عرف متحف جورج بومبيدو مؤخَّراً (23 أكتوبر 2013)في باريس افتتاح معرض كبير يجمع بين مختلف الأساليب والحساسيّات الفنية المعاصرة التي وسمت تطوّرات وتفاعلات المجال التشكيلي العالمي، في أفق إبراز ثراء الصياغات والتقنيات والأسناد والموضوعات المواكبة للأحداث والمستجدّات الحديثة، والبحث في الأوضاع المناسبة لتقديمها، في الوقت الذي تحتاج فيه بعض التجارب المُركَّبة حيّزاً فضائياً خاصّاً يستدعي طرقاً جديدة لعرضها بشكل لائق. تَمَثَّل الحضور المغربي والإفريقي بجدارة في هذا المعرض الذي حمل شعار »الحداثة بصيغة الجمع«، من خلال عمل الفنان فريد بلكاهية الموسوم ب»تكريماً لغاستون باشلار«، وهو العمل الذي اقتناه المتحف الوطني للفن الحديث المعروف بمتحف جورج بومبيدو. وبصدد إدراج عمله ضمن أحد أبرز المتاحف العالمية، أكَّد بلكاهية على أهمية حضور الضفة الجنوبية للمتوسط التي تتميز بخصوصيتها الثقافية في متاحف من هذا الحجم. لعل التركيز على الخصوصية الثقافية هو ما يشكّل الخلفية الإبداعية المطبوعة بالوفاء المستدام للمُلوِّنات والمواد الطبيعية والمحلّيّة عند بلكاهية، وهو ما يبرِّر انزياحه عن أنماط التعبئة، لقناعته بجدوى »التقليد«، وبضرورة »تمثُّل القيم العتيقة لبلوغ إدراك الحداثة«. فمنذ 1962، تاريخ تَوَلِّيه إدارة مدرسة الدارالبيضاء للفنون الجميلة (رفقة فريقه التربوي: محمد شبعة ومحمد المليحي، والإيطالية طوني مارايني TONI MARAINI، والهولندي بيرت فلين BERT FLINT، المتحمِّسون جميعاً للفنون الشعبية والتراث)، عمل على خلق محترفات لتعليم الصناعات التقليدية: الفخار، الحلي، الزربية، الخشب المصبوغ... وذلك من أجل البحث عن إمكانات مستحدثة للفنون البصرية المغربية؛ ليتمّ القطع مع الفن الرسمي التشخيصي FIGURATIF في 1969، تزامناً مع المعرض الجماعي (البيان) في الفضاء الخارجي بساحة جامع الفناء بمراكش، »للتمكّن من المواجهة بين عوالم فكرية لم تتح لها فرصة اللقاء أبداً« كما أعلن بلكاهية الذي انتقل في هذه الحقبة من الأسناد الورقية إلى النحاس (دون أن يرتبط باستعمال القُماش LA TOILE باستثناء لوحة واحدة بمقاسات كبيرة). ففي تعامله الإبداعي مع النحاس، وُفِّق بلكاهية في تحرير طاقته الحِرَفية المقرونة بفعالية فيزيقية تنسجم مع أنماط تطويع المعدن بالقَطْع والطّي والدَّعك والطّرْق وتثبيته على القِطَع الخشبية المُصَمَّمة وفق بنية العمل. وبعد هيمنة السهم والدائرة والعلامات ذات البعد الصوفي (مرحلة براغ وتأثّره ببول كلي في نهاية الخمسينيات) برزت الخطوط اللولبية والحلزونية والأشكال الأنثوية الموصوفة بكرم شبقي. ليست الأنوثة وحدها الباقية في مُخطّط بلكاهية التصويري، بل كان لابدَّ من وضع هذه العُضوية الجسدية ضمن مزاوجة تكاملية تعمل على إيجاد توليف مجازي يؤلِّف بين الأنثوي والذُّكوري. في تحوُّل بلكاهية إلى مادة الجلد بداية من 1974، ستغدو المشهدية المزدوجة خاضعة لتخطيطات اختزالية تقوم على توليف الأشكال الفَجْوِية والمنحنيات الانسيابية والمنصهرة ضمن تكوينات إيلاجِيَّة في غاية الانسجام. وموازاة مع معالجاته الخاصة للجلد (جلد الخروف بخاصة) الذي يعتبره مادة نبيلة وجميلة تحيل على »الحياة«، وتدعو إلى اللَّمْس، حرص على تبنّي إلزامية تلوينية تتلخَّص في الأصْباغ TEINTES الطبيعية: الحناء، قشور الرمان، الزعفران، الكوبلت، الأحماض، وكذا الأصباغ التي تخدم سيطرة الألوان الترابية، كخيار جمالي يُمليه مبدأ التوافق بين السند/ الخلفية والعناصر اللونية التي تتوغَّل في جسد الجلد الموصول ب »الوشم« المُترجَم