ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة. كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة. إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية. يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية. - 1 - تلعب الصدفة دوراً محتوماً في حياة البحاَّر. تلك الصدفة هي التي حملتني، في شهر شتنبر 1899، إلى مدينة طنجة، وقت أن كان القبطان الألماني ميسنير يبحث عن ضابط جديد يعهد إليه بقيادة السفينة البخارية التابعة للحكومة المغربية، والمعروفة باسم «التركي». وقد كنت يومئذ أحدَ ضابطين اثنين يعملان لدى شركة «ڤويرمان»، التي كانت لا تزال، في ذلك الوقت، تشارك في التجارة المغربية. وحاول ميْسنير أن يستبقي أحدنا للعمَل ضابطاً لدى شركة ڤويرمان، فلمَّا لم يفلح في الأمر، أرسل برفقتنا أحدَ ميكانيكيَّيْه الاثنين إلى مدينة هامبورغ، ليأتيه بضابط جديد لهذا الغرض. فظل ذلك الميكانيكي، خلال رحلتنا تلك، يصوِّر لي الحياة في المغرب وعلى متن سفينة «التركي»، مفيضاً في زخرفتها وتنميقها، حتى لقد بلغ بي إلى تقديم استقالتي من عملي في مدينة هامبورغ، ووجدتني أعود أدراجي إلى مدينة طنجة، في منتصف شهر نونبر، مؤمِّلاً الدخول في خدمة الحكومة المغربية. وشاءت الصدفة كذلك أن تصل إلى سواحل مدينة طنجة، في ذلك الوقت عينه، فرقاطةٌ تم صنعها في إيطاليا لفائدة المغرب، وأن يُوَلَّى قيادتَها السيد ميسنير. وهكذا شاء الحظ أن يقع عليَّ الاختيار، بعد شهر من ذلك، للعمل قائداً على سفينة «التركي». كانت الحكومة المغربية تمتلك في ذلك الوقت ثلاثَ سفن، هي كل أسطولها؛ وهي السفينة المسمَّاة «التركي»، والفرقاطة المسمَّاة «البشير»، التي استلمها المغرب في وقت قريب، والفرقاطة المسمَّاة «الحسَني». وكان القباطنة والضبَّاط العاملون على متن هذه السفن ثلاثِها من الأوروپيين. وكانوا جميعاً من جنسية ألمانية، في ما عدا القبطان السويدي قائدِ سفينة «الحسني». وسوف يتم، في بحر السنتين المواليتين، بيْع سفينتين اثنتين من جملة هذه السفن الثلاث؛ تانك هما «البشير» و»الحسَني». فقد باعت الحكومة المغربية السفينةَ الأولى، لأنها أصبحت لا تجد فيم تسخِّرها، وباعت السفينةَ الثانية بسببٍ مما أصبحت عليه من بلى وتقادم. وبذا، لم يتبقَّ بحوزة المغرب غير سفينة «التركي»! تم إنشاء هذه السفينة سنة 1892، من طرف مشغل ««ڤيزير»، في مدينة بريم، لفائدة شركة «كروپ» في مدينة إيسن. وقد سخِّرت هذه السفينة، في بادئ الأمر، في نقل القطع الثقيلة من المدفعية التي كان السلطان مولاي الحسن يطلب إرسالها إلى المناطق الساحلية. فتعيَّن على سفينة «التركي» اختراق الجروف الرملية في مدينتي العرائش وتطوان، هي التي لم يكن مسحوبها من الماء يتعدى ثمانية أقدام وعليها حمولة تصل إلى 500 طن. ولقد حالت وفاة السلطان مولاي الحسن دون تسليم أكثر من بطاريتيْن إلى مدينة الرباط. فقد ألغت تلك الوفاة كل تفكير في أمر الدفاع عن السواحل. بقيت سفينة «التركي» نفسها في حوزة الحكومة المغربية، لأن مصاريفها قد اعتُبرتْ في تكلفة