لم يشكل الهجومان الانتحاريان اللذان استهدفا السفارة الإيرانية في قلب بيروت أي مفاجآت للمراقبين، والشيء نفسه يمكن أن يقال أيضا عن تبني كتائب عبد الله عزام، التابعة لتنظيم «القاعدة» لهما، لأن انتقال الحرب الطاحنة في سورية إلى لبنان، وبصورة أكثر دموية كان متوقعا، بل شبه حتمي. إيران هي الداعم الأساسي للنظام السوري، بالمال والسلاح، ولولا دعهما لما استمر صموده حتى الآن، كما أن «حزب الله»، الذي تقع السفارة الإيرانية في مربعه الأمني، لعب دورا حاسما في القتال على الأرض ضد المعارضة السورية المسلحة، والجماعات الجهادية منها على وجه الخصوص مثل الدولة الإسلامية في العراق والشام وجبهة النصرة اللتين أعلنتا بيعتهما لتنظيم القاعدة، ولولا تدخل مقاتلي حزب الله إلى جانب الجيش السوري لما استعادت الأخيرة مدينة القصير الاستراتيجية، ولما حققت تقدما في ريفي دمشق وحلب وأحكمت سيطرتها على بلدة قارة بريف القلمون. لا نضيف جديدا عندما نقول إن الهدف من هذا الهجوم المزدوج ممارسة ضغط على الطرفين، أي حزب الله وإيران معا، من أجل سحب قواتهما من سورية أولا، وإشعال فتيل الصراع الطائفي السني الشيعي في لبنان، ونقل الحرب إليه ثانيا، لأن حزب الله لا يستطيع خوض حربين معا داخل لبنان وفي سورية في الوقت نفسه، وإنْ استطاع فبتكلفة عالية جدا، فهناك أكثر من 700 ألف لاجئ سوري في لبنان حاليا، معظمهم من أبناء الطائفة السنية، ووجودهم أدى إلى حدوث انقلاب في التوازن الطائفي في لبنان وتغيير المعادلة الديمغرافية الحساسة لمصلحة السنة وحلفائهم، خاصة إذا نجحت محاولات تجنيدهم، أو نسبة كبيرة من شبابهم، في ميليشيات مناهضة لحزب الله وإيران معا، وجعلهم مخزونا مهما في حال اندلاع حرب الطوائف مجددا وبشكل موسع في لبنان. السيد حسن نصر الله، زعيم «حزب الله»، أعلن في خطابه الذي ألقاه يوم الخميس الماضي بمناسبة ذكرى عاشوراء، أن قواته باقية في سورية لأنها تقاتل حتى النهاية دفاعا عن المقاومة ومعسكرها وقضية فلسطين، وهذا يعني أنها لن تنسحب تحت أي ضغط من الضغوط ومهما تعاظم هذا الضغط. سورية تشهد حاليا حرب «حياة أو موت» بين المملكة العربية السعودية من ناحية وإيران من الناحية المقابلة، تتخذ بعدا طائفيا صريحا، وهي حرب مرشحة للامتداد إلى المنطقة بأسرها دون استثناء، وخاصة دول الجوار في لبنان والأردن وتركيا والعراق. القيادة السعودية قررت أن تخوض حرب إسقاط النظام السوري بمفردها، بعد أن تخلت عنها أمريكا، وفضلت التحالف مع الهلال الشيعي على أنقاض تحالفها الاستراتيجي مع السنة بقيادة السعودية، وفتحت حوارا استراتيجيا مع إيران يمكن أن يكلل باتفاق في لقاء الغد في جنيف بين الأخيرة والدول الست العظمى يؤدي إلى تخفيف العقوبات الاقتصادية، وفك التجميد عن 60 مليار دولار من الأموال الإيرانية في البنوك الغربية، والاعتراف بإيران قوة إقليمية عظمى يمكن تقاسم النفوذ معها في المنطقة. الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز، رئيس جهاز الاستخبارات السعودي المعروف بعدائه الشديد لأبناء الطائفة الشيعية وإيران وحزب الله، واعترف رسميا في كتاب اسمه (الأمير) بضلوعه في عملية محاولة اغتيال السيد محمد حسين فضل الله في الضاحية الجنوبية في لبنان كرد على هجوم نفذه الحزب الذي كان يتزعمه في حينها على سفينة حربية أمريكية مطلع الثمانينيات من القرن الماضي أدى إلى مقتل حوالي 300 من قوات البحرية «المارينز» كانوا على ظهرها، وهو الآن يضع كل ثقله، ويوظف مليارات بلاده أيضا، لإسقاط النظام