زائر لبنان هذه الأيام يلمس حالة من القلق والخوف من الحاضر والمستقبل معا، يتفق عليها اللبنانيون جميعا والذين من النادر أن يتفقوا. وهو قلق انعكس على الأسواق الخالية من المتسوقين والسياح، الخليجيين منهم على وجه الخصوص، وبات القاسم المشترك في اللقاءات والمنتديات ومقاهي المثقفين والكتاب وما أكثرها في العاصمة اللبنانية. حدثان هزا بيروت في الأيام العشرة الماضية: الأول محاولة تفجير السفارة الإيرانية، والثاني اغتيال حسان اللقيس، أحد أبرز «عقول» حزب الله الفنية والعسكرية، وأكثر قياداته قربا من زعيمه السيد حسن نصر الله: - الحدث الأول مقلق لأنه استهدف سفارة هي الأكبر والأكثر نفوذا في لبنان هذه الأيام، أي السفارة الإيرانية، ولأنه جسد عودة السيارات المفخخة والعمليات «الاستشهادية» إلى حلبة الصراع، وليس هناك شعب أكثر تجربة ومعاناة من اللبنانيين من هذه الظاهرة، سواء أثناء الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت أكثر من 15 عاما، أو في مرحلة ما بعد الانسحاب السوري من لبنان. ويكفي التذكير بأن الرئيس الراحل رفيق الحريري يتصدر قائمة ضحاياها، وهي قائمة طويلة جدا على أي حال، لا يتسع المجال هنا لذكرها والمستهدفين فيها؛ - الحدث الثاني مرعب من حيث كونه جاء تدشينا لعودة القتل بالمسدسات كاتمة الصوت، من قبل أجهزة استخبارات على درجة كبيرة من الخبرة والدراية، فقاتلو السيد اللقيس نفذوا عملية اغتياله بدقه متناهية، وبعد عمليات رصد معقدة لتحركاته، والأهم من ذلك أن عملية اغتياله جرى تنفيذها في أحد أحياء الضاحية الجنوبية، وفي المربع الأمني لحزب الله وداخل مرأب منزل يتمتع بحصانة أمنية قوية. في الحادثتين، كان حزب الله هو المستهدف بالدرجة الأولى، مثلما كان مستهدفا في السابق بانفجار قوي في الضاحية الجنوبية قبل شهر وأدى إلى مقتل وإصابة العشرات من المدنيين، مما يعني أنه، أي الحزب، بات في مرمى عدة جهات، عربية وأجنبية، يجمع بينها العداء المشترك له، والرغبة القوية في الانتقام منه، ومحاولة إشغاله، وتقويض عناصر قوته بنقل المعركة إلى قلب عرينه، أو بالأحرى جبهته الداخلية. أعداء حزب الله ينقسمون إلى معسكرين رئيسيين: الأول هو المعسكر الإسرائيلي الذي يرى فيه تهديدا مدججا بأحدث الأسلحة وأكثر من ستين ألف صاروخ، بل وطائرات بدون طيار إيرانية الصنع، ومقاتلين عقائديين مدربين تدريبا جيدا. وقد جرى توجيه أصابع الاتهام إلى هذا المعسكر باغتيال السيد حسان اللقيس من قبل المتحدثين باسمه، لأن من أقدم على عملية الاغتيال هذه، في نظرهم، لا يمكن إلا أن يكون جهاز استخبارات من وزن «الموساد». أما المعسكر الثاني فيتجسد في الجماعات الجهادية أو «التكفيرية» مثلما يطلق عليها الحزب وأنصاره، وهي جماعات اتسع نفوذها وسطوتها على الأراضي السورية، وبات يمتد إلى لبنان بسرعة، ويجد مخزونا طائفيا ملائما لتجنيد المئات إن لم يكن الآلاف من الشباب السني المتأثر بأعمال التحريض والشحن الطائفي من قبل بعض أجهزة الإعلام والقنوات الدينية الخليجية ودعاتها من جنسيات متعددة، وبينهم لبنانيون وسوريون وخليجيون. السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، اختار قناة «أو تي في»، التابعة لحليفه العماد ميشيل عون، لكي يشن أشرس هجوم من نوعه على المملكة العربية السعودية، وللمرة الأولى بمثل هذا الوضوح والصراحة، واتهامها بالوقوف خلف التفجير الانتحاري المزدوج الذي استهدف السفارة الإيرانية في بيروت؛ وقال في المقابلة إن كتائب عبد الله عزام التي تبنت العملية «ليست اسما وهميا.. هذه الجهة موجودة بالفعل، ولها أميرها وهو سعودي، وقناعتي أنها مرتبطة بالمخابرات السعودية». هذه هي المرة الأولى، على حد علمنا، التي يسمي فيها السيد نصر الله السعودية بالاسم، ويشن هجوما لا لبس فيه ضدها، ويرى أنها اخترقت «كل الخطوط الحمراء» بشنها حربا بالوساطة أو بالنيابة ضد