المدافع. وسرعان ما تم تزويدها بعشرين من البحارة، لكنهم بقوا يأتمرون بأوامر أربعة ضباط ألمان على السطح وفي الآلات. وقد عزز هذا الطاقم بسبعة من الرماة ظلوا على متن تلك السفينة ليقوموا على تحميل مدفعي «كروپ» الصغيرين البالييْن. وهذا الطاقم هو الذي وجدته على متن السفينة، يوم عُهِدَ إليَّ بالعمل عليها. بقي المغرب ينعم بالهدوء والنظام، طالما ظل الصدر الأعظم باحماد يدير شؤون البلاد، عوضاً عن السلطان مولاي عبد العزيز، الذي كان لا يزال، بعْدُ، قاصراً. لكن ما كاد السلطان يبلغ سن الرشد، ويتولَّى عرش البلاد في سنة 1899، حتى قام تمرُّد بوحمارة، بسبب العجز التام الذي كان يتصف به هذا السلطان؛ عجز ساهم بنصيب كبير في انهيار أوضاع البلاد. شرعت في تدوين تجاربي اليومية مع بداية تمرد بوحمارة، وها أنذا أنشرها، الآن، والمغرب يخوض صراعاً مستميتاً من أجل الاستقلال. وإني وإن لم أكن بالجاهل بعيوب المغاربة، فإنني قد وجدت لديهم، خلال هذه السنوات التسع الأخيرة، من عظيم الحفاوة، سواء في أنحاء البلاد أو عند أهلها، ما تعلمت منه أن أحبهم. كان وصولي إلى مدينة طنجة يوم 20 نونبر 1899 . وكانت السفينة التي يتعين عليَّ أن أتولى قيادتَها خارجةً في رحلة في البحر الأبيض المتوسط. فهذا ترك لي متسعاً من الوقت، اغتنمتُه في التعرف عن كثَب، على البلد وسكانه. غير أن الانطباع الأول الذي تكوَّن لديَّ من تلك الجولة لم يكن بالانطباع الحسن. فقد رأيت أزقة المدينة ضيقة، قد أُهمِلت، وغطاها ما تراكم عليها من مياه الأمطار التي تهاطلت على المدينة في الأيام التي قبل. فأصبح يكاد يكون من المتعذَّر اجتيازها. ووجدت البيوت متسخة، قلما تفتح أبوابها للضيف. وتجوب المدينةَ حشودٌ من المتسكعين؛ فيها حشد عظيم من المتسوِّلين القذِرين، المصاب معظمهم بأمراض خطيرة، أو بعجز. وإذا علم القارئ أنني قدِمت من موطني بنيَّة المكوث لسنوات في هذا البلد، أدرِك مدى اليأس والإحباط اللذين بعثتهما في نفسي تلك الحالة التي وجدت عليها مدينة طنجة. غير أني لم ألبث أن أخذت أتعوَّد شيئاً فشيئاً بنظري على المدينة. فإلى جوار القبح والبشاعة صرت أكتشف الجمالَ. الجمال في التنوُّع اللوني في سكان هذه المدينة؛ بين سود حالكي السواد، وبيض فاقعي البياض، في ثياب معظمها من الأسمال، لكنها ثياب مثيرة للعين دائماً، وجمال حياة السوق؛ متألقة الألوان، وجمال ضواحي المدينة، التي هي بين صخرة جرداء وبساتين دائمة الخضرة وعرائش وحقول؛ فتنة دائمة للناظرين. لكن أكثر ما أثارني إنما هم السكان المحبُّون؛ يتلقلون القادِم الجديد إليهم بالحفاوة والترحاب. فهذا كله ساهم في جعلي أتصالح بسرعة وقدري. إن أول ما أثار انتباهي في مدينة طنجة خلوُّها من رجال الشرطة. فقد كان كل واحد من السكان يفعل حقاً ما يحلو له. وحتى لترى من الناس من يطلق النار وسط المدينة على الطيور والفئران. وكان من مألوف الأوروپيين في مدينة طنجة أن يبالغوا بالضجيج والضوضاء في ما يقيمون من احتفالات، لكن من دون أن يبلغوا إلى الأخلال بالنظام، الذي يسهر عليه حراس الليل، أو بالقانون