قراءة نقدية لنصوص المجموعة القصصية "الفزاعة" للكاتب والباحث المغربي : . عبد العزيز غوردو الفزاعة.. الليلة الأولى: لا أريد أن أنام... سأظل هكذا مفتوح العينين، جاحظهما، محملقا في كل شيء كمثل مصباح بليد موقد ليل نهار... لا أريد أن أنام... يقولون بأن الليل صنو الموت، من يدريني إذن لعلي إذا نمت ألا أستيقظ بعدها أبدا؟ من يدريني أني لو غفوت مجرد برهة أنها ستكون النهاية، سيكون آخر عهدي بالنور... بالحياة... بالوجود... لا أريد أن أنام... سأظل هكذا مفتوح العينين، جاحظهما، أنظر ما تفعل الكائنات بعضها ببعض: سأراقب دبيب كل نملة وسقوط كل ورقة توت أو رمان... سأتفحص كيف تغرز الأوابد مخالبها الحديدية في اللحم الطري، وكيف تبتلع الحيات صغار الضفادع المائية... كيف تخون أنثى طيور الجنة زوجها مع عشيق آخر، وكيف يبكي التمساح وهو يهصر بين شدقيه بقايا فريسته... سأراقب كل شيء، سأفترس كل شيء بنظراتي: لن تغرز الأوابد مخالبها الحديدية في اللحم الطري إلا تحت نظراتي، ولن تخون طيور الجنة زوجها مع عشيقها الغجري إلا تحت نظراتي، ولن يبكي التمساح إلا وأنا أحملق فيه، أتأمل برودة الدم التي يهصر بها العظام كما الأغصان اليابسة... لن تغفو لي عين ولن أنام، سأتأمل كيف يسرق القط طعام ولي نعمته... وكيف ينبح الكلب في وجه كلب الجيران، فقط لأنه غريب عن الديار... وكيف يضاجع الذئب أخته التوأم دونما مراعاة لعلاقات الدم والقرابة... سأراقب كل شيء ولن أنام... سأراقب كل شيء وأصمت: فقد مللت الكلام... سأظل هكذا طوال النهار... وفي الليل، آه من الليل، سأسامر ظلي... أختلي مع ضميري أعذبه وأقض مضجعه: أحكي له عن كل ما رأيت طول النهار، أحكي له عن مخالب الأوابد الحديدية، وعن دموع التماسيح، وعن عشق طيور الجنة الذي تضرب به الأمثال... هكذا سأعذب الضمير وأرعبه... سأكشفه أمام نفسه... تحت نظراتي سأجرده من ثيابه الكثيرة كالبصل: سأعريه قشرة قشرة، وكلما نزعت عنه غشاء إلا واحمر خجلا، وأنا أفترسه بنظراتي، أرعبه بحكاياتي... بكل ما رأيت طول النهار... وكلما حكيت له حكاية إلا وخلع ثوبا من ثيابه الأربعين... مثل البصل... وفي الأخير، وإذ يتعرى تماما لن أجد أي شيء، فقط كومة من الثياب كانت فوق بعضها البعض... فقط كومة من الثياب كانت تخفي بعضها بعضا... ولا شيء بالداخل غير العفونة... الليلة الثانية: انقضى الليل طويلا... كئيبا ثقيلا... وأنا ما زلت أسامر ظلي الذي بدأ يتلاشى مع طلائع النور رويدا رويدا... ما زلت أرفض النوم وأجحظ بعيوني في كل شيء حتى لو كان الظلام... سأراقب كل شيء وأصمت: فقد كرهت الكلام... تعتقد الأوابد أن عباءة الليل الكحلية تخفي جرائمها... لكني أجحظ في الظلام فأفضحها، تفترسها مقلتي فتكشف ما يعجز الليل عن إخفائه: هاهنا تنقض بومة بشعة على جرذ صغير فزع يحاول الفرار دون جدوى... وهناك يتسلل ثعلب مخاتل