إيران وحلفائها في سورية ولبنان، ويهدد «بشكل موارب» بالانتقام منها والرد على أعمالها التفجيرية هذه. لا نعرف ما إذا كان السيد نصر الله سينتقم من السعودية وإسرائيل مجتمعتين، أو متفرقتين، فالأولى تقف وراء تفجيرات السفارة الإيرانية في رأيه، والثانية خلف عملية اغتيال السيد اللقيس التي جرت بعد يوم واحد على بث المقابلة، فسلة حزب الله مليئة بالأولويات هذه الأيام، فهو يقاتل في سورية إلى جانب النظام السوري، مثلما يقاتل على الجبهة اللبنانية خصومه المحليين من جماعة 14 آذار بزعامة سعد الحريري وحليفه سمير جعجع وبدرجة أقل وليد جنبلاط، وبعض أنصار الجماعات الجهادية في لبنان. من الواضح أن السيد حسن نصر الله هو الأكثر قلقا في لبنان بالنظر إلى اتساع الجبهة ضده، وما يزيد قلقه هو محاولات الزج بالفلسطينيين في المعركة إلى جانب الطرف الآخر، فقد رصدت «مخابرات» حزب الله عمليات تجنيد واسعة للشباب الفلسطيني في مخيمات لبنان وسورية من قبل الجماعات الجهادية، سواء العاملة في سورية أو داخل المخيمات. وكشف لي مصدر مقرب من حزب الله أن الشاب الفلسطيني الذي فجر نفسه أمام السفارة الإيرانية في بيروت قبل أسبوع كان ينتمي إلى حركة «حماس»، وجرى تجنيده من قبل تنظيم «القاعدة»، أو جماعة تتبنى إيديولوجيته (كتائب عبد الله عزام)؛ كما كشف، أيضا، أن فلسطينيا آخر كان متورطا في التفجير الذي استهدف الضاحية الجنوبية، وأن المشرف العام على التخطيط والتنفيذ كان فلسطينيا يقيم في الضاحية ويحظى برعاية الحزب، وهو قيد الاعتقال حاليا. المصدر نفسه قال إن حركة «حماس» اعترفت بانتماء الشخصين إليها، ولكنهما غادرا التنظيم منذ عدة أشهر، وانضما إلى الجماعات الجهادية، حسب قول مسؤول فيها، وتبرأت منهما ومن أفعالهما. وقال المصدر إن استخبارات حزب الله رصدت ظاهرة خطيرة وهي ترك العديد من عناصر «الجهاد» و«حماس» التنظيمين وانضمامها إلى الجماعات الجهادية التي أصبحت أكثر «إقناعا» لها وتجاوبا مع تطلعاتها إلى الجهاد و»نصرة أهل السنة» في سورية ولبنان. الحياة في لبنان تسير بشكل طبيعي لأن اللبناني طور مناعة خاصة لمثل هذه الظروف المرعبة، فالرغبة في الحياة ظلت دائما ممزوجة بالقلق، ويبدو أن اللبناني لا يستطيع أن يعيش بدونهما معا، فهذا مزيج له نكهة خاصة في عقله وإن لم يعلن ذلك. اللبنانيون نسوا تفجير السفارة الإيرانية بسرعة، ولم يتوقفوا طويلا أمام عملية اغتيال السيد اللقيس يوم الخميس على بعد مرمى حجر من مقاهي شارع الحمراء ومطاعمه التي ظلت مزدحمة بهم بعيدا عن منافسة السياح، وانشغلوا أكثر بساعة من الأمطار الكثيفة وإغلاق الطرق بسببها وعجز وزارة الأشغال ووزيرها، غازي العريضي، عن التعاطي مع البرك الناجمة عنها، بكفاءة أكثر من انشغالهم بتلك العملية وانعكاساتها على أمنهم، ولكنه انشغال مؤقت، سينقشع بسرعة، وتعود الاغتيالات والتفجيرات لتتصدر المشهد اللبناني من جديد. لبنان ينتظر التفجير الجديد الحتمي في نظرهم، ويتسابقون في التكهن بمكانه والجهة التي تقف خلفه، مثلما ينتظرون عملية الاغتيال القادمة أيضا، ويتسابقون في التكهن بهوية ضحيتها أيضا. الشيء الوحيد المؤكد وخارج نطاق كل التكهنات أن حربا إيرانية سعودية شرسة، تستخدم فيها كل الأدوات ابتداء من الإعلام وانتهاء بالسيارات المفخخة والمسدسات كاتمة الصوت، باتت تستعر على أرض بلادهم، وأن الأيام والأسابيع المقبلة قد تشهد تصعيدا في هذا الصدد، وينعكس ذلك في صعوبة العثور على مقعد في الطائرات المغادرة هذه الأيام، ليس بسبب هروب الطبقة الوسطى السورية المتواصل عبر مطار رفيق الحريري في العاصمة أيضا، وإنما بسبب استشعار بعض اللبنانيين الخطر القادم وامتلاكهم القدرات المالية للبحث عن ملاذ آمن ولو بشكل مؤقت، فقرون استشعار اللبنانيين هي الأكثر دقة وشفافية من بين أقرانها، وغالبا ما يأتي حدسا مصيبا في معظم الأحيان، والله أعلم! عبد الباري عطوان