عبر أبجدية تيفيناغ الطّوارق، لا كحروف مقروءة، بل باعتبارها وحدات خطّيّة تتجاور وتتجاوب مع كافة الموتيفات الزخرفية وهي ترسم إيقاعها الذي يبعث على تجديد التذكُّر والذاكرة. من ثمة، يواكب بلكاهية سير العلامات ضمن جغرافية استدلالية، تنطلق من تصويرية إثنوغرافية منفتحة على الرمزيات البصرية ذات الجواهر التاريخية والثقافية والاجتماعية والحضارية. بذلك، يتوغَّل في التقليد لملاحقة الحداثة، في الحين الذي تمسي فيه الفنون الشعبية تجميعاً للإرث البصري، الخاضع لتطوير التقنية كآلية مبتكرة لترجمة التصوُّرات المتسامية بالمفاهيم التي تغرف من الحداثة الغربية. في كل تجاربه الأصيلَة، تَجَرَّد بلكاهية من الإطارات التي تطبع شكل اللوحة الغربية الكلاسيكية. ومن ثمة، تجرَّدَ من التسطير والخطوط المستقيمة باعتبارها »خط الواجب«، ليرتبط ب »خط الإبداع« الذي يتجاوب مع المنحنيات والتموُّجات والانسيابية المدَثّرة بالحيوية والحركية. وبرؤيته المكثّفة للجسد الإنساني في عُريِه الخلقي، تتفاعل العناصر والتراكيب العُضوية لينبعث البعد الحسّي ضمن حميمية شَكْلية، ولونية، ومادية تدفع المتلقي لاستيعاب تلك الرمزية الجَسَدانِيَة المصحوبة بالروائح أيضاً: رائحة الجلد والحناء التي تحيلنا على الطقوس، بقدر ما تحيلنا على المقدَّس والمدنَّس. ومن منظور آخر، فالجلد »باعتباره حدّاً فاصلاً بين الطُّويّة والبرّانية يغدو، حين يُنَظّف، مدىً رمزياً بحيث يصبح شارة وإشارة إلى الأمل. وما إن يتم تحريره من التعفُّن حتى يبعدنا عن الموت، ويُبعد بصرنا عن استلاب الماضي« (رجاء بنشمسي). بالرؤية ذاتها إذن، وبالمادة الحية ذاتها (الجلد) والأصباغ الطبيعية، اختار بلكاهية إنجاز عمله الخاص بتكريم الفيلسوف الفرنسي الكبير غاستون باشلار (1884 - 1962). استناداً إلى غنى هذا المسار الفني المُعانِد والمُمتدّ عبر عدّة عقود، أَكَّد ميشيل غوتييه MICHEL GAUTHIER، محافظ المتحف الوطني للفن الحديث بباريس، على أن عملية اقتناء عمل »تكريماً لغاستون باشلار«، مُبَرَّرَة من خلال توقيع فريد بلكاهية الذي »يعتبر من الفنانين التاريخيين للحداثة في المغرب، وبشكل أوسع في شمال إفريقيا«، ومن خلال عمله الذي »يحمل دلالة تعدُّدية«، ولذلك »يطمح معرض حداثة بصيغة الجمع إلى تثمينه«، يضيف محافظ المتحف. انسجاماً مع روح بلكاهية المشدودة إلى استلهام الهويّة القائمة على مباحثه التاريخية والحضارية، والتوّاقة إلى تحقيق رهاناته المتعلِّقة بالقيم الجمالية الكونية، لم يَدَّخِر جُهداً في تكريم الرموز العربية كابن بطوطة، والشريف الإدريسي، إلى جانب الرموز الغربية كبول كلي، وطابييس ،وغاودي، وباشلار. وبنفس الروح المؤمنة وبالتلاقي والتبادل، أصدر العديد من الكتب المشتركة مع العديد من الشعراء كأدونيس، وصلاح ستيتة، وعبد الوهاب مؤدب، ورجاء بنشمسي، وإتيل عدنان، وجان كلارانس ونيكول دو بونتشارا. في سنّ الخامسة عشرة، دأب الفنان المغربي فريد بلكاهية (المولود عام 1934 في مراكش) على رسم بورتريهات زيتية، وأقام أول معرض فردي في 1954 بفندق المامونية بمراكش. بين 1955 و 1959، درس في مدرسة الفنون الجميلة ضمن مراسم بريانشون ولوغول في باريس بفرنسا. وبدافع الاطِّلاع على الأنظمة الاشتراكية في البلدان الشرقية، سافر إلى براغ ليتابع دراسته في تخصُّص السينوغرافيا بأكاديمية المسرح في العاصمة التشيكوسلوفاكية، حيث تعرَّف بالعديد من الشخصيات الثقافية كلويس أراغون، وإيلزا تريولي، وأصبح مذيعاً في الإذاعة الفرنسية لراديو براغ، حتى عودته إلى المغرب في 1962.