الذي يرعاه رجال الأمن. ومع ذلك فقد كان عامة السكان يتمتعون بالأمن على أشخاصهم. فلم تكن تسمع في المدينة من يتحدث عن جرائم أو أعمال سرِقة، على غرار ما هو مألوف في كبرىات المدن الأوروپية. وكان سكان مدينة طنجة يقرأون في الصحف الأوروپية عن أحداث الجرائم في تلك البلاد، فيحمدون الله على ما ينعمون به في طنجة من الأمن العميم على أشخاصهم وأموالهم، برغم خلو المدينة من رجال السرطة. بل إن أصدقائي الجدد، في ذلك الوقت نفسه، أكَّدوا لي أن هذه الحرية وهذا الأمن هما اللذان يضفيان على الحياة في المغرب ما هي عليه من سحر وجاذبية. وهو أمر تأكدت لي صحَّته بتوالي السنين. وما هي إلا أيام حتى عادت سفينة «سداة التركي» إلى الميناء، يرفف فوقها علم «أحمر قان» فأحسسْتُني، حينئذ، كأنني في بيتي وبين أهلي. وسرعان ما توليَّت عملي. وأصبح طاقم السفينة، المتكوِّن كله من الأهالي، تحت إمرتي. ولقد كان لهم جميعاً في نفسي الأثر الحسن. وقد كان معظم البحارة والسائقين يعملون، منذ سنوات، على ظهر تلك السفينة، فهذا أكسبهم الحنكة والخبرة بالعمل. فكانوا ينجزون المهام الضرورية في خفة ونشاط، لا يبدون تذمراً ولا استياءً. ولو أحسن المرء لهم المعاملة وأظهر لهم لين الجانب لأمكنه أن يسخِّرهم في ما شاء. لكن من سوء الحظ أن اندسَّ بينهم، بفعل سياسة الحماية القائمة في المغرب، بعض الخاملين العاجزين. ولم يكن في مقدورنا أن نتخلَّص منهم، برغم ما كان يبدر منهم من طيش ووقاحة، إذ كان اندساسهم بيننا بتأثير بعض دواليب السلطة. فلزِمَ الإدارة أن تتواءم وإياهم. ويُحتمَل أن يكون الرماة السبعة الذين أُرسِلوا إلى السفينة ليقوموا على مدافع «كروپ» الصغيرة، من أولئك «المحميين»؛ لكن وجودهم كان من التكتُّم حتى لا نكاد نلحظه. وكان بين طاقم السفينة تلميذان عربيان «درَسا»، لعشر سنوات، البحريةَ الإيطالية، من دون أن يحوزا أقل معرفة في هذه المهنة. فكانا شديدي تكتم. كانا يتقاضيان راتباً متواضعاً من الحكومة، ولم يكونا، في المقابل، يفعلان شيئاً على الإطلاق. وكان معظم العاملين على ظهر السفينة يتكلمون العربية، كما كانوا يرطنون، فضلاً عن ذلك، بقليل من الإسپانية والأنجليزية. وكان على ظهر السفينة كذلك ترجمان من الأهالي يتكلم الأنجليزية، لتيسير التَّفاهم بين أفراد الطاقم. كانت أول رحلة أقوم بها، وأنا بعْدُ تحت إمرة سلَفي القبطان ميسنير، رحلة آية في المتعة. فقد كان السلطان قبل سنتين من ذلك، قضى، بكل عنف وشراسة، على أعمال القرصنة التي كانت تقوم بها قبائل الريف. وأُرسِلَ القايد بوشتى، حينئذ، في حملة على تلك القبائل، فأعمل فيها السيف قتلاً والنار حرقاً، كما عمد إلى تدمير القرى، واعتقال القادرين من رجالها على حمل السلاح، وأسْر النساء والأطفال. وتعيَّن على سفينة «التركي» أن تقوم، من على الساحل، بدعم تلك العمليات. كما كان يتعيَّن عليها أن تحمل إلى مدينة الرباط قوارب القراصنة الذين يتم أسرهم، وأن تزوِّد، بطريق البحر، الجيشَ الخارج في تلك الحملة بالمؤن، وأن تتدخل كذلك في بعض الأحيان، في عمليات التدمير