الأدبي بالتاريخ لن يتم بالمفاهيم الإجرائية الكلاسيكية، رغم أهميتها المعرفية، كالمحاكاة والتمثيل، بل يجب نحت مفاهيم جديدة تبرز هذه العلاقة من منظور التاريخانية الجديدة والقائمة على تحول المادة التاريخية والثقافية من حقل خطابي لآخر لتصبح خاصية جمالية في النص الأدبي. ويحدد غرينبلات طرق التبادل بين النص الأدبي والخطابات الأخرى في بعض العناصر الأساسية، منها الاستيلاء والتخصيص والكسب الرمزي. كما أن التبادل يتم بطريقة تفاعلية لأن النص الأدبي يدخل في تفاوض مع الخطابات الأخرى يتحدد من خلاله ما يمكن للنص الأدبي أن يعرضه من قضايا وطرق عرضها والوسائل الجمالية التي يوظفها لهذا الغرض، والمصالح التي سيدافع عنها. تؤدي نتائج هذا التفاوض إلى تموقع للنص إزاء السلطة بكل أبعادها، وبالتالي تتحدد المسافة التي تفصل النص الأدبي عن السلطة والثقافة المهيمنة. ومن بين الوسائل الإجرائية والمنهجية التي تستعملها التاريخانية الجديدة البحث في الوثائق والنصوص بمختلف أنواعها، التي تنتمي إلى نفس الفترة التاريخية للنص الأدبي لضبط صيغ التبادل وتحول المادة الثقافية والتاريخية إلى خاصية جمالية، وأثر ذلك في الواقع التاريخي لتلك الفترة التاريخية. وقد استعمل غرينبلات هذه المقاربة لتحليل مسرحيات شكسبير وأسرد مثالا معبرا عن العلاقة الدينامية بين النص الأدبي والتاريخ، وذلك بتحليله للأثر التاريخي والثقافي والسياسي لمسرحية شكسبير «ريتشارد الثاني» من خلال وثائق تاريخية. تحكي المسرحية التي كتبها شكسبير سنة 1595 قصة الملك ريتشارد الثاني - وهو شخصية تاريخية حكمت أنجلترا ما بين 1377 و1399- الذي ارتكب عدة أخطاء في الحكم، وتمت الإطاحة به وسجنه ثم قتله. وبعد عرض المسرحية استغل بعض المعارضين للملكة إليزابيث الأولى موضوع المسرحية لإقامة مقارنة بين الملكة المسنة، التي لم يكن لها أولاد يضمنون استمرار سلالتها في الحكم، والملك ريتشارد الثاني. وقد انتبهت الملكة إلى هذا التوظيف السياسي للمسرحية، التي تم عرضها 40 مرة في الشوارع والمحلات الخاصة. وقد قامت الملكة بسحق المعارضة وسجن زعيمها روبرت ديفرو. وتؤكد بعض الوثائق التاريخية صحة هذا الربط في أذهان الناس بين ضعف الملك ريتشارد والملكة إليزابيث واستغلال المعارضة لذلك وإدراك الملكة للأبعاد السياسية للمسرحية، غير أن تأويل المسرحية آنذاك لم يكن مجمعا على هذا المنحى في التفسير، فقد اعتبر مستشار الملكة وحافظ وثائقها وليام لامبارد أن نص شكسبير صوَر الإطاحة بالملك وسجنه وقتله كانتهاك للحرمات بدليل الفوضى التي تلت تلك الأحداث. لكن الملكة خالفته الرأي، واعتبرت حكاية المسرحية تلميحا لوضعها كملكة مسنة، بدون أولاد، وضعيفة، وقامت بالتدخل للدفاع عن سلطتها. وتمثل هذه الحكاية الأثر المتبادل بين النص الأدبي والتاريخ، وتعرض بذكاء وجهتي نظر مختلفتين : نظرة تاريخية تقليدية تعتبر أن التاريخ هو الذي يؤثر في النص الأدبي، وأن هذا الأخير يعكس ما هو سائد ويؤيده.. ونظرة تاريخانية تؤكد على الدور الفعال للنص الأدبي في التأثير على التاريخ وأحداثه وصراعاته. يؤكد تاريخ الأدب على هذا الدور عبر حكايات من هذا القبيل، حيث يلعب النص دورا تحريضيا، تنويريا ومحررا. غير أن هناك الكثير من النصوص، بما فيها الأعمال الكبرى لكتاب كبار، أثرت في الواقع التاريخي بطريقة مغايرة، وذلك بمساندتها للثقافة والسلطة المهيمنة. في الأخير لا بد من ذكر بعض المؤاخذات على التاريخانية الجديدة، كما أسس لها غرينبلات وغيره من الباحثين، نذكر منها الطابع المتشائم لهذه الممارسة النقدية، التي تعتبر السلطة المهيمنة قدرا صعب التجاوز، وتقليلها من شأن المقاومة الفردية، الأمر الذي يستوجب تعديل بعض مقولاتها لإعادة الاعتبار للإرادة والمبادرة والإبداع الفردي، الذي ليس دائما إعادة إنتاج للثقافة السائدة ولممارسات السلطة المهيمنة. أستاذ الأدب الإنجليزي