بين فراخ الدجاج فيثير فيها الرعب والقشعريرة... وهذا الأسد الجبار يلغ بلسانه داخل أحشاء مهر جريح، بينما يتربع عقاب ضخم على أشلاء جيفة قذرة يبعثرها بمنقاره الناري... أما أميرة النحل فتضاجع عشيقها في ارتخاء... غدا سيصبح صريعا على شبّاك الخلية... سأظل أجحظ في الظلام... تفترس مقلتي ما يعجز الليل عن إخفائه: تكشف أغشية البصل حتى النخاع... تعريها... وبعد قليل ستنقضي خلوتي، سيطلع النهار... لكنه مثل الليل مليء بالأوابد، وأنا سأتأملها وهي تستغرق وقتها في نهش بعضها بعضا، بهدوء... والساعات تنقضي بهدوء، تنطفئ مثل فقاعات الصابون الفارغة... وكلما انقضت ساعة إلا وطرقت مسمارا جديدا في نعشي... سأظل هكذا، هادئا، قابعا في مكاني، ولن أوذي أحدا: حتى هذه الذبابة التي ترتطم بزجاج نافذتي باحثة عن مخرج... عن منفذ للخارج... فيستفزني طنينها... لن أحرك أي ساكن لإيذائها، سأتركها تبحث عن هذا "الخارج" وهي لا تعلم أنها ستسحق بمجرد عبورها لهذا الزجاج ووجودها بهذا الخارج الذي تجهد نفسها للدخول فيه... سأتركها تختار مصيرها بنفسها ولتتحمل مسؤولية ما اختارت... أما أنا فيكفيني أنني سأظل هكذا قابعا في مكاني ولن أؤذيها... الليلة الثالثة: لم أعد أستطيع الاحتمال: عيناي تسدلان الستار بتثاقل وأنا أحاول جاهدا فتحهما... لم أعد أطلب منهما الجحوظ، فقط أن تظلا مفتوحتين كي لا أنام... لكنني مهدود كالحطام... عيناي لم تعودا تسعفاني بعد كأنهما ليستا عيني... وأنا أرفض أن أنام... وهما تسدلان الستار: من يدريني أني لو طاوعتهما للحظة واحدة أنها ستكون النهاية ولن يرفع الستار بعدها أبدا... سينهشني الموت سيد الأوابد... لكنني لم أعد أستطيع: هناك دائما فرق بين ما نريد وما نستطيع... سأغمض عيني فقط، لكني لن أنام... سأستغرق في التفكير كيما أحطم أشلاء الظلام... لكني بدل أن أستغرق في التفكير... استغرقت، دون شعور مني، في النوم... وتقاذفتني الأحلام: في عمق الحلم رأيتني أتجول داخل حقل شوفان، عاري الرأس حافي الأقدام... في الطرف الآخر للحقل تنتصب فزاعة ضخمة، متشحة بالسواد وهي تمسك منجلا مصقولا يتطاير الموت منه... تماما كما كان "هوغو" يصور الموت في مؤلفاته... وأنا عاري الرأس حافي الأقدام: أطأ الشوك فيدميني، والحقل فارغ إلا مني... حتى الطيور هجرت هذا الحقل المشؤوم... وحدها الفزاعة المرعبة تنتصب قبالتي لا تحرك ساكنا... لكنها تشدني إليها بجاذبية قوية... أريد أن أقاومها، أغرز أقدامي في الأرض، لكنها تقتلعني من جذوري كشقائق النعمان، وتسحبني إليها... هكذا، خطوة خطوة... تشدني إليها بينما تنتصب هي دون تحريك أدنى ساكن، والمنجل الصارم بين يديها... أحاول أن أسير في اتجاه آخر لكني لا أستطيع... شيء ما يدفعني نحوها بقوة، ورجلاي داميتان كشقائق النعمان... لم يعد بيني وبينها غير مسافة قصيرة... خطوة، ربما خطوتان... عيناها