بواسطة المدفعين المثبَّتين على ظهرها. وكان يلزم سفينة «التركي»، في الأخير، إذا فرغت من أعمال التدمير، أن تحمل إلى السجن في مدينة مازغان (الجديدة) القراصنةَ الثلاثمائة الذين تم أسرهم ووضعهم في الأغلال. ولقد أريدَ لنا، كذلك، أن نحمل بعض رؤوس القتلى التي تم حفظها في الملح، على متْن السفينة، غير أن القبطان احتج بشدة، على تلك الحمولة، فكان الرضوخ لمطلبه. لقد كانت أساليب الحكومة غاية في الشراسة والقسوة حقاً، لكن ربما لم تكن لتفلِح في القضاء على أعمال القرصنة لو أنها اعتمدت أساليب أكثر رحمة. فالقرصنة مهنة زاولتْها قبائل الريف طيلة قرون من الزمان، وكانت هذه القبائل تعتبرها بمثابة امتياز من الامتيازات. ولم يكد يمضي وقت يسير حتى نفَقَ الكثير من هؤلاء القراصنة المودَعون في سجن الصويرة كما تنفق الدواب، بفعل ما كان ينزل بهم من سوء المعاملة. وحتى ال 160 الذين نجوا منهم، ما عادوا سوى هياكل عظمية تبعث على الرثاء. ولذلك لم تعترض الحكومة على أمر ترحيل هؤلاء البؤساء إلى بْلاداتهم الأصلية. ولقد تعيَّن أن تحملهم سفينة «التركي» من مدينة الصويرة إلى منطقة الريف. وعلى ذلك كانت مغادرتنا لمدينة الصويرة في مستهل شهر دجنبر 1899 . فلما وصلنا إلى مدينة الصويرة بلغنا أنه سيكون علينا أن نحمل، فضلاً عن أولئك القراصنة، 150 صندوقاً من البارود، إلى مدينة طنجة. وقد كانت هذه الكمية من البارود معبأة في صناديق بلغ منها التلف كل مبلغ. وقد بقيت، طيلة أيام كثيرة، على متن قوارب صغيرة، مهيئة للنقل، لايقيها المطرَ غيرُ شراع رقيق من أشرعة السفن. وعلى عكس الخوف الذي كان يتملك الأوروپيين لمرأى هذه الكمية من البارود، كان عمال الميناء يجلسون آمنين، فوق تلك الصناديق، يدخنون غلايينهم وسجائرهم. لكن ذلك الخوف من الأوروپيين لم يكن قائماً على أساس، لأن هذا البارود، كما لاحظنا بعد ذلك، خلال رحلتنا إلى مدينة طنجة، لاينفجر إلا بجهد جهيد. ولقد تم صنعه في المغرب، ليُستعمَل في رشقات التحية التي تطلِقها بطاريات الموانئ. وعندما كنا نلقي ببعض الحفينات منه في النار، لم يكن ينفجر إلا بعد مضي حين من الوقت، فإذا انفجر أصد صفيراً وأحدث زمجرة غريبة. وبذلك تبددت المخاوف التي كانت تتملكنا في البداية، من هذه الحمولة من الأكياس التالفة المنخلِعة. وبعد أن تم تحميل هذه الحمولة، تم، كذلك، نقل القراصنة على ظهر السفينة. وقد كان أولئك الشياطين المساكين في حالة تبعث على الشفقة. فقد كان بعضهم من الضعف بحيث لم يعودوا يقوون على المشي، مما حتم على رفاقهم أن يحملوهم على ظهورهم. وكان كل لباسهم جلابة، كانت، من قبل، بيضاء، وهي الآن، قد أصفرَّت من جراء الاستعمال. لكن لم يكن يبدو عليهم أنهم تابوا عن القرصنة، فقد حدث، أثناء رحلتنا تلك، أن مرت بنا سفينة شراعية إسپانية، فسَمع أحد التقنيين الاثنين، على ظهر سفينة «السيد التركي»، وقد كان يفهم اللغة العربية، أحدَهم يقول لصاحبه : «انظر! كم سيكون هذاً مفيداً لنا!». وعندما وصلنا إلى مدينة طنجة، بأولئك البؤساء، صعِدت إلى ظهر السفينة حشود كبيرة من أهْليهم