فريد بلكاهية أحد أعمدة الفن التشكيلي المغربي، تخرج على يديه عدد كبير من الفنانين المغاربة. تجربته فريدة من نوعها، وتعتبر من التجارب الرائدة على المستويين العربي والإفريقي، وصل صيتها إلى الأوساط الفنية العالمية، لما قدمته من أسئلة جوهرية عميقة، انطلاقا مما هو محلي نحو ما هو عالمي، حيث سجل بحضوره وإنتاجاته الغزيرة نقطة تحول بين التقليد والتجديد في فترة مبكرة من التاريخ التشكيلي المغربي، بخصوصيات نوعية استرجعت القيمة الجمالية والإبداعية المغربية من منظور مغاير، كرد فعل على الأنماط التقليدية الفنية التي كرسها الاستعمار، فكان انخراطه في حرقة السؤال ضمن طاقم مجلة "أنفاس" من بين النضالات التي خاضها، دفاعا عن مشروع جمالي مستقبلي بمواصفات بديلة وحقيقية، دافع عنها باستماتة وإرادة إبداعية، نابعة من إيمانه بضرورة الوعي البصري، وما له من تأثير في مناهضة الرداءة والقبح بجميع أشكالهما في الحياة اليومية، في اللباس والعمران والنظافة والتهذيب...وأعطى للتحفة الفنية قيمتها الرمزية والمادية، جاعلا من تجربته نموذجا ومدخلا حقيقيا لمفهوم التشكيل. موليم العروسي كنت ماركسيا متشددا.. وأجد غرابة فيما يبدعه بلكاهية تعرفت على فريد بلكاهية نهاية سنة 1975، لم أكن قد حصلت على الباكالوريا بعد. كان يسكن وقتها بمدار شيميكلور حيث كان يشتغل أيضا. تعرفت عليه بينما كان المغرب يستعد لاحتضان معرض السنتين العربي الثاني (البينالي العربي)، على أن الأول كان قد أقيم ببغداد سنتين قبل ذلك. لم يكن بلكاهية متفقا على التنظيم ولا على طريقة تعامل الوزارة مع الفنانين، لذا قرر عدم المشاركة. كنا نقضي أياما بمحترفه نتحدث عن أمور سياسية أكثر منها فنية. لم يكن بلكاهية في البداية صديقا لي، كما لم نكن على اتفاق تام من ناحية المبادئ السياسية. كنت صديقا للسيدة الفرنسة التي كان يعيش معها آنذاك، والتي كانت تعيش في شقة في الطابق الموالي للطابق الثاني حيث كان يسكن هو. تطورت نقاشاتنا، وخصوصا خلافاتنا، وتحولت علاقتنا مع الزمن إلى صداقة. كان يعتبرني أحد أفراد عائلته أو قل أحد إخوته الصغار، لذا كان لا يتردد في إسداء النصح لي في أمور الفن والدنيا. كنت ماركسيا متشددا، لذا لم أكن أنصت كثيرا لما يقوله على المستوى الإيديولوجي، لكنني كنت دائما أجد غرابة فيما يبدعه، وأتساءل عن أهمية كل هذا بالنسبة لهموم الجماهير. كنت أستمع إلى دفاعه عن الهوية البصرية ودفاعه المستميت عن خصوصية الفن المغربي، لكنني كنت أعتبر أن كل هذا الكلام لا معنى له، إذ ليست هناك خصوصية في الكون، وإنما هناك نظام بيولوجي واحد تنتظم فيه كل الكائنات، ونظام اقتصادي واحد يجب أن يتحقق وتتحقق معه المساواة في كل شيء، حتى في الذوق الفني. كان بلكاهية حينها يشتغل على النحاس. كنت تعرفت على تجربة «أنفاس» بواسطة أساتذتي في الثانوي، وكنت اطلعت على بعض الأعداد من مجلة «أنتكرال». كنت أحسني أقرب إلى تجربة «أنفاس»، لأنها تطورت في ذلك الزمان إلى تجربة سياسية كانت تهمني أكثر من تجربة الرافضين لانزياح «أنفاس» عن خطها الثقافي والفني، والذين أسسوا «أنتكرال». لم تكن لي علاقة في ذلك الزمان بالفن أو الكتابة عن الفن. كنت أنصت إلى بلكاهية، بل أناقشه بشراسة في الأمور السياسية. كانت هناك محاكمات اليسار الشهيرة: مجموعة عبد اللطيف اللعبي قبل أن يلتحق بها السرفاتي. كنت حينها في خلية مع كريستين السرفاتي، التي حضرت مرة