الناريتان أوقدتا في وجه ليس بوجه، ودثارها الفولاذي كأنما هو قطعة منه، أو امتداد له! وفجأة، وبسرعة البرق كمارد من الجان، لم أشعر إلا والمنجل السحري يلف عنقي بقوة: يحتز رأسي البائس الذي تدحرج مخضبا بدمائه... وبقيت عيناي في محاجرها تحملقان في جسدي المترنح تارة... وتفترسان الفزاعة التي عادت إلى وضعها الأول الساكن، تارة أخرى... ثم صرخت... استيقظت مفزوعا من النوم وعدت أجحظ بعيوني في جوف الظلام... لست أدري كم استغرق هذا الكابوس المرعب... خيل إلي للحظة أنها كانت النهاية فعلا، لكني طردت النوم عن مقلتي، نفضت الموت عن جفوني، وعدت أفترس كل شيء بعيوني... الليلة الرابعة: هذه الليلة أيضا تكرر الكابوس المرعب عندما تعبت وصرعني النوم: حقل الشوفان... ورجلاي داميتان... والفزاعة المشؤومة احتزت رأسي بضربة قوية من منجلها الصارم بعد أن جرتني إليها... تدحرج رأسي ثم صرخت... استيقظت مفزوعا وبدأت أفترس كل شيء بعيوني... وفي الليلة الخامسة تكرر الكابوس أيضا... ثم في الليلة السادسة، تكرر بنفس التفاصيل والحيثيات: حقل الشوفان... حقل الشوفان المشؤوم الذي هجرته الطيور... وفزاعة الأحزان... ورجلاي داميتان كشقائق النعمان... ثم رأسي الذي تدحرج تحت منجل الشيطان... الليلة السابعة: خرجت من الجحر الذي كنت فيه... مثل تلك الذبابة، انطلقت للخارج باحثا عن مصيري: إن بقائي داخل جحري يعني صراعا جديدا مع النوم اللعين، وأنا اكتفيت من الصراع والكوابيس... بعد أن سرت مدة من الزمن، وجدتني أمام جحري من جديد: عندما تسير في مضمار مغلق فكلما ابتعدت عن نقطة انطلاقك إلا واقتربت منها في نفس الوقت... هكذا أخذت طريقا آخر مختلفا ومشيت الهوينى... ثم مشيت... خيل إلي أنني أمشي في هذا الطريق من سنين طويلة، وباستثناء هذه الخيالات فرأسي فارغ، خال من كل تفكير كالفقاعة... وحدها عيوني تبحث عن شيء تفترسه... وفجأة... تسمرت في مكاني: وجدتني داخل حقل شوفان... ... تماما كما في الحلم اللعين... وفي الطرف الآخر للحقل تنتصب فزاعة ضخمة متشحة بالسواد وهي تمسك منجلا صارما ولا تحرك ساكنا... ... تماما كما في الحلم اللعين... حاولت أن أغرز أقدامي في الأرض لكنها اقتلعتني من جذوري كشقائق النعمان... حاولت أن أسير في اتجاه آخر دون جدوى... جاذبية قوية تشدني إليها وتسحبني، ورجلاي داميتان كشقائق النعمان... أصبحت الآن قريبا منها، حملقت فيها: في العينين الناريتين والوجه الذي لا يشبه الوجه... ... تماما كما في الحلم اللعين... والمنجل الصارم بين يديها... جف ريقي... جحظت عيناي فزعا... بعد قليل سيتدحرج رأسي مخضبا بدمائه... لم يطل انتظاري: هوت علي بمنجلها كالصاعقة... صرخت... استيقظت مفزوعا وبدأت أفترس كل شيء بعيوني... انتهى النص للمبدع د/ عبد العزيز غورد " " تقديم على سبيل التحية الواجبة الكلمة كانت البدء .. كان الانفجار ..