وأقربائهم، وكان مشهد اللقاء آية في الإيلام. فقد كان المساجين المساكين يضحكون ويبكون من الفرح. وكان بعضهم يبكي حقاً من الألم، بعد ما مر بهم من صنوف الشدائد. ولقد اقتدناهم من مدينة طنجة إلى بْلادهم الأم، حيث أنزلناهم على الشاطئ في خليج باديس، قبالة الحصن الإسپاني الصغير. وإن من يرَ الساحل الريفي يدركْ أنه أرض مثالية لممارسة القرصنة. فهو يتكون من جروف وعرة، شديدة التحدر، وناتئة، وكثيرة الشقوق، وماحلة، ترتفع عمودياً في البحر، بعلو مآت الأمتار. وتتخلل هذا البحر من الصخور بعضُ الخلجان الصغيرة والحفر. وهي توفِّر للقراصنة مخابئ ليس لها مثيل، يشنون منها هجوماتهم، في الأيام العاصفة، على السفن الشراعية الصغيرة، التي لاتتسع لغير قلة من الرجال، مما يجعلهم عاجزين عن المناورة. وإن من رأى الحاميات وعمليات المتاجرة والتهريب التي تجري في الجزيرتين الصغيرتين اللتين تحتلهما إسپانيا (باديس والحسيمة)، ليدرِك أن من المستحيل أن يتم القضاء، من ها هنا، على أعمال القرصنة. وقد كان القراصنة يتخذون هذه الجزر الصغيرة، المتكونة من صخور لاتكاد تزيد مساحتها على 50 متراً ارتفاعاً، ولايكاد قطرها يزيد على نفس ذلك الحجم، كانوا يتَّخذونها، منذ القِدَم، مخابئ لغنائمهم الإجرامية، ولم تكن تلك الجزر تتسع إلا لحامية صغيرة جداً، لايمكنها أن تبلغ إلى شيء ضد الريفيين. وعلى الرغم من دقة الشريط المائي الذي يفصل هذه الجزر عن القارة؛ إذْ لايزيد على 50 متراً عرضاً، فإن الإسپانيين يكادون لايكون لهم، طيلة عقود من الزمان، أي اتصال مع السكان الأهالي من قاطني الضفة الأخرى، ولم يكن ذلك من الإسپانيين لعدم رغبتهم فيه، وإنما للممانعة التي كانوا يجدونها من القراصنة. وعليه، فقد أصبح السلطان، بفعل ضغط القوى الأجنبية عليه، منشغلاً بالبحث في قطْع دابر القرصنة. ولقد أفلح في ذلك بكل نجاعة، بحيث أصبحنا قلما نسمع من يتحدث عن القرصنة في منطقة الريف. وفي المرات القليلة جداً، التي كانت تتعرض فيها السفن الإسپانية للنهب، كان الخطأ في ذلك، يعود، في معظم الأحيان، إلى الإسپانيين أنفسِهم. فقد كانت معظم عمليات النهب تلك، تقع على مهربين إسپانيين يحاولون الاحتيال على الريفيين، فيكون رد هؤلاء عليهم بنهب سفنهم. بعد هذه الرحلة القصيرة، تولد لديَّ يقين أنني سأتفاهم جيداً جيداً مع المغاربة العاملين تتحت إمرتي. حقاً إنهم لم يكونوا بقدر فعالية البحارة الأوروپيين، وخاصة الألمان، إلا أنهم يعوضون ما هم فيه من نقص الكفاءة، بشدة الاستعداد. وقد كانت العلاقة بين الرؤساء والمرؤوسين يغلب عليها الطابع الأبوي. كما كان شأنها من قبل على سفننا الشراعية. وكان الرجال يأتون للعمل على متن السفينة وليس لهم من معرفة بأمر البحر. فيقع علينا أن نصرف، في البداية، وقتاً طويلاً في تعويدهم على الانضباط والطاعة، لكن متى رسخنا في أذهانهم هذه القيم، صاروا عارفين للجميل على الدوام. وقد كان سلفي السيد ميسنر والميكانيكي الأول، العامل على متن السفينة منذ سنين، يعاملون رجالهم بعدل ولطف، فقد تعلما إم بهذه الكيفية يمكن أن