محمد فخرالدين الحكاية ينتجها الليل، فالحكي لا يستقيم إلا فيه لذلك ارتبطت الحكاية بالليل، والليالي، وطابقت الليلة كفضاء مخصوص السرد في حكايات ليالي ألف ليلة وليلة قبل أن تغتالها الأضواء القادمة من صور تهجم على المخيلة وتعيقها عن الحركة. تنبعث الحكاية من الظلمة منجبة نور الصورة الحالمة والمتأججة كنار ملتهبة. يخرج الليل ستائره ليطرح صوت الحكاية وهي تفكك الظلمات، تسميها وتستعمل لها رموزا وصورا، وتجعل للأفكار أجنحة، وللشخصيات الهامة نماذج طريفة تولد في المتلقي المرح، أو تجسد المخاوف والقلق في صور ورموز تؤرق الذاكرة وتحيي الخوف الدفين في النفس. والمشكل هنا هو: هل نعد الليلة مقمرة ليلا أو نهارا، ذلك الجواب الذي في حكاية عن النبي سليمان بعد أن طالبته زوجته المدللة بأن يصنع لها فراشا من جميع ريش الطير، فأجاب عنه طائر البوم الذي خاطب النبي سليمان عندما سأله عن سبب تأخره أنه تأخر لأنه كان يساوي الليل مع النهار والنساء مع الرجال، وأن النهار أكثر من الليل، كيف؟ لأن الليلة المقمرة تعد نهارا، وبالتالي لا حكي بحضور القمر. للحكاية علاقة وطيدة مع الديك الذي ينهي الحكاية كقائد سنفونية موسيقية بارع تتبع عصاه المرهفة نجوم الحكاية وتطيعه طوعا وكرها. لا بد أن تنتهي الحكاية بصياحه هو المستخدم في الحكاية للقضاء على العتمة وكجالب للسرور والشروق..وكمالك لمفاتيح الصباح.. صوته يعلو صوت الحكاية ويقفلها بقفل أصفر صدئ حتى إشعار آخر. لابد من احترام الليل، فكائنات الحكاية لا تتحرك إلا فيه، تعالوا معي ننظر فيما نسجته الحكاية من ليال على لسان شهرزاد حيث النهار يعرقل السرد ويرجئه حتى وقت آخر. الثعبان كائن مبتلع لا يعيش إلا في الظلمة ينازع ضوء الحكاية ومصير البطولة. هو يحب الجحور والكهوف والغابات المظلمة ومنابع المياه، ولا يستسيغ النهار. وككل كائن معتم فإنه يعيش ظلمة أبدية في داخله، ويحتاج إلى طقوس تطهير بالنار أو بالماء أو بالملح، ليكتشف أن في داخله بقايا ضوء ما. كعواء ذئب أمام شخص متوحد، يكون صوت الحكاية، وهي تمتلئ حتى تتدفق بالرموز المخيفة التي تطعم الأطفال حليب الغولة من أوعية متدلية على الكتف، وحيث قبس نور النار في ظلمة الليل وسط الغابة يجمع الأطفال من حوله في محاولة منهم للنجاة من الضياع، ليكتشف المتلقي أن النور القليل الذي كان في البداية نار أمل سيتحول إلى مشروع جديد للضياع. فهل تستسلم الحكاية للمخاوف أم تعمل على القضاء على الظلام بنور حقيقي ليس في حقيقة الأمر إلا نور العقل والفطنة على يد بطل الحكاية نفسه المهان و المحتقر؟ لا بد أن تخضع النفس للتجربة وتخدع بالقول والطعام السحري. لا بد أن تهدد في كينونتها ووجودها لتتكامل قوتها الذاتية، حتى تظهر على أحسن ما يكون عارية من الزيف، بل لا بد أن تخرج من صلب الليل قبل صياح أول ديك، ويقدم لها الإغراء حتى تختار مصيرها الذي يحقق الكينونة والوجود. هناك تنبعث الحكاية من جديد، وتخرج من رماد الموقد الذي احترقت فيه الغولة لتحقق الانتصار على كل الرموز المعتمة، وتخرج إلى نور حقيقي تتغلب فيه على الحاجة والخصاء، وتحقق الوفرة والامتلاء الذي هو حلم الإنسانية جمعاء. كل ما يحدث في فضاء الحكاية يؤكد أن الكلمات التي تسمع في الليل ليست هي نفس الكلمات التي تسمع في النهار، وأن المتلقي لا يقابلها بنفس الاستعداد للسماع، فالأذن متعبة في النهار من الضجيج وجلبة والعين تلتقط الصور المسرعة أمامها كأنها ومضات ألوان سرعان ما تفقد معناها. كلمات الليل مورقة تحتوي بذرات الشوق والمتعة والحنين، لذلك أغلب الذين تشبعوا بالحكاية يؤكدون أنهم استمعوا إليها ليلا. أما النهار بأشعته المفسدة للحكاية التي توحي بحقيقة زائفة فمميت وقاتل لجميع التخيلات وقالع للأحلام. ارتبطت الحكاية بالليل لأن كلمات الليل هي مهد الكلمات وشهد الكلام تماما مثل اللمسات والحليب الدافئ على شفتي الرضيع قبل أن يستسلم للنوم على نغمات هدهدات المرضعة المطمئنة. الليل فضاء تستسلم فيه الأذن لمتعة السماع، وتكون فيه أكثر استعدادا لمتابعة اللسان ومداعبة الخيال ومساعدة المخيلة على نسج الحلم لأن حلم الليل أعمق وأصدق كثيرا من أحلام النهار. تلتقط الأذن ما تريد من الكلمات، وتبني منها المشاهد التي تتواطأ معها النفس جزءا جزءا، وهي تتلذذ بالسماع تخلق الصورة داخل الذهن وفي أعماقه. وسواء كان الليل بنجومه البيضاء المتلألئة، أو بلغت فيه الحلكة ذروتها، فإن ذلك لن يؤثر على صوت الحكاية، فلابد أن يسطع ضوء الفجر فيه في النهاية، أو يظهر فيه ضوء البهجة والسرور على شكل فضاءات بهيجة من جبال عالية وقصور واسعة وأنهار جارية. ارتباط الحكاية بالليل يسنده وضع اللسان ووضع الأذن عندما تغرب شمس النهار، ويستسلم اللسان للسرود التي لا ترى إلا في الليل وهي تجري على لسانه مثل الزمن الذي تتداخل لحظاته في سيولة محمومة، وتتسرب من عتمة الليل ومن عتمة الأزمنة القديمة التي لا أحد يستطيع أن يضيء المكان الذي جاءت منه، فعتمتها مستعصية على الكشف لأنها ترتبط بسحر الأزمنة وأزمنة السحر لأنها سليلة أساطير معتمة للتاريخ بصيرورتها الموازية لتاريخه. في الليل يستسلم اللسان لوحدات السرد المعتم وهي تأتي من لا مكان ومن كل مكان. ترتصف هذه الوحدات وتأتي مرتبة ومنظمة لتصل إلى المصب ولتعود من جديد إلى مصدرها المعتم: «سيري أحجايتي من واد إلى واد، وانا نبقى مع الجواد» هؤلاء الأجاود وحدهم يستحقون سماع الحكاية، أما اللئام فتستثنيهم الحكاية من مجالها الليلي، فهم بها غير جديرين. إن الحكاية تحتاج إلى هدوء الليل لتستسلم كائناتها للحركة، وتتموضع أحداثها في المكان وتتسلل في الزمان إلى جحورها لتترك المجال لفرسان النهار. باحث في الحكاية