قضى عزيز بينبين 20 سنة وراء القضبان؛ من محنته هذه، خرج حكيما، قوي الإيمان، عازما على أن لا يصدر الأحكام على الآخرين كما ظلمه حكم المصير ذات يوم سبعيني على إثر محاولة انقلابية زُج فيها من حيث لا يدري. ولد بمراكش، وتابع دراسته بها قبل أن ينتقل إلى الجديدة. عاش بورجوازيا وشعبيا وقارئا نهما إلى حدود الخامسة والعشرين من عمره قبل أن يلتحق بالأكاديمية العسكرية باهرمومو، ومنها إلى القنيطرة ثم تازمامارات. عن هذا المصير الغريب وأشياء أخرى فيها كثير من المفارقات والمآسي، يحدثنا عزيز بينبين عبر حلقات «كرسي الاعتراف». - كيف كان وضعك الصحي بعد مغادرتك تازمامارت؟ < خرجت بظهر مقوس، وفقدت 14 سنتمترا من الطول، ووزن خفيف... لكن كان من حظي أنني وجدت نفسي محاطا بأفراد العائلة، وبوالدتي رحمها الله. كما أنني تلقيت كل المساعدة من الجميع. إلا أنني لم أتعرف على بعض أفراد عائلتي الذين وُلدوا خلال فترة سجني. - وماذا عن أمك، مينة الماحي، التي ربطتك بها علاقة خاصة؟ < وجدتها مريضة؛ إذ كانت تعاني من سرطان الثدي منذ عشر سنوات. أخبرتني أن السرطان انتشر بجسمها كله بعد أن ظلت تخفي هذه الحقيقة على بقية أفراد الأسرة. ثمانية أشهر بعد خروجي من السجن توفيت والدتي رحمها الله. - كما لو كانت تنتظر طلتك عليها لتودعك... < فعلا، ذلك ما قاله لي كل من اطلع على هذه الحقيقة. قالها لي طبيبي، أيضا. والجميل في الأمر أنها كانت كل سنة تحتفل بعيد ميلادي في غيابي، وتحرص، في كل وجبة غداء وعشاء، على أن تحتفظ بنصيبي من الطعام. واظبت على هذه الحال طيلة ال 20 سنة، التي قضيتها في السجن! - بالنسبة إليك، من كان له الفضل في إطلاق سراحكم وإنقاذكم من جحيم تازمامارت؟ < الفضل كله لكريستين السرفاتي، التي كانت وراء تسليم جيل بيرو المعطيات التي ساعدته في تأليف كتابه « Notre ami le Roi»، والذي أثار الرأي العام حول فظائع هذا السجن. كما أن زوجة الطويل، الأمريكية، لعبت دورا كبيرا في هذا الأمر على مستوى أمريكا. وقد قيل لنا، حينها، إن الرئيس الأسبق بوش الأب رفض استقبال الحسن الثاني عندما كان في إحدى زياراته للولايات المتحدة بسبب هذا المعتقل. - ألم يكن لكم أبدا الأمل في الخروج من تازمامارت من دون تدخل خارجي؟ < نحن لم نكن نشعر بأي شيء حولنا. كنا منقطعين عن العالم الخارجي. لم يكن لنا الحق في التفكير في هذا الأمر. كنا لا نعرف مصيرنا ولا نهايتنا... بلغنا، يوما، أن جنرالا أو ضابطا عسكريا ساميا زار المعتقل وأن مدير السجن رفض أن يسمح له بالدخول. ويبدو أن مدير السجن لم يكن يأتمر بأوامر أحد آخر غير شخص يسمى فضُّول، انتهى برتبة كولونيل في الدرك الملكي... - هل كنتم ترون مدير السجن؟ < لا، أبدا. في السنين الأولى، كان الحراس يبلغونه كلما مرض أحدنا. إلا أنه لم يعد يطيق سماع مثل هذه الأخبار. فغضب في وجههم وقال لهم: «ما عمركم تجيو تكولوا لي هذا مريض... جيو كولوا لي هذا مات وصافي!». - وهل استعيدت جثث الأموات بعد خروجكم؟ < لا، لم تستعد الجثث أبدا ولن تستعاد. الرفاق ارتكبوا خطأ كبيرا عندما أوكلوا لهيئة الإنصاف والمصالحة الأمر. وعلى إثر ذلك تم محو تازمامارت من فوق الأرض. فصار من المستحيل استعادة الجثامين. ولكن، هنالك قول مأثور يقول:«إن قتلت شخصا مشهورا، جعلت منه أسطورة». ذلك ما حدث بالنسبة لتازمامارت. فقد صار المعتقل أكثر شهرة بعد ما وقع. فهل يستطيعون محو الأسطورة؟ هل يستطيعون محو الذاكرة الجماعية؟ - هل من وصف لمشاعركم عندما علمتم أنكم مغادرون المعتقل؟ < أولا، لم نكن نعلم عن خروجنا شيئا لكي تكون لنا مشاعر. نقلونا، فجأة، من البناية 2 إلى البناية 1، كما لاحظنا بعض التغيير في السلوك خلال العشرة أيام الأخيرة؛ إذ أصبح الحراس يتركون أبواب الزنازن مفتوحة، كما تغير نظام التغذية. بعد ذلك نقلونا إلى اهرمومو، ومكثنا هناك حوالي شهرين تلقينا فيها الرعاية الطبية، وقدموا لنا الطعام الجيد... وشيئا فشيئا صاروا يطلقوا سراحنا عبر دفعات... - وماذا كانت توصياتهم لكم؟ < أوصونا بأن لا نصرح بشيء للصحافة... وأن نكتم ما عشناه وما رأيناه. - لنعد إلى الخلاف الذي نشب بينك وبين الطاهر بن جلون؟ يبدو أن ما حصل بينكما لم يبدأ بمجرد سوء تفاهم، بل ما حصل كان عن سبق إصرار ... < بنجلون لا يفعل شيئا دون أن يخطط له؛ فهو كثير الحساب. أما حكايتنا فهي أنني كنت أرفض الكتابة عن تازمامارت بينما الماحي، أخي، كان مصرا على ذلك. اقترح علي أن نشارك معا في الكتابة. رفضت. اقترحت عليه أن يكتب انطلاقا من العناصر والمعطيات التي سأمده بها. ظل يُسوّف إلى أن عرض عليه الطاهر بن جلون، وهوصديق له، أن يكتب بدله. الماحي لم يمانع، لكنه اشترط عليه أن يلتقي بي قبل الشروع في الكتابة. مرة أخرى رفضت. إلا أنني لما التقيت بن جلون اقترحت عليه أن يكتب اعتمادا على ما أعطيه إياه من عناصر شرط أن لا يكون الكتاب شهادة، بل رواية بمقوماتها وشروطها المعروفة وأن أظل بعيدا عن القضية. - التقيت الطاهر بن جلون، إذن. كيف تطورت الأشياء بينكما؟ < عندما التقيته، كان قد كتب حوالي 80 صفحة بناء على الرواية التي استقاها من أخي حول تازمامارت، والتي حكيتها له. معنى ذلك أن الطاهر بن جلون كان يريد، فقط، أن يحصل مني على بعض الإضافات الخبرية، وهو ما حصل عليه؛ فأنهى روايته التي كان بدأها قبل أن يأتي إلي. لم أشترط عليه شيئا أبدا. لكنه عندما أراد نشر الكتاب، نبهه الناشر إلى أن الكتاب ربما سيجر عليه بعض المشاكل انطلاقا من كون الناشر، دار لوسوي، شك في أن بن جلون ربما انطلق من رواية الرايس عن تازمامارت ليؤلف روايته، اعتبارا لأن الرايس تعامل مع نفس دار النشر. فطلب الناشر من بن جلون الحصول على موافقتي الشخصية لتفادي أي مشكل، فاتصل بي لأوقع معه الكتاب، وهو الأمر الذي رفضته. فلجأ إلى أخي الماحي ليقنعني بالتوقيع مقابل الحصول على 10 ٪ من قيمة تسبيق الناشر عن الكتاب. - لم توافق طبعا... < أبدا... بل شعرت بنوع من الغبن والغضب جراء استهانته بالعمل وتبخيسه لشخصي. خلال ذلك قال لي: «هل تعرف أنني أعطيت كاتبا 2 % فقط من قيمة تسبيق الناشر، فسُر كثيرا لذلك...». ظلت الأمور بيننا بين أخذ ورد إلى أن اتفقنا على أن أحصل على نسبة 50 % من جميع الحقوق ! لاحظ الفرق بين 10 % بين قيمة تسبيق الناشر الزهيد وبين 50 % من مجموع الحقوق. رغم ذلك رفضت بدافع أنني لا أريد مالا... أريد فقط راحة البال. إلا أن الماحي أصر على أن أوقع مع بن جلون الكتاب وبرر ذلك بأنه من حقي الاستفادة من حقوقي وأن بن جلون له سمعة في فرنسا تجعل الإقبال على كتبه يكون كبيرا... فلم لا أستفيد. أعدت التفكير في الأمر، فوافقت على التوقيع بشرط أن يكون التوقيع في العقد وليس على غلاف الكتاب، على أن أبقى في الظل بعيدا عن أي فضول صحافي أو تلفزيوني... بعد ذلك، جاءني بن جلون إلى مراكش ليعيد معي التفاوض حول الحقوق، مقترحا علي الاكتفاء ب 30 %، فيما تعود له 60 % معللا ذلك بأنه سيدفع منها 30 % للضرائب الفرنسية، علما بأننا كنا اتفقنا على 50 % لكل واحد منا في البداية ! لم أمانع، فكان الاتفاق. - ماذا حدث بعد ذلك؟ < حدث أن سي الطاهر قال كلاما سيئا في حقي، إذ بلغني أنه قال للبعض «جا عندي، وتيترعد، وعركان على الفلوس» كما لو كنت أنا من يلهث وراء المال. تألمت لما فعل في حقي لاسيما أنني كنت مستعدا، منذ اليوم الأول، لأتخلى عن أي قدر مالي وأن أمده بما يحتاج من معطيات لتأليف كتابه. ولو كنت طامعا في المال لكنت اتفقت معه على التفاصيل منذ اليوم الأول. زد على ذلك أنه لم يلتزم بمنحي حقوقي عن التأليف بعد أن صدر الكتاب وتُرجم إلى لغات أخرى... لكنني لم أهتم بالموضوع وآثرت الهدوء بدل الدخول معه في صراع أترفع عنه. لكن، مباشرة بعد صدور الكتاب، كان يوم الصدور خميسا، صرح الطاهر بن جلون لمحطة «إر إف إي» الفرنسية مساء ذلك اليوم بأنه ألف الكتاب بطلب من عزيز بينبين! طلبته على هاتفه المحمول، ولم يجب، أرسلت له رسالة على عنوانه الإلكتروني، ولم يجب، طلبته في بيته، ولم يجب... علما بأنه كان يرد على مكالماتي كلها قبل أن يصدر الكتاب. - كيف كان رد فعلك، إذن؟ < نشرت رسالة مفتوحة إلى الصحافة. وجهتها في البداية إلى «ليبراسيون» الفرنسية؛ لم يمانعوا في نشرها شرط أن تنشرها الصحف المغربية، أولا، فيأخذوها عنها. اتصلت ب «ليبراسيون المغربية، فنشرت الرسالة، ثم أعادت نشرها «ليبراسيون» الفرنسية فاشتعلت الضجة. ولم يكن الغرض من وراء هذه الرسالة المفتوحة أن أدخل في جدال إعلامي مع الطاهر بن جلون، بل كان هدفي هو تأكيد مبدئي الأول حول الكتابة؛ أي أن الكاتب له رسالة أخلاقية قبل كل شيء، ويجب عليه أن يكون في مستوى تحملها. الكتابة ليست هزلا. - يتبع -