نحصل منهم على فائدة. لقد كانوا يشكلون نواة صلبة من الرجال الحازمين، الذين يطيعونهم بأقل إشارة ، والذين يطيعونهم بأمر من القبطان. لم يكن الفريق يجد عملاً ذا بال يقوم به، لأن السفينة كانت قد زوِّدت من الرجال بما يفوق حجمهما. ففي الصباحات كان يلزم البدء بتنظيف سطح السفينة، ثم إسناد إلى كل واحد مهمته. وقد كانت هذه المهمة تتمثل، عموماً، ومثلما هو الأمر على معظم البواخر، في رفع العلم، وتنظيف الصدإ وصبغها. ونادراً ما كان يعرض لهم عمل بحري حقيقي. فإذا اتُّفق ذلك العمل، لزم إنجازه على خير وجه، من طرف الضباط الأوروپيين أنفسهم. فأثناء مقامنا في طنجة كان نصف الطاقم ففي عطالة دائمة على البر. وفي البحر كانوا تتولون دورهم في الحراسة، وقليلاً ما يتفق لهم عمل يشغلهم، في ما عدا تنظيف الجسر. وكانوا يقتصرون على المساعدة على شحن البضائع وإفراغها. ويُفترض بطاقم السطح إذا كان في البحر أن يتولى قيادة السفينة. غير أن الرجال لم تكن لهم معرفة بالأحرف العربية، وهم أجهل بالأحرف الأوروپية، لذلك كان يتعين على الضابط القائد أن يشير بأصبعه إلى الاتجاه الذي ينبغي سلوكه؛ مكان الرجل الذي عند الحاجز يشير إليه لها بالطريقة نفسها. وقد كان من شأن ذلك أن يخلق بسهولة سوء تفاهمات. كذلك كان يتحتم على الأوروپي أن يكون شديد التيقظ على الدوام. وبطبيعة الحال، فالمغاربة ليسوا أكثر منا، نحن الأوروپيين، ملائكية؛ وقد كانوا يثيرن الكثير من الغضب لدى رؤسائهم، خاصة بسبب ميلهم إلى التهرب من العمل. وقد كان من الصعب تعويدهم على النظافة، فبينما يأنفون من تنظيف سطح السفينة، تسود قذارة عظيمة في أحيائهم عندما لا يكون يراقبها أحد. فقد كان الواحد منهم معتاداً على أن يلقي على الأرض بكل القذارات، ولم يكن أحد بينهم يتصور تنظيفاً كبيراً في المحلات. وهذه كانت من الأدلة على مزاجهم الصبياني والعنيد. فكل واحد منهم يرى نفسه أعلى شأناً من أن يراعي راحة الآخرين. وربما كانوا لا يكادون ينتبهون إلى القذارة التي تغص بها مساكنهم، إذ لم يتعودوا على شيء في بيوتهم، وكان عليهم علينا، نحن الأوروپيين، أن نجهد لتلقينهم الحد الأدنى من النظافة. كانوا جميعاً لا يكاد يرتدي الواحد منهم شبيهاً زي صاحبه، وإنما كانوا يشتركون جميعاً في اللون الأحمر. وكانوا يحبون كثيراً أن يستردوا منا ثيابنا المستعملة؛ من أقمصة، وجزمات، وخاصة السراويل. فكانوا ما أن يستلموها حتى يسارعوا إلى ارتدائها - لكن في ما عدا ذلك كانوا يرتدون اللباس الوطني. وتكون ثيابهم عموماً مغطاة بالقذارة. وما كانوا يتخيرون لباسهم إلا إذا هموا بالنزول إلى البر؛ فهم يرتدون الجلباب، وربما زادوا إليه، أحياناً، عمامة، وبلغة صفراء، ولباساً موحداً حسْ عادة البلد (قوامعه سروال عريض إلى الركبتين، وقميص قصير عليه زخارف كثيرة). ويجعلون فوق اللباس معطفاً غامق اللون بقب وكمين قصيرين. وهم يكونون دائماً نظيفي الأبدان أو ليس بينهم، على الأقل، من هو مصاب بالهوام. وكان المطبخان منفصلين عن بعضهما. فينما يكون الطباخ الألماني يعد للأوروپيين (القبطان والضباط