هذاحوار قديم سبق لي أن أجريته مع الراحل فريد بلكاهية. زرته حينها في مرسمه. وقضيت معه يوما كاملا. فنان كبير. واستثنائي. رحمه الله. بهاته الكلمات قدم ياسين عدنان على صفحته في الفيسبوك لقاءا سابقا له مع الراحل الكبير فريد بلكاهية نعيد نشره هنا بعد الاستئذان من ذاكرة راحلنا الكبير، وبعد الإذن الجميل من الزميل والصديق ياسين عدنان تقديم الحوار: منذ معرضه الأول بفندق المامونية بمراكش سنة 1953 أعلن فريد بلكاهية عن موهبة لا غبار عليها، موهبة ستصقل بباريس وبراغ قبل أن يعود بلكاهية إلى الدارالبيضاء التي صار مديراً لمدرسة الفنون الجميلة بها منذ 1962. فريد بلكاهية سيؤسس في تلك الفترة رفقة محمد المليحي وعبد اللطيف اللعبي والطاهر بن جلون وعبد الكبير الخطيبي تجربة "أنفاس" التي كرست صداقة عميقة بين الشعر والتشكيل. هذا الفنان الذي يرسم بروح الشاعر ومهارة الصانع التقليدي رسخ لنفسه حضوراً متميزاً على الصعيد العالمي وأعماله تعرض اليوم في أهم المتاحف العالمية. أما سبب الحظوة التي نالها فيعود إلى ارتباطه الوثيق بجذوره الثقافية وكذا اختياره الاشتغال على المواد غير الصباغية واستخدام الملونات والأكاسيد الطبيعية. من هذه النقطة بالذات بدأنا الحوار مع فريد بلكاهية حيث سألناه عن الجلد والنحاس، لماذا هجر القماشة إليهما؟ فكان جوابه كالتالي: - هجرت القماشة مبكراً، وبالضبط سنة 1969. ومنذ ذلك الحين جربت الاشتغال على الورق. هل تعرف أن العرب هم الذين زودوا أوروبا بالورق أول مرة منذ قرون. في مدينة فاس المغربية كانت هناك أوراش لصناعة الورق, واليوم اختفى كل ذلك. وحدها مصر مازالت تصنع ورق البردي. وأنا الآن أشتغل في هذا الإطار، ومستقبلا سأعود إلى الورق لأستأنف الرسم عليه، لكنه سيكون ورقاً خاصاً من صنع يدي. - وبعد الورق، جاء دور رقائق النحاس والفرو المدبوغ؟ - هذا صحيح. بدأت الاشتغال على مادة النحاس المُصنَّع يدوياً سنة 1973. أحسست بأنني في حاجة إلى التعاطي مع مادة جديدة. كنت أغطي لوحاتي الخشبية بالنحاس المطروق أو المدعوك أو المُطوَّع. وطبعاً النحاس كخامة طبيعية يفرض عليك متطلبات خاصة، إذ لا يمكنني أن ألونه مثلاً بصباغة زيتية هي في الأصل مادة كيماوية. - ومع بداية الألفية الجديدة تحولت إلى الجلد؟ - الجلد بالنسبة لي مادة غنية ذات رمزية قوية. أعرف أنه في حد ذاته شيء قذر ومليء بالجراثيم. لكنني أعالجه بطريقتي. أتركه يجف تحت الشمس وبعدها أنظفه بالجبس فيتحول إلى مادة نبيلة. إنه مادة مقدسة محملة بالأساطير. للجلد أيضا علاقة بالحياة، أقصد بالموت. الجلد الذي أشتغل عليه هو لكائنات ماتت مما يعطي لعملي رمزية إضافية. ليس هناك ما هو أكثر إثارة بالنسبة للتشكيلي من الاشتغال على مادة لها روائح. - طبعا تركيباتك اللونية الطبيعية تفتحك على المزيد من الروائح؟ أفكر هنا بالحناء على وجه الخصوص؟ - في طفولتنا، كانت الأمهات والقريبات والجارات يحملننا على ظهورهن. وكثيراً ما كنت أنام مربوطا إلى ظهورهن ورائحة الحناء التي يلطخون بها شعرهن في أنفي. لذا استأنست بهذه الرائحة منذ طفولتي. وربما نداء رائحة الطفولة هذا هو ما قادني إلى الحناء.أيضا للحناء تاريخ يمتد إلى أكثر من عشرة آلاف سنة. كانت معروفة عند الفراعنة وعند الهنود بأمريكا اللاتينية. أما أجدادنا فكانوا يستعملونها كدواء. كانوا يضعونها على جراحهم فتلتئم، وكانوا يشربونها مغلية لمداواة المعدة. لكن الحناء ليست سوى واحدة من الملونات الطبيعية التي استبدلتُ بها الحموض والأصباغ الكيماوية. حيث أستعمل أيضا الزعفران والصمغ والحديدة الزرقاء والكحول المُستقطر من الخشب. - باختيارك للخامات والملونات الطبيعية هل كنت تبحث عن أصالة ما لعملك التشكيلي؟ - قد يكون هذا صحيحاً إذا اعتبرنا أن أصالة اللوحة تكمن أولا في قدرتها على الارتباط الفني الراقي بالذاكرة الثقافية وتفجير مخزوناتها، لكن ليس في الشعارات الفارغة التي يرددها بعض التشكيليين العرب عن الهوية. - هل هذا يعني أنك لا تؤمن بوجود هوية تشكيلية عربية؟ - الحمد لله، لست مُصاباً بداء الهوية. ما يعنيني هو الإنسان. أحاول الاقتراب من جوهر الإنسان في أعمالي التشكيلية. أحاول القبض على هذا الكائن في مختلف حالاته الروحية بمنظور معاصر طبعاً وبرؤية ذاتية جداً، أي من موقعي كفنان يعيش فوق هذه الأرض. أما التفاصيل الأخرى التي تصنع الهويات الضيقة فهي لا تعنيني. - لكن العديد من النقاد خصوصا الأجانب يعتبرون منجزك التشكيلي من أهم الإنجازات العربية المرتبطة بجذورها الثقافية؟ - لسنا مختلفين. أنا أيضاً متفق على هذا الكلام. فقط الارتباط بالذاكرة يتم في حالتي عبر أعمال تشكيلية وليس عبر شعارات فضفاضة. طبعاً أنا أيضا أحب ثقافتي العربية الإسلامية، لكن لدي كمبدع حي ومتوتر تناقضات مع ذاتي ومع هذه الثقافة التي أنتمي لها. لذا حينما أحتضنها أو أدخل في جدل معها فإنني أفعل عبر التشكيل وليس عبر الخطابات الطنانة والشعارات الفارغة من المعنى. فأنا لست ملتزماً ولا ثورياً ولا مناضلاً طليعياً، أنا فنان أحاول الالتزام مع لوحتي بالفعل لا بالكلام، بمهارة اليد لا بثرثرة اللسان. - لكن ما العيب في أن يعلن الفنان عن ارتباطه بثقافته ووجدان أمته؟ - العيب هو أن ذلك يبعده عن جوهر الفن ليجد نفسه متورطا في فخ الدعاية وضحية للأوهام. خذ عندك مثلاً حكاية الخط العربي. هذا كله كلام فارغ المفروض أن نخجل منه. هل رأيت مرة في حياتك فناناً يهودياً يكتب بالعبرية ويقول هذا فن خاص بنا نحن معشر اليهود؟ أيضاً لماذا لا يقوم اليابانيون والصينيون واليونان مثلا بتشكيل لوحات من أبجدية لغاتهم ويقيمون لها المعارض والتظاهرات؟ ليسوا سُذجاً مثلنا لتختلط عليهم الأمور مثلما اختلطت علينا. كل شعوب الأرض تعرف أن الخط خط مهما كان جميلاً، أما الإبداع التشكيلي فهو فعلاً شيء آخر. لكن ماذا تفعل لدعاة الهوية عندنا. لقد طبلوا لحكاية الخط العربي واعتبروه فنا عبقرياً يميزنا عن باقي العالمين. هذه أمور مضحكة صدقني. - والإطار ماهي مشكلتك معه؟ هل هي فقط الرغبة في الانزياح عن الشكل الكلاسيكي للوحة ما جعلك ترفض تأطير لوحتك؟ - هذه أيضا تجربة انخرطت فيها منذ ما يقترب الآن من ثلاثة عقود. أحيانا أشتغل داخل إطارات دائرية أو مثلثية أو سهمية أو هرمية، وأحيانا أخرى أفتح اللوحة على اللامربع واللامستطيل إضافة إلى الأشكال الفضائية. بودي لو أبدعت أعمالا لا يحدها إطار، أعمال تسبح هكذا حرةً في الفضاء. - هذا عن الشكل، فماذا عن المضمون؟ أنت دائما تشتغل على موضوعات محددة أو لنقل على رموز وأقانيم، كاليد مثلا؟ - ربما لأنني أعمل بيدي ولا ألغي قوة اليد الضاربة فيما أبدع من أعمال. الكثير من الفنانين يتحدثون عن الإلهام ويقدمون أنفسهم كعباقرة. لكنني لا أفكر بنفس الطريقة. أنا مجرد عامل أشتغل في ورشتي يومياًَ لساعات طويلة. مثلي مثل الصناع التقليديين الذين يزاولون العديد من المهن اليدوية النبيلة التي يحتقرها المثقفون مع الأسف. أنا بالمناسبة أحترم كثيراً اليد البدائية التي لم يدخل عليها الذكاء. ذكاء الإنسان يوجد في المجرد، لكن هذا المجرد لا يتحقق إلا عبر ملَكَة اليد. اليد طاقة حرة وتلقائية خلاقة. لذا حرصت على تكريمها في الكثير من لوحاتي. - في أعمالك الأخيرة اشتغلت أساساً على الجسد بنوع من الإيروتيكية. نهود معلقة على أجساد ميتة، أو على اللاجسد. أسهُم. مثلثات شبقية. رؤوس أفاع. أشكال تحيل على أجزاء حساسة من الجسد. هناك نوع من البلاغة الإيروسية في هذه الأعمال. فما مصدرها؟ - مصدرها قصائد الملحون. فهذا الشعر الشعبي المغربي الراقي جدا والأنيق هو الذي استدرجني إلى هذا العالم. خصوصاً قصائد الغزل الصريح حيث وصف شيوخ الملحون جسد المرأة بإيروتيكية فاضحة وجميلة جداً، وتغنوا بجمالها الحسي الجسدي بشكل صريح. اشتغالي على هذا الجانب في قصيدة الملحون في معارضي الأخيرة جاء بهدف التأكيد على أن الحرية أصيلة في ثقافتنا على عكس ما يدعي المتزمتون من أعداء الحياة. وأنا حينما التجأ لهذا الموروث فلكي أحييه وأحاجج به من يريدون قتل المرأة وإلغاء فتنتها الطبيعية والضرورية لكي تحافظ الحياة على بهجتها. لكن هذا لايعني أن لوحاتي بورنوغرافية كما يتهمني البعض. على العكس، أنا حريص على أن أقترح أفكاري الإيروتيكية عبر جسد متشظ. كما أن الجسد في لوحاتي تجريدي دائماً. - مع نهاية هذا الحوار دعني أعود بك إلى مغامرة لافتة أقدمت عليها سنة 1968 حينما نظمت معرضاً في ساحة جامع الفنا بمراكش. ماذا لم تتواصل هذه التجربة التي جعلت الفن التشكيلي يغادر الفنادق والصالات الراقية ليلتحم بالناس؟ - هذه التجربة كان لها سياقها التاريخي والسياسي الخاص حيث نظم وزير الثقافة المغربي آنذاك المرحوم محمد الفاسي "معرض الربيع للفن التشكيلي" عند مدخل بلدية مراكش. وهناك في المدخل كان يجثم مدفعان يبثان الرعب في قلوب الناس. طبعا كان من المستحيل بالنسبة لي أن أعرض في هذه الظروف. لذا رفضت المشاركة ونظمت معرض جامع الفنا الذي شارك معي فيه أربعة فنانين آخرين. طبعاً هذه المبادرة لم تكن ضد الصالون كما يعتقد البعض بل فقط ضد بناية فاشستية يربض أمامها مدفعان هناك من أراد توريطنا بالعرض فيها.