كان الابهار .. كان انبثاق الفجر الناعس من شرنقة الابداع لينسج خيوطاً حريرية ناعمة ملساء تتمدد ..تتشعب .. تصنع ملاييناً من الأنسجة ..غير أن الخريف يدهمها فتعود إلى جدثها مرة أخرى ..وصوت الروح الملهمة يتردد صداه فى الأفق البعيد "لاأريد أن أنام " ويعود الانبثاق من جديد .. لينسج نفس الخيوط الحريرية ..يتمدد ..يتشعب ..يصنع ملاييناً من الأنسجة ... وهكذا دواليك ..بين الحياة والموت .. اختار الكاتب تلك اللحظة الفاصلة ...لحظة مابين النوم / الموت - الاستيقاظ / الحياة .. لحظة اغفاءة النفس .. وتجلى الروح .. وقشعريرة الجسد البالي .. اللحظة التى تعج بالمشاهد والاحداث والأسئلة والأطياف والأماني المضحكة والندم السخيف والشهوة المتأججة ..والدموع التى تتأرجح بين فرح النجاة تارة وقهر التردى أخرى .. في تلك اللحظة الحاسمة ..نثر الكاتب فن بورتريه فلسفي تتكاثر فيه خيوط الحرير وتتشابك بل وتتناسل ..وتنتثر فى كل اتجاه كبذور الأقحوان فى الربيع ... فهيا بنا نطوف فى الليالي السبعة من الفزّاعة ...ربما نجد ضالتنا .. ربما ندرك ..حكمة الموت الذى لا يموت . ******** رؤية فى الليالى السبع من ....الفزّاعة من الواضح أن تيار اللاوعى سيطر على النص ... حيث تبلور مفهوم التغييب والأحلام - الحلم المتكرر - وأصبح هو التيمة المسيطرة .. وفى غمرة السقوط القيمى للإنسان حيث يغيب عن حضوره الروحى الخالد ..أى حين ينحاز انحيازا مطلقاً لطبيعته المادية ..حين تستسلم الروح وتخضع لهيمنة تيار اللاوعى ..فتنحسر داخل حدوده وقوانينه وهل تيار اللاوعى تحكمه حدود وقوانين ..؟ أم أن المطلق هو المباح ..؟! تلك قضية أخرى ...ففى هذا التيار العجيب الذى هو صنو الموت كما وضح من كلمات الكاتب ..نرى قوانين اللذة والألم والاجتياح النفسى المحض بالمعنى العبثى .. فى الليالي السبع لم يبزغ بعد فجر المعقول .. إذ هيمن الحلم على ملكات بطل النص وأقض مضجعه ..بل جعله يسقط فى عمق هاوية سحيقة من نفسه الضائعة .. سقط صاحبنا مملوكا لشهواته الدنوية وأسيراً لشياطينه الثائرة فى أعماقه -وإن كان ذلك لم يتم صراحة - وهكذا مارست الذات سقوطها بل وغيابها بلا توقف مندفعة اندفاعاً عبثياً نحو الهاوية المظلمة .. أما فى فترة صحوتها القليلة فهى متبلدة بالوهم الذى هيمن عليها فأمست أسيرة فى قبضته يسلبها كيفما شاء وإن بدا أنها تسقط بإرادتها واختيارها .. ودارت فى الليالى السبع ملحمة عبودية الذات وقمعها وتغييبها والدليل تكرار الحلم وتوالى سقوط الرأس بمنجل الفزّاعة .. غير أننا نلمح بصيصاً من نور خافت يتمثّل فى "حقل الشوفان" الذى يرمز -من وجهة نظرى- إلى الخير والجمال والأمل ... لكن المحصلة النهائية من تلك القيم النبيلة لا تكفى لأن تمنع الفزّاعة من أن ترفع منجلها الصارم وتحصد به رأس المسكين سبع مرات متتالية ... أليست سطوة السقوط القيمى أعم وأشمل ..؟!