وميكانيكيين) الطعامَ في المطبخ القديم الذي على المركب يتولى واحد من أبناء جلدتهم الطعام للأهالي. وهذا الطباخ الأسود المسمى الحاج فراجي، قد جيء به إلى المغرب وهو طفل بصفة العبد، ثم تم تحريره بعدئذ. ويجدر بالقول إنه كان الأسود الوحيد على ظهر السفينة. وقد كان يقيم في مطبخ ضيق على الجسر. مطبخ يكون، في معظم الأحيان، لا يشبه شيئاً، بل إنما يكون، وهذا أسوأ، تنبعث منه رائحة الثوم والزيت. والرجل يكابد مشاق جمة في إتمام العمل المتراكم عليه، وإرضاء رغبات نزلائه. وقد كان لا يكاد يمر يوم من غير أن تحدث مشاحنات بسبب الوجبات : إما أن الرجال لا يرضون عن الطبخ، أو لأنهم لا يتوصلون إلى الاتفاق على الوجبات، أو لأن بينهم من يجد الطعام وافراً جداً، أو يجده غير كاف. فكانت مشكلة الطعام هذه، هي مثار الشجارات، لأن الرجال، مثلنا نحن الأوروپيين، كانوا يتولون بأنفسهم إعداد طعامهم. ومن أسف أن أذواقهم كانت شديدة الاختلاف. غير أن العجوز لم يكن ليضيق بتلك الشجارات. فهو لا يفارقه انشراحه قطو فكان ينهي تلك الخصامات بكلمة يضحك لها الجميع، فكان يعد الطعام حسبما يروق له. وكنت أحياناً، أذا وقفت على السطح يأتيني بالشاي، ثم لم ألبث أن أضربت عنه نهائياً، بعد أن وجدته في مرات كثيرة، تفوح منه رائحة الثوم. فلم يسؤه رفضي. وقد كان يفوق الآخرين في مظهره الخارجي قذارة؛ وحتى ليذهب بي الاعتقاد إلى أنه لو دفِع إلى حائط ليظل به ملتصقاً. وقد كان الإقبال على مطبخه كبيراً، لم تكن تنقص منه تشكيات بعض البخلاء، وما كان الرجال يخشون شيئاً. فقد كانوا يطعمون خاصة، الكثير من اللحم والخضار. وكانوا يعيدون أطباقهم ونهي مغطاة بالزيا، ويؤدون ما لا يزيد عن 20 بسيطة عن الشهر، أي ما يساوي حوالي 14 مارك. لم يكونوا في عمومهم بالملتزمين بممارستهم الدينية. لكن كان بينهم، مع ذلك، من كانوا يلتزمون بأوقات الصلاة التي يحددها القرآن، ولا يهملونها. فكان هؤلاء الأشخاص التقاة يبدون مواضبين، في الساعة فوق السطح، وقد حملوا معهم حصراً يتخذونها للصلاة؛ فهم يبسطونها على كوى المركب الكبيرة، أو على طرفها الذي في المقدمة، ويؤدون الصلاة المفروضة، وقد توجهوا إلى القبلة، وجعلوا يأتون بكثير من الركعات والسجدات، ويقبلون أرضية السطح، ويشبكون الأيدي. فإذا كان الجو غائماً، يلزمني أحياناً، أن أبين لهم وجهة مكة بالبوصل. وفي المساء، يأتي رجل إلى مقدم السفينة، ويأخذ، مثل المؤذن في المساجد، في دعوة المؤمنين على السفينة، بصوته الزاعق إلى صلاة المساء. فإذا اقترب شهر الصيام، رمضان، وهو الوقت الذي نقترب منه الآن، ذبت في القوم حمية دينية عارمة. فإذا الرجال من ذوي الأذهان المتحررة، قد صاروا هم أيضاً، تقاة ورعين، فإذا أذِّن لصلاة المساء، اصطف الرجال فوق الجسر، في صلاة جماعية. فكأني بهم يؤدون حركات للرشاقة، ذات إيقاع ونظام. إننا، نحن الأوروپيين، نحترم، المصلين، ولا نزعجم قط، برغم ما في ذلك من ضياع لوقت العمل. إن علينا أن نذعن لعادات وتقاليد البلد الذي نقيم فيه بصفة الضيوف، برغم ما نلاقي في ذلك أحياناً من مشاق.