هنالك من الكتاب من ليس كاتبا إلا لأنه يريد أن يكون كذلك. وهنالك من الكتاب من هو كاتب دون أن يريد أن يكون كاتبا. والكتابة، هنا، لا تعني الكتابة فحسب، بل هي الكتابة إذ تتضمن كل أبعاد الإبداع بما فيها البعد الأخلاقي. في لقاء مع عزيز بينبين بمراكش، الذي روى خلاله الرجل مشاهد من جحيم تازمامارت وأخرى من حياته الخاصة والأسرية كانت مادة لحلقات نشرتها «المساء» في ركن «كرسي الاعتراف»، نفى الرجل أن يكون طموح الكتابة والتأليف هو الدافع إلى تأليفه كتاب «TAZMAMORT». إلا أنه أكد، أكثر من مرة، أنه يحترم الكتابة من حيث كونها التزاماً وأخلاقاً ورسالة نبيلة يجب أن تنأى عن الصغائر والرداءة الشخصية. أشياء أخرى قالها بينبين عن الكتابة أدركت من خلالها أن الرجل تردد كثيرا قبل أن يكتب. إلا أنه حينما كتب، كذبت موهبته ذلك الشعور الذي ينتاب كل مرء مسؤول أمام ضميره وأمام الآخرين في البدايات. وخلال حديثنا ذاك، وصلته مكالمة هاتفية من سيدة من معارفه ارتأت ألا تبقي حكمها عن كتابه حبيس نفسها، بل آثرت أن تنقله بكل الحرارة التي تملكتها وهي تنهي قراءة الكتاب. أبلغته شكرها بصوت متحشرج تغالبه الرغبة في البكاء. ليس الحكي عن المأساة، وحده، هو الذي أعطى للكتاب تفرده، بل كان للأسلوب ولعمق الوصف والرواية تأثير يوازي تأثير حكي المأساة أو يزيد. لا أخفي أنني حينما انتهيت من قراءة الكتاب إياه شعرت بإحساس كان دليلا على أن متعة القراءة تحققت. هو إحساس نلفيه عند نهاية آخر سطر من آخر صفحة من صفحات تلك الروايات العالمية، عربية وأجنبية، لأنها روايات تحمل كل سحر الكتابة. ولا أخفي أنني استحضرت أزمة التأليف عندنا وأزمة الكتاب على خلفية الخلافات التي يطغى عليها الشخصي أكثر من الموضوعي. تساءلت لماذا لا يكتب الكاتب من داخل الكتابة لا من خارجها ولماذا اللغط يطغى على كنه الرسالة التي يحملها الكاتب. بينبين استعاد، بعد استعادته نفسه التي كادت تغيب ذات زمن تازمامارتي، كل الزخم الذي راكمه قبل مرحلة السجن؛ وفي عودته هذه، نجح في استحضار تلك التشبيهات والاستعارات والأوصاف ومظاهر الحكي العميق كما استمتعنا بالكثير منها عند زولا وفلوبير وهوغو وآخرين. ليس القول هنا للمدح من أجل المدح، بل هو اعتراف للرجل بصنيع نريده أن يكون متعددا بيننا في مغرب الكتابة، كما أنه استفهام بصيغة التقرير عما يجعل الإبداع يضيع، أحيانا كثيرة، في ثنايا الصمت والانزواء، بينما يكاد الإبداع المزور يصم آذاننا من كثرة ما يتردد علينا. بينبين كتب من خارج دائرة الانتماء، وبعيدا عن الولاء لأحد أو لشيء إلا لرسالة الكتابة في معانيها السامية. وأعتقد أنه ما كتب بهذا الاختيار إلا لأنه كان يعرف أنه قادر على ذلك. وأما الكاتبون من منطلق الانتماء إلى أشياء هي أبعد ما يكون عن الالتزام بنبل رسالة التأليف، فهم كمن يكتبون تحت الطلب، ويحكون بألسنتهم ما يمليه عليهم غيرهم. الكاتبون من هذا المنطلق يفسدون للكتابة روحها وللقراءة متعتها. قد يتوقف بينبين عند التجربة الأولى إذا لم يذهب حتى النهاية في مشروع الكتابة عن هجرة اليهود المغاربة. لا عيب في ذلك؛ ف «غوستاف فلوبير» لم تشهره إلا رواية «مدام بوفاري». إلا أنه سيكون نجح في كسب تحدي الكتابة التي خشيها قبل خوض تجربتها؛ وربما كانت تجربته أنجح من تجربة الطاهر بن جلون في روايته «Cette absence aveuglante de lumière» المقتبسة بنيتها الموضوعية عن مأساة سجناء تازمامارت برغم البعد التخييلي الذي يمتاز به صاحب ال«غونكور»، ورغم اعتماده على عناصر الرواية التي مده بها بينبين نفسه، ورغم كل العراقيل التي نصبها مؤلف «ليلة القدر» في طريق نشر «تازمامور»!