أو مرتين لقاءاتنا مع فريد بلكاهية دون أن يكون لذلك طابع نضالي أو سياسي. لم أكن أعرف أنني سوف أهتم في يوم ما بأمور الفن. كان فريد يتحول وقتها من النحاس إلى الجلد، وكان يتردد كثيرا على مراكش لأنه كان يبني منزله الذي توفي به الخميس الماضي. ورغم سجالاتنا السياسية فإن العلاقة مع كناوة كانت تجمعنا وكأننا في زاوية صوفية. كنت أعرف كناوة من تجربة الطفولة والمراهقة بمدينة الجديدة، وكان هو يتوفر على تسجيلات فريدة لكناوة مراكش. كنا نستمع إلى هذه الموسيقى دون توقف. وساعدت هذه الموسيقى في تقريب وجهات نظرنا حول شيء أساسي كنت أرفضه في الظاهر، ألا وهو بعض خصوصيات التعبير الفني للمجموعات البشرية مهما تشابهت ومهما تطابقت. هذا التقارب جعلني في مرات عديدة أستمع إلى تجربته الدراسية، التي قادته من باريس إلى براغ، وكيف اشتغل على ديكور ولباس المسرح بإحدى أعرق المدن العالمية في هذا المجال، وكيف تحول بعدها إلى إيطاليا واقترب من تيارات الفن الفقير (Arte povéra)، وكيف عمق نظرته للفن وأعاد النظر مبكرا في هوية الفن الغربي. كما كنت أستمع إلى تجربته على رأس مدرسة الفنون الجميلة بالدارالبيضاء، وكيف كانت لامبالاة المسؤولين الإداريين تحول المدرسة شيئا فشيئا إلى لاشيء بعدما كانت قد لعبت دورا أساسيا في تحريك الفن بالمغرب بعيد الاستقلال. لم أكن أتوقع أن هذه الأمور سوف تكون محور اهتمامي، ولا كيف سأصبح في يوم من الأيام مسؤولا عن مدرسة الفنون الجميلة بالدارالبيضاء، وكيف أن ما سمعته منه سوف يفيدني في علاقاتي مع الساهرين إداريا على هذه المؤسسة. في بيت فريد تعرفت على عدد كبير من الناس، منهم الفنان والمعماري والإنسان العادي والكاتب والناقد...تعرفت على محمد المليحي وزوجته طوني مرايني ومصطفى النيسابوري...وسرت أدخل عالم الفن بطريقة سلسة: بالنقاش والسجال قبل أن يتحول ذلك إلى البحث والدراسة، خصوصا أنني تحولت شيئا فشيئا من الاهتمام بالموسيقى والشعر الصوفيين إلى الاهتمام بالصورة. كنت أتقدم في دراستي الفلسفية بالجامعة، ومعها تتطور أسئلتي، قبل أن أحط الرحال بعلم الجمال، انطلاقا من السنة الرابعة في تكويني الجامعي. هذه الشهادة، إذن، اعتراف بالجميل الذي أسداه لي فريد بلكاهية. لقد كان لنقاشاتنا وسجالاتنا دور كبير في تكويني. لا أدري إن كانت أفكاري اليسارية المتطرفة آنذاك قد أثرت عليه أو حولت اتجاهه الفني، لكن حدث ما يمكن أن أسميه تبادل الأسلحة. لقد كنت أفاجأ عندما أجدني أستعير أسلحته الفنية في كثير من الحالات لأنفذ إلى مستغلقات المفاهيم الفلسفية. تطورت بعدها علاقاتنا إلى نقاش فني جمالي دون أن تسقط عنه تلك النزعة الصدامية، التي كانت دائما تميز فريد بلكاهية عن غيره من مجايليه. لم يكن ملتزما سياسيا بالمعنى الذي يمكن أن نصف به مناضلا ما، ولكنه كان ملتزما بقضايا الشعوب ضد الظلم والقهر والميز العنصري. كان من مناضلي العالم الثالث على المستوى الفني. كان يؤمن بقدرة أفريقيا على قيادة العالم في يوم ما، لذا لم يلتفت أبدا في عمله الفني إلى غير التربة الأفريقية الأمازيغية، إن على مستوى المواد أو الرموز. أعتبره مدرسة خاصة في الفن التشكيلي المغربي، ففضلا عن كونه المؤسس الأول مع الجيلالي الغرباوي للحداثة الفنية المغربية، فقد حمل مشعل الهوية البصرية المغربية ودافع عنها ما يقارب الخمسين سنة. بنيونس عميروش وداعا.. دينصور التشكيل المغربي المعاصر في المعرض