يوسف الحلوي كان خير الدين بربروس رجلا استثنائيا في كل شيء، فهو واحد من العظماء القلائل الذين دونوا سيرتهم الذاتية، وواحد من الذين انتقلوا من منزلة الخمول إلى تصدر الأحداث وصناعتها اعتمادا على المواهب الشخصية لا غير، فلم يكن سليل أسرة حاكمة أو ابن ثري من الأثرياء، وإنما كان واحدا من العامة، بدأ حياته بحارا عاديا يمارس الملاحة رفقة إخوانه إلياس وعروج وإسحاق، وقد شكل مقتل أخيه إلياس في عرض البحر واعتقال عروج منعطفا هاما في حياته، حوله من بحار عادي إلى أمير للبحار، كما تسميه الروايات التاريخية. تعرض عروج لأذى شديد في الأسر على نحو ما ذكر خير الدين في مذكراته، فصقل السجن شخصيته وصنع منه رجلا شجاعا لا يخشى الخطر، أضف إلى ذلك أنه تمرس بالملاحة البحرية بعدما استعمله الرودسيون الذين اعتقلوه في مهام التجديف بسفنهم. تمكن عروج من الفرار من جلاديه والالتحاق بسلطان مصر الذي عينه قائدا على أسطول بحري تجاري، ولم تكن التجارة يومها معزولة عن أعمال القرصنة والقتال البحري، فكان أن أعد عروج للأمر عدته وراح يشن الغارات على رودس معقل خاطفيه القدامى. وهكذا سيلمع نجمه في عالم القرصنة البحرية، وسينضم إليه أخوه خير الدين ليؤازره في مغامراته. كانت السواحل المطلة على البحر الأبيض المتوسط من جهة الشمال الإفريقي هدفا يومئذ للسفن الإسبانية، التي ما فتئت تغير على سواحل تونسوالجزائر وتقتطع مدنا بأكملها لصالح القوة الصليبية المتنامية في إسبانيا. لم يكن عمل عروج وخير الدين في البداية نظاميا، لكنهما فعلا ما يمليه عليهما واجبهما الديني في تلمسانوالجزائروتونس كما في الأندلس نفسها، فقد أحصت الروايات أزيد من سبعين ألف مسلم أنقذهم عروج وخير الدين من براثن محاكم التفتيش وحملوهم في أساطيلهم من شواطئ الأندلس نحو الجزائر والمغرب يوم كان هؤلاء يواجهون أعظم محرقة عرفها تاريخ البشرية. حرر عروج وأخوه تلمسانوالجزائر العاصمة واتصلا بالسلطان العثماني سليم الأول، الذي عين عروج حاكما على الجزائر. وقد أغاظ ذلك الإسبان ورأوا فيه تهديدا لتواجدهم بالبحر الأبيض المتوسط، فقادوا حملة على عروج انتهت باعتقاله وقتله، وهنا سيستلم خير الدين (خضر) الملقب ببربروس (ذو اللحية الحمراء) القيادة وسيعمل على بناء أسطول بحري قوي بأمر من السلطان سليم الأول، لينتقل بعد ذلك إلى بسط نفوذ الدولة العثمانية على تونس بعد القضاء على الحفصيين بها، وسيعلن عام 1534م تبعية تونس للإمبراطورية العثمانية. استشعرت أوربا خطورة الموقف، وكانت الأخبار تُتناقل في كل الأقطار عن خطورة خير الدين وشجاعته وطموحه الكبير. كان الرجل ينتقل من نصر إلى نصر، فلا يكاد يهدأ له بال حتى يقضي على خصومه، ولم تعد تنجو منه سفينة في كل البحر الأبيض المتوسط بعد أن أحكمت سفنه سيطرتها على منافذه، فأطلق بابا روما نداء تداعت له كل أوربا فحواه أن المسيحية في خطر إن لم تتكاثف جهود البلدان الأوربية لاستئصال شأفة خير الدين، فتشكل حلف صليبي بحري من ستمائة سفينة ضم سفن النمسا والبندقية وإسبانيا وغيرها من البلدان الصليبية، وأسندت قيادة الأسطول إلى واحد من أعظم قادة البحر الذين عرفهم تاريخ أوربا وهو أندريا دوريا، غير أن حملة دوريا التي شارك فيها ستون ألف جندي عام 1538م لم تصمد أمام إصرار خير الدين وحنكته غير خمس ساعات ليتشتت بعدها أسطوله ويتحول إلى غنيمة سهلة في يد خير الدين ورجاله. كان خير الدين صاحب همة، فما لبث بعد هذه المعركة العظيمة أن جهز أسطولا كبيرا لغزو فرنسا في عقر دارها وحقق عليها انتصارات كبيرة فرضت عليها التفاوض مع العثمانيين والرضوخ لشروطهم. لم يغادر خير الدين البحار حتى لقن أصول خوض غمارها لولده حسن الذي خلفه على إمارة الجزائر. وقد كان مثل والده في كفاحه، فصار خير خلف لخير سلف. قبل أن يختم بربروس مسيرته المظفرة طلب منه السلطان العثماني تدوين مذكراته لتكون عبرة للأجيال التي ستأتي بعده. ويستطيع قارئ مذكراته اليوم أن يتبين ملامح رجل شغلته قضية عظيمة سامية عن الدنيا ونعيمها، إذ طالما ردد على مسامع أخيه عروج: «ما دام الموت هو نهاية كل حي فليكن في سبيل الله.. رجل منحاز إلى صف الضعفاء، يحصل على الغنائم فيوزعها على الفقراء ويستبقي منها حصة الدولة، لأنه لا يؤمن بالمجد الفردي، بل بمجد الأمة، لذلك كان يسعى سعيا حثيثا لتسود أمته، وقد كان قادرا على الاستئثار بحكم شمال إفريقيا لما قويت شوكته لكنه لم يفعل. وقد حاول بعض ملوك عصره إغراءه بذلك فأبى، إذ لم يكن رجل أطماع ومصالح شخصية، بل كان من النوع الذي يقدم ولاءه للأمة على كل شيء. في عام 1546م وافت المنية بربروس بقصره المطل على البوسفور عن عمر يناهز خمسة وستين عاما. لم تكن رحلة بربروس في الحياة طويلة، لكنه ترك بصمات خالدة ودمغ تاريخ الجهاد البحري باسمه، فلا يذكر مجد الأساطيل العثمانية خصوصا، والإسلامية عموما، إلا مقرونا ببطولاته العظيمة.