الملك يهنئ محمود عباس ويجدد دعم المغرب لحقوق الشعب الفلسطيني    "التقدم والاشتراكية" يعلن رفضه لمشروع قانون مالية 2026 ويصفه ب"المخيّب للآمال"    نواب "العدالة والتنمية" يطالبون بلجنة تقصّي حقائق في صفقات الدواء وسط اتهامات بتضارب المصالح بين الوزراء    نشرة انذارية تحذر من امطار قوية بالمناطق الشمالية    "ترانسافيا" تطلق أربع رحلات أسبوعياً بين رين وبريست ومراكش على مدار السنة    إطلاق الموسم الفلاحي الجديد مع برنامج بقيمة 12.8 مليار درهم وتوزيع 1.5 مليون قنطار من البذور المختارة    ترامب يلمح لقرار بشأن فنزويلا والجيش الأمريكي يبدأ عملية ضد تجار المخدرات في أمريكا اللاتينية    محام: المحجوزات تتراكم في المحاكم    الركراكي: علينا المحافظة على الثقة في هذه المجموعة ونحن نعرف كيفية تحقيق الفوز    خطاب "العُكار": حين يفضح "أحمر الشفاه" منطق السلطة..تحليل نقدي في دلالات وأبعاد تصريح وزير العدل حول الفساد    طقس ممطر في توقعات اليوم السبت بالمغرب    الجديدة تحتضن المؤتمر العام الإقليمي للاتحاد العام للمقاولات والمهن بحضور شخصيات وازنة    هل تستطيع الجزائر تفكيك سردية العداء لبناء وطنها المُتخيَّل؟ .    مباراة ودية بطنجة .. المنتخب المغربي يفوز على نظيره الموزمبيقي بهدف لصفر    المغرب يهزم الموزمبيق ودياً بهدف أوناحي.. والركراكي: "لدينا اليوم أسلحة متعددة وأساليب مختلفة"    الشرطة تحجز آلاف الأقراص المخدرة    المسرحية المغربية "إكستازيا" تهيمن على جوائز الدورة 30 لمهرجان الأردن المسرحي    ترقية استثنائية لشرطي بآسفي بعد تعرضه لاعتداء خلال تأمين محيط مؤسسة تعليمية    المنتخب المغربي يهزم موزمبيق وديا.. أوناحي يسجل أول هدف في ملعب طنجة بعد تجديده    منظمة الصحة العالمية تعترف بالمغرب بلدًا متحكمًا في التهاب الكبد الفيروسي "ب"    مجلس النواب يصادق على مشروع قانون المالية لسنة 2026    الجزائر.. إجلاء عشرات العائلات جراء حرائق غابات كبيرة غرب العاصمة    تداولات بورصة الدار البيضاء سلبية    المغرب يُنتخب لولاية ثانية داخل اللجنة التنفيذية لهيئة الدستور الغذائي (الكودكس) ممثلاً لإفريقيا    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    الطرق السيارة بالمغرب.. افتتاح فرع مفترق سيدي معروف بمعايير هندسية وتقنية دقيقة    أبوظبي.. ثلاثة أعمال أدبية مغربية ضمن القوائم القصيرة لجائزة "سرد الذهب 2025"    ملعب طنجة.. الصحافة الدولية تسميه "ابن بطوطة" ومطالب محلية بتثبيت الاسم رسميًا    إطلاق المرحلة الثالثة من تذاكر "الكان"    أمطار رعدية ورياح قوية بعدة مناطق    مبديع: "أنا ماشي شفار ومنطيحش ريوكي على فلوس الجماعة"    وزارة الصحة تطلق حملة وطنية للكشف والتحسيس بداء السكري    جنوب إفريقيا تحتجز 150 فلسطينيا    بوانوو: بلاغ وزارة الصحة لم يحمل أي معطى حول شبهة تضارب المصالح ولم يشرح التراخيص المؤقتة للأدوية التي يلفها الغموض التام    شَرِيدٌ وَأَعْدُو بِخُفِّ الْغَزَالَةِ فِي شَلَلِي    متابعة "ديجي فان" في حالة سراح    إحباط محاولة لاغتيال أحد كبار المسؤولين الروس    بطولة اسكتلندا.. شكوك حول مستقبل المدرب أونيل مع سلتيك    دراسة: ضعف الذكاء يحد من القدرة على تمييز الكلام وسط الضوضاء    الملك يهنئ خالد العناني بعد انتخابه