السوري، وتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة إن لم يتأت القضاء عليه كليا. صحيح أن الأمير بندر، الذي يتخذ من الأردن قاعدة له للتعاطي مع تطورات الملف السوري وتبعاته وتسليح المعارضة، أسس «جيش الإسلام»، وبموازاة ذلك يمول تأسيس جيش آخر أكثر احترافية تحت اسم «جيش محمد» من المقرر أن يصل تعداده إلى ربع مليون جندي، يكون بمثابة قوات «تدخل سريع» سعودية في الحروب الحالية والمقبلة، خاصة في اليمن والعراق علاوة على سورية ولبنان؛ ولكن الصحيح أيضا أن الطرف الآخر المقابل لا يمكن الاستهانة به وبقدراته العسكرية الهائلة، وخبراته القتالية أيضا. نواب يمثلون حزب الله في البرلمان اللبناني توعدوا بالانتقام لهذا العمل الإرهابي حسب تصريحاتهم لقنوات لبنانية، بينما لم يتردد السيد عمران الزعبي، وزير الإعلام السوري، في اتهام السعودية بالاسم ودون مواربة إلى جانب دول خليجية وإسرائيل، التي حلت ثالثا، بالوقوف وراء الهجوم المزدوج على السفارة الإيرانية، والعمل على ما وصفه ب»تعتيم ونشر ثقافة الإرهاب في المنطقة»، وقال: «إن رائحة البترودولار تفوح من كل الأعمال الإرهابية التي ضربت في سورية ولبنان والعراق»، وسمى المخابراتين السعودية والإسرائيلية في الوقوف خلف الإرهاب. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، كيف سيكون الرد على مثل هذا التفجير، الذي هو الثالث من نوعه في الضاحية الجنوبية لبيروت في أقل من عام، وأين؟ هناك نظريتان في هذا الصدد، الأولى تقول إن قيادة «حزب الله» ستتحلى بضبط النفس مثلما فعلت إزاء التفجيرين السابقين، لأنها تدرك جيدا أن الهدف هو استفزازها للرد بأعمال مماثلة في لبنان، في وقت تنشغل فيه في حرب أهم في سورية بعيدا عن جبهتها الداخلية، أما الثانية فتقول عكس ذلك، وأن الرد هذه المرة بات حتميا بطريقة أو بأخرى، ولكن ليس في لبنان على الأرجح، ولا بد أن نذّكر بمناشدة السيد نصر الله لخصومه اللبنانيين بحصر الحرب على الأرض السورية بعيدا عن لبنان، ولكنها لم تجد آذانا صاغية، في ما يبدو، لأن خصومه يعرفون جيدا أن نقطة ضعفه لبنان. نرجح النظرية الأولى، أي ضبط النفس، ولكننا لا نستبعد الثانية، بعد أن أصبحت الحرب مكشوفة، وأطرافها معروفة لا تخفي هويتها ولا نواياها، ومن هنا قد تكون السفارة السعودية في لبنان أحد الأهداف، وتفعيل أو تثوير الطائفة الشيعية في السعودية ونظيراتها في دول خليجية من بين الخيارات الأخرى. إنها حرب «كسر عظم» مرشحة للتوسع والازدياد شراسة، فالتقارير الغربية تتحدث عن دعم الأمير بندر لجماعة إسلامية مسلحة في إقليم بلوشستان الباكستاني المحاذي للحدود الإيرانية الشرقية تحمل اسم «جيش العدالة»، وتثوير الأقليات العرقية (العرق الآذاري) وعرب الأهواز، وقبائل سنية أخرى داخل إيران، لزعزعة استقرار النظام في طهران وجبهته الداخلية، وهؤلاء جميعا يمثلون نصف تعداد السكان تقريبا. الحرب العراقية الإيرانية بدأت بشرارة تفجير في جامعة المستنصرية في بغداد، ومحاولة اغتيال طارق عزيز على أيدي مجموعة قيل إنها تنتمي إلى حزب الدعوة الحاكم رئيسه حاليا في العراق، ولا نستغرب إذا ما شكلت عملية هجوم اليوم على السفارة الإيرانية في بيروت شرارة حرب اغتيالات وتفجيرات، وربما ما هو أكثر. الحرب الإيرانية العراقية استمرت ثماني سنوات وانتهت بالتعادل وتجرع الإمام الخميني كأس السم وأكثر من مليوني ضحية، واستخدامات لأسلحة كيماوية، وقصف مدن. ترى، كم ستستمر الحرب السعودية الإيرانية الزاحفة بسرعة على المنطقة، وكم سيكون عدد ضحاياها، وما هي الأسلحة التي ستستخدم فيها؟ عبد الباري عطوان