الدولي الكبير «الحداثة بصيغة الجمع»، الذي نظمه متحف جورج بومبيدو في السنة الفارطة (أكتوبر 2013)، تمثل الحضور المغربي والإفريقي بجدارة من خلال عمل الفنان فريد بلكاهية الموسوم ب»تكريما لغاستون باشلار»، وهو العمل الذي اقتناه المتحف الوطني للفن الحديث المعروف بمتحف جورج بومبيدو. وبصدد إدراج عمله ضمن أحد أبرز المتاحف العالمية، أكد بلكاهية على أهمية تمثيلية الضفة الجنوبية للمتوسط، التي تتميز بخصوصيتها الثقافية في متاحف من هذا الحجم. لعل التركيز على الخصوصية الثقافية هو ما يشكل الخلفية الإبداعية المطبوعة بالوفاء المستدام للمُلوِّنات والمواد الطبيعية والمحلية عند بلكاهية، وهو ما يبرر انزياحه عن أنماط التعبئة، لقناعته بجدوى «التقليد»، وبضرورة «تَمثُّل القيم العتيقة لبلوغ إدراك الحداثة». فمنذ 1962، تاريخ تَوَلِّيه إدارة مدرسة الدارالبيضاء للفنون الجميلة (رفقة فريقه التربوي: محمد شبعة ومحمد المليحي والإيطالية طوني مارايني Toni Maraini والهولندي بيرت فلين Bert Flint، المتحمسون جميعا للفنون الشعبية والتراث)، عمل على خلق محترفات لتعليم الصناعات التقليدية: الفخار، الحلي، الزربية، الخشب المصبوغ... من أجل البحث عن إمكانات مستحدثة للفنون البصرية المغربية، ليتم القطع مع الفن الرسمي التشخيصي Figuratif في 1969، تزامنا مع المعرض الجماعي (البيان) في الفضاء الخارجي بساحة جامع الفناء بمراكش، «للتمكن من المواجهة بين عوالم فكرية لم تتح لها فرصة اللقاء أبدا» كما أعلن بلكاهية، الذي انتقل في هذه الحقبة من الأسناد الورقية إلى النحاس، الذي توَفَّق من خلاله في تحرير طاقته الحِرفية المقرونة بفعالية فيزيقية تنسجم مع أنماط تطويع المعدن بالقَطْع والطَّي والدَّعك والطَّرْق وتثبيته على القِطَع الخشبية المُصَمَّمة وفق بِنْيَة العمل. وبعد هيمنة السهم والدائرة والعلامات ذات البعد الصوفي (مرحلة براغ وتأثره ببول كلي في نهاية الخمسينيات)، برزت الخطوط اللولبية والحلزونية والأشكال الأنثوية الموصوفة بكرم شبقي. ليست الأنوثة وحدها الباقية في مُخطَّط بلكاهية التصويري، بل كان لابد من وضع هذه العُضوية الجَسَدانية ضمن مزاوجة تكاملية، تعمل على إيجاد توليف مجازي يؤلِّف بين الأنثوي والذُّكوري. في كل تجاربه الأصيلَة، تَجَرَّد بلكاهية من الإطارات التي تطبع شكل اللوحة الغربية الكلاسيكية. ومن ثمة، تجرد من التسطير والخطوط المستقيمة باعتبارها «خط الواجب»، ليرتبط ب»خط الجمال»، الذي يتجاوب مع المنحنيات والتموجات والانسيابية المدثرة بالحيوية والحركية. وبرؤيته المكثفة للجسد الإنساني في عُريِه الخَلقي، تتفاعل العناصر والتراكيب العُضوية لينبعث البعد الحسي ضمن حميمية شَكْلية ولونية ومادية، تدفع المتلقي لاستيعاب تلك الرمزية الجَسَدانِيَة المصحوبة بالروائح أيضا، رائحة الجلد والحناء التي تحيلنا على الطقوس، بقدر ما تحيلنا على المقدس والمدنس. ومن منظور آخر، فالجلد «باعتباره حداًّ فاصلا بين الطَّوية والبرّانية يغدو، حين يُنَظَّف، مدىً رمزيا، بحيث يصبح شارة وإشارة إلى الأمل. وما أن يتم تحريره من التعفن حتى يبعدنا عن الموت ويُبعد بصرنا عن استلاب الماضي» (رجاء بنشمسي). استنادا إلى غنى مساره الفني المُعانِد والمُمتد عبر عدة عقود، أكد ميشيل غوتييه Michel Gauthier، محافظ المتحف الوطني للفن الحديث بباريس، على أن عملية اقتناء عمل «تكريما لغاستون باشلار»، مُبَرَّرَة من خلال توقيع فريد بلكاهية، الذي «يعتبر من الفنانين التاريخيين للحداثة في المغرب وبشكل أوسع في شمال إفريقيا»، ومن خلال عمله الذي «يحمل دلالة تعددية»، ولذلك «يطمح معرض حداثة بصيغة الجمع إلى تثمينه»، يضيف محافظ المتحف. انسجاما مع روح بلكاهية المشدودة إلى استلهام الهوية القائمة على مباحثه التاريخية والحضارية، والتواقة إلى تحقيق رهاناته المتعلقة بالقيم الجمالية الكونية، لم يَدَّخِر جُهدا في تكريم الرموز العربية كابن بطوطة والشريف الإدريسي، إلى جانب الرموز الغربية كبول كلي وطابييس وغارودي وباشلار. وبنفس الروح المؤمنة بالتلاقي والتبادل، أصدر العديد من الكتب المشتركة مع العديد من الشعراء كأدونيس وصلاح ستيتة وعبد الوهاب مؤدب ورجاء بنشمسي وإتيل عدنان وجان كلارانس ونيكول دو بونتشارا. إن فريد بلكاهية دينصور التصوير المغربي (كما ينعته الفنان فؤاد بلامين) لم يكتشفه الجمهور العريض من المتنورين المغاربة، أو لم تتم إعادة اكتشافه بصورة أوضح وأليق، إلا مع مطلع الألفية الجديدة، بعد أن استضافه الصِّحَفي عمر سليم صاحب برنامج «شاهد كبير» Grand témoin ببلاطو القناة الثانية رفقة زوجته الكاتبة رجاء بنشمسي. في الصبيحة، وبعد مشاهدة البرنامج، عبر لي العديد من الأصدقاء الكتاب والمبدعين عن إعجابهم ودهشتهم: لم نكن نعرف أن لدينا تشكيليين بهذا الحجم، ولم نكن نعرف بلكاهية بكل هذه الهالة، وبكل هذا البذخ المعرفي والتواصلي...آنئذ قلت لهم: إذا أردتم أن تستمتعوا بحواراته وأفكاره، ابحثوا عنها في أشهر المجلات الفرنسية ك»جون أفريك»، وإذا أردتم الاطلاع على الكتابات التي أقيمت حول أعماله بأقلام أكبر نقاد الفن في أوروبا مثل بيير ريستاني P.Restany، فابحثوا عنها في كبريات الدوريات الفنية الدولية المتخصصة...فإذا كان بلكاهية (الأصل) يقيم بين ظهرانينا في مراكش، فإن عمله (الصورة) يقيم خارج الوطن. هي ذي النتيجة الملفوفة بالاغتراب، التي تتقَصَّدُها السياسة الإعلامية المرئية المتعلقة بالفنون التشكيلية في بلادنا. ابراهيم الحيسن بلكاهية وتجربة الجسد شكل رحيل الفنان المبدع فريد بلكاهية خسارة كبرى أصابت الجسد التشكيلي المغربي والعربي. وهو بلا شك من أميز التشكيليين الذين أعطوا للرمز بعدا كونيا يتجاوز الجغرافيا، حيث ظل يركز في جل قطعه التشكيلية على البعد الإثنوغرافي المميز للصناعات التقليدية الوطنية، واتخذها مصدرا استلهاميا يستقي منه علاماته ورموزه، لكن برؤية إبداعية راقية تعكس تمكنه من ناصية الخلق والإبداع.. وعلى خلفية جمالية لا تخلو من إغراء، برزت مجموعة من التجارب التشكيلية المغربية، التي كان لها سبق الممارسة، والتي قدَّمت الجسد في صور مختزلة ذات أبعاد إيروسية، تتقدَّمها تجربة الفنان الراحل بلكاهية الذي ظلت الأجساد تظهر في لوحاته في هيئة أشكال ملتوية ومتموِّجة وحرَّة عائمة في الفضاء متباعدة أحياناً..متلاحمة أحياناً أخرى على طريقة الذكر والأنثى يتم إنجازها على سنائد ورقية وصفائح معدنية وقطع جلدية خاضعة لتصاميم جغرافية ذات أبعاد كونية، ومنها اللوحات الدائرية التي تبدو -بتعبير الناقد جاك لينهارد- على أهبة الدوران والرحيل في اتجاه أعماق سماوية وكأنها عوالم سيارة في كواكب احتمالية. في أعمال الفنان بلكاهية تعبِّر النماذج المرسومة والمنحوتة عن البُعد الجنسي في قطعه الفنية، ومن ذلك الأشكال النافرة والعمودية التي تلتقي مع الأشكال الغائرة، على إيقاع توليفات ملتحمة تعكس نوعاً من الرمزية الجسدية في أعمال الفنان.. لقد شكل الجسد أساساً وحيداً في عمل فريد بلكاهية، ولكن أي جسد؟ وأي شيء من الجسد! كما في العديد من الأساطير والخرافات الطفولية هناك الجسد المجزأ، جسد حيث الأعضاء مركبة بالرسوم والأشكال المتقطعة كحالة الأقسام المستقلة. ففي هذه الحركية يكمن سِرُّ الرمزية ذات الأشكال المختلفة. وتبرز الشاعرة نيكولا دوبونتشارا (1986) بأن الرسم عند بلكاهية يجسِّد حالة من الغليان الشديد والمميز، حالة مشهودة تتغذى من طبيعة صلبة مستمدة من جغرافيا وتاريخ حيويين. فالفنان يبني أرضاً تصويرية أصيلة باحثاً عن السمات التي تتجلى في ذاته منذ نعومة أظافره، والتي يجعلها عاملاً في التجربة التشكيلية إلى حَدِّ التعبير لنفسه وللآخرين عن المعاناة وانبهار الذات. قدَّم الفنان بلكاهية الجسد، رمزيا ورامزا، ضمن تصويرية متقدمة من الوجهة التقنية ذات أمداء تعبيرية متصلة بكشف أعضاء الجسد..جسد المرأة في الغالب الذي يُصَوِّره الفنان ويُؤَسِّرُهُ وفق تكوينات تشكيلية يلتحم فيها الجلد والخشب والنحاس لتبدو مليئة بالرموز الإيروسية، وفيها ينصهر الموضوع (الجسد الأنثوي) مع الخلفية Fond، وتذوب الملامح مع بعضها البعض..لا شيء يكشف عن هويتها غير الانحناءات والخطوط المتموِّجة التي اشتهر بلكاهية بتوقيعها على قماشاته، لاسيما منها المتضمِّنة أجساداً ليِّنة مندمجة داخل مساحات حرَّة، أو المشتملة على أطياف بشرية ترسم المجاز البلاغي للجسد في حدود عريه وفطريته، بمعنى من المعاني.. عبد الكريم الغطاس بلكاهية هرم تشكيلي كان لقائي مع فريد بلكاهية سنة 1964، كطالب بمدرسة الفنون الجميلة، التي كانت تجمع بين عدد من الطلبة من أبناء البيروقراطيين والأغنياء والأجانب، بحضور عدد من الأساتذة، منهم المليحي، شبعة، حميدي، حفيظ، جاك أزيما، وفلينت... وعند تعيينه مديرا بهذه المدرسة سنة 1962، حاول تغيير مناهج التدريس الأكاديمية بها، استنادا إلى خبرته وممارسته البيداغوجية، واستطاع بهذه المجموعة من هيئة التدريس، التي ذكرتها سالفا، أن يخلق منهجا حديثا في التعامل مع طريقة التلقين بهذه المدرسة، بما أنها كانت خاضعة للنمط الفرنسي آنذاك، فقام بإعادة النظر في الموروث الثقافي المغربي ليحفز الطلبة، الذين كان من بينهم عبد الله الحريري، حسين الميلودي، المرحوم إبراهيم صدوق... على الاهتمام بالزربية و»الهردال» المغربيين وما يحتويان عليه من رموز ودلالات مرجعية مرتبطة بالثقافة المغربية، استنادا إلى تكوينهما الشكلي واللوني، مما دفع الفنان الراحل محمد شبعة إلى تحفيزنا على الفنون الكرافيكية لاستيعاب هذه الأشكال من منطلقات نابعة من عمق الثقافة المغربية، من خلال الحروف المتداولة وإعادة صياغة تناولها من منظور فني يرقى إلى طرح أسئلة تاريخية حول الهوية المغربية بكل تجلياتها المرتبطة بالعادات والتقاليد، وحضورها في المعيش اليومي كبصمة متوارثة، نتجت عن تسلسل كرونولوجي له صبغة وظيفية، وكيفية تحويلها أو الاشتغال عليها كمادة خصبة لبناء حوار حضاري نابع من التربة المغربية، حيث كان لوجود طلبة من الأحياء العتيقة مؤشر حقيقي على التشبث بفكرة الاشتغال على مثل هذه المواضيع المرتبطة بالهوية المغربية في بعدها الوجودي. ولن أنسى أن فريد بلكاهية ساعد الكثير من الطلبة المغاربة، من خلال رسائل تزكية لقبولنا بمدرسة الفنون بباريس، حيث كنت مستفيدا من هذه التزكية، إلى جانب كل من زملائي الطلبة، من بينهم الزكاني ورحول وأسماء أخرى باختلاف توجهاتها الفنية. غير أن مغادرة فريد بلكاهية مدرسة الفنون الجميلة بالدارالبيضاء تركت أثرا نفسيا أكثر منه حضوريا، لكونه عمل على إرساء القواعد والمناهج التلقينية قبل مغادرته، ليسلم مشعل الاستمرارية إلى كل أسماء الطلبة الذين ذكرتهم، إضافة إلى الفنان الغطاس، كجيل التحق بالتدريس بنفس المدرسة بعد دخوله من أوروبا سنة 1612. بالإضافة إلى هذا، لا زلت أتذكر بأن فريد بلكاهية كلفني وشرفني بإنجاز ملصق للبينالي العربي بالجزائر، وحظي بالقبول، بعدها اقترح علي، كفنان شاب، أن أصاحب الأعمال التشكيلية المعروضة بالجزائر لعدد من الفنانين كالشعيبية، شبعة، كريم بناني والمليحي... لم تقف مساعدته عند هذا الحد، بل سلمني بيته الذي كان يقطن به بالدارالبيضاء، الذي لا زلت أعيش به إلى حد الآن. أما فيما يخص تجربة بلكاهية، الذي أعتبره هرما تشكيليا، فلا يمكن لي الحديث عنها، لما تتوفر عليه من قوة فنية تتجاوز حدود تعبيري عنها، رغم شهرتي وحضوري في الساحة التشكيلية المغربية، بل تحتاج إلى نقاد ومختصين في المجال لتفكيكها وفهم محتوياتها ودلالاتها العارفة بمجال التشكيل على المستوى التنظيري. بلكاهية: أنا فنان يحاول الاقتراب من جوهر الإنسان.. ولست ثوريا ولا مناضلا قال إنه يحترم اليد البدائية التي لم يدخل عليها الذكاء [[{"type":"media","view_mode":"media_large","fid":"13538","attributes":{"alt":"","class":"media-image","height":"215","typeof":"foaf:Image","width":"480"}}]] حاوره - ياسين عدنان منذ معرضه الأول بفندق المامونية بمراكش سنة 1953 أعلن فريد بلكاهية عن موهبة لا غبار عليها، موهبة ستصقل بباريس وبراغ، قبل أن يعود إلى الدارالبيضاء، التي صار مديراً لمدرسة الفنون الجميلة بها منذ 1962. فريد بلكاهية سيؤسس في تلك الفترة رفقة محمد المليحي وعبد اللطيف اللعبي والطاهر بن جلون وعبد الكبير الخطيبي تجربة "أنفاس"، التي كرست صداقة عميقة بين الشعر والتشكيل. هذا الفنان الذي يرسم بروح الشاعر ومهارة الصانع التقليدي رسخ لنفسه حضوراً متميزاً على الصعيد العالمي، وأعماله تعرض اليوم في أهم المتاحف العالمية. أما سبب الحظوة التي نالها فيعود إلى ارتباطه الوثيق بجذوره الثقافية، وكذا اختياره الاشتغال على المواد غير الصباغية واستخدام الملونات والأكاسيد الطبيعية. - لماذا هجرت القماشة إلى الجلد والنحاس؟ هجرت القماشة مبكراً، وبالضبط سنة 1969. ومنذ ذلك الحين جربت الاشتغال على الورق. هل تعرف أن العرب هم الذين زودوا أوروبا بالورق أول مرة منذ قرون. في مدينة فاس المغربية كانت هناك أوراش لصناعة الورق، واليوم اختفى كل ذلك. وحدها مصر مازالت تصنع ورق البردي. وأنا الآن أشتغل في هذا الإطار، ومستقبلا سأعود إلى الورق لأستأنف الرسم عليه، لكنه سيكون ورقاً خاصاً من صنع يدي. - وبعد الورق جاء دور رقائق النحاس والفرو المدبوغ. هذا صحيح. بدأت الاشتغال على مادة النحاس المُصنَّع يدوياً سنة 1973. أحسست بأنني في حاجة إلى التعاطي مع مادة جديدة. كنت أغطي لوحاتي الخشبية بالنحاس المطروق أو المدعوك أو المُطوَّع. وطبعاً النحاس كخامة طبيعية يفرض عليك متطلبات خاصة، إذ لا يمكنني أن ألونه مثلاً بصباغة زيتية هي في الأصل مادة كيماوية. - ومع بداية الألفية الجديدة تحولت إلى الجلد؟ الجلد بالنسبة لي مادة غنية ذات رمزية قوية. أعرف أنه في حد ذاته شيء قذر ومليء بالجراثيم. لكنني أعالجه بطريقتي. أتركه يجف تحت الشمس وبعد ذلك أنظفه بالجبس فيتحول إلى مادة نبيلة. إنه مادة مقدسة محملة بالأساطير. للجلد أيضا علاقة بالحياة، أقصد بالموت. الجلد الذي أشتغل عليه هو لكائنات ماتت، مما يعطي لعملي رمزية إضافية. ليس هناك ما هو أكثر إثارة بالنسبة للتشكيلي من الاشتغال على مادة لها روائح. - طبعا تركيباتك اللونية الطبيعية تفتحك على المزيد من الروائح. أفكر هنا بالحناء على وجه الخصوص. في طفولتنا، كانت الأمهات والقريبات والجارات يحملننا على ظهورهن. وكثيراً ما كنت أنام مربوطا إلى ظهورهن ورائحة الحناء التي يلطخن بها شعورهن في أنفي. لذا استأنست بهذه الرائحة منذ طفولتي. وربما نداء رائحة الطفولة هذا هو ما قادني إلى الحناء. أيضا للحناء تاريخ يمتد إلى أكثر من عشرة آلاف سنة. كانت معروفة عند الفراعنة وعند الهنود بأمريكا اللاتينية. أما أجدادنا فكانوا يستعملونها كدواء. كانوا يضعونها على جراحهم فتلتئم، وكانوا يشربونها مغلية لمداواة المعدة. لكن الحناء ليست سوى واحدة من الملونات الطبيعية التي استبدلتُ بها الحموض والأصباغ الكيماوية، حيث أستعمل أيضا الزعفران والصمغ والحديدة الزرقاء والكحول المُستقطرة من الخشب. - باختيارك الخامات والملونات الطبيعية هل كنت تبحث عن أصالة ما لعملك التشكيلي؟ قد يكون هذا صحيحاً إذا اعتبرنا أن أصالة اللوحة تكمن أولا في قدرتها على الارتباط الفني الراقي بالذاكرة الثقافية وتفجير مخزوناتها، لكن ليس في الشعارات الفارغة التي يرددها بعض التشكيليين العرب عن الهوية. - هل هذا يعني أنك لا تؤمن بوجود هوية تشكيلية عربية؟ الحمد لله، لست مُصاباً بداء الهوية. ما يعنيني هو الإنسان. أحاول الاقتراب من جوهر الإنسان في أعمالي التشكيلية. أحاول القبض على هذا الكائن في مختلف حالاته الروحية بمنظور معاصر طبعاً وبرؤية ذاتية جداً، أي من موقعي كفنان يعيش فوق هذه الأرض. أما التفاصيل الأخرى التي تصنع الهويات الضيقة فهي لا تعنيني. - لكن العديد من النقاد، خصوصا الأجانب، يعتبرون منجزك التشكيلي من أهم الإنجازات العربية المرتبطة بجذورها الثقافية؟ لسنا مختلفين. أنا أيضاً متفق على هذا الكلام. فقط الارتباط بالذاكرة يتم في حالتي عبر أعمال تشكيلية وليس عبر شعارات فضفاضة. طبعاً أنا أيضا أحب ثقافتي العربية الإسلامية، لكن لدي كمبدع حي ومتوتر تناقضات مع ذاتي ومع هذه الثقافة التي أنتمي إليها. لذا حينما أحتضنها أو أدخل في جدل معها فإنني أفعل ذلك عبر التشكيل وليس عبر الخطابات الطنانة والشعارات الفارغة من المعنى. فأنا لست ملتزماً ولا ثورياً ولا مناضلاً طليعياً، أنا فنان أحاول الالتزام مع لوحتي بالفعل لا بالكلام، بمهارة اليد لا بثرثرة اللسان. - لكن ما العيب في أن يعلن الفنان عن ارتباطه بثقافته ووجدان أمته؟ العيب هو أن ذلك يبعده عن جوهر الفن ليجد نفسه متورطا في فخ الدعاية وضحية للأوهام. خذ مثلاً حكاية الخط العربي. هذا كله كلام فارغ. المفروض أن نخجل منه. هل رأيت مرة في حياتك فناناً يهودياً يكتب بالعبرية ويقول: هذا فن خاص بنا نحن معشر اليهود؟ أيضاً لماذا لا يقوم اليابانيون والصينيون واليونان مثلا بتشكيل لوحات من أبجدية لغاتهم ويقيمون لها المعارض والتظاهرات؟ ليسوا سُذجاً مثلنا لتختلط عليهم الأمور مثلما اختلطت علينا. كل شعوب الأرض تعرف أن الخط خط مهما كان جميلاً، أما الإبداع التشكيلي فهو فعلاً شيء آخر. لكن ماذا تفعل لدعاة الهوية عندنا. لقد طبلوا لحكاية الخط العربي واعتبروه فنا عبقرياً يميزنا عن باقي العالمين. هذه أمور مضحكة صدقني. - والإطار ماهي مشكلتك معه؟ هل الرغبة فقط في الانزياح عن الشكل الكلاسيكي للوحة هي ما جعلك ترفض تأطير لوحتك؟ هذه أيضا تجربة انخرطت فيها منذ ما يقترب الآن من ثلاثة عقود. أحيانا أشتغل داخل إطارات دائرية أو مثلثية أو سهمية أو هرمية، وأحيانا أخرى أفتح اللوحة على اللامربع واللامستطيل، إضافة إلى الأشكال الفضائية. بودي لو أبدعت أعمالا لا يحدها إطار، أعمالا تسبح هكذا حرةً في الفضاء. - هذا عن الشكل، فماذا عن المضمون؟ أنت دائما تشتغل على موضوعات محددة أو لنقل على رموز وأقانيم كاليد مثلا؟ ربما لأنني أعمل بيدي ولا ألغي قوة اليد الضاربة فيما أبدع من أعمال. الكثير من الفنانين يتحدثون عن الإلهام ويقدمون أنفسهم كعباقرة. لكنني لا أفكر بنفس الطريقة. أنا مجرد عامل أشتغل في ورشتي يومياًَ ساعات طويلة. مثلي مثل الصناع التقليديين، الذين يزاولون العديد من المهن اليدوية النبيلة، التي يحتقرها المثقفون مع الأسف. أنا بالمناسبة أحترم كثيراً اليد البدائية التي لم يدخل عليها الذكاء. ذكاء الإنسان يوجد في المجرد، لكن هذا المجرد لا يتحقق إلا عبر ملَكَة اليد. اليد طاقة حرة وتلقائية خلاقة. لذا حرصت على تكريمها في الكثير من لوحاتي. - في أعمالك الأخيرة اشتغلت أساساً على الجسد بنوع من الإيروتيكية. نهود معلقة على أجساد ميتة، أو على اللاجسد. أسهُم. مثلثات شبقية. رؤوس أفاع. أشكال تحيل على أجزاء حساسة من الجسد. هناك نوع من البلاغة الإيروسية في هذه الأعمال. فما مصدرها؟ مصدرها قصائد الملحون. فهذا الشعر الشعبي المغربي الراقي جدا والأنيق هو الذي استدرجني إلى هذا العالم، خصوصاً قصائد الغزل الصريح، حيث وصف شيوخ الملحون جسد المرأة بإيروتيكية فاضحة وجميلة جداً، وتغنوا بجمالها الحسي الجسدي بشكل صريح. اشتغالي على هذا الجانب في قصيدة الملحون في معارضي الأخيرة جاء بهدف التأكيد على أن الحرية أصيلة في ثقافتنا على عكس ما يدعي المتزمتون من أعداء الحياة. وأنا حينما ألتجئ إلى هذا الموروث فلكي أحييه وأحاجج به من يريدون قتل المرأة وإلغاء فتنتها الطبيعية والضرورية لكي تحافظ الحياة على بهجتها. لكن هذا لا يعني أن لوحاتي بورنوغرافية كما يتهمني البعض. على العكس، أنا حريص على أن أقترح أفكاري الإيروتيكية عبر جسد متشظ. كما أن الجسد في لوحاتي تجريدي دائماً. - مع نهاية هذا الحوار دعني أعود بك إلى مغامرة لافتة أقدمت عليها سنة 1968 حينما نظمت معرضاً في ساحة جامع الفنا بمراكش. لماذا لم تتواصل هذه التجربة، التي جعلت الفن التشكيلي يغادر الفنادق والصالات الراقية ليلتحم بالناس؟ هذه التجربة كان لها سياقها التاريخي والسياسي الخاص، حيث نظم وزير الثقافة المغربي آنذاك المرحوم محمد الفاسي «معرض الربيع للفن التشكيلي» عند مدخل بلدية مراكش. وهناك في المدخل كان يجثم مدفعان يبثان الرعب في قلوب الناس. طبعا كان من المستحيل بالنسبة لي أن أعرض في هذه الظروف. لذا رفضت المشاركة ونظمت معرض جامع الفنا، الذي شارك معي فيه أربعة فنانين آخرين. طبعاً هذه المبادرة لم تكن ضد الصالون كما يعتقد البعض، بل فقط ضد بناية فاشستية يربض أمامها مدفعان، وكان هناك من أراد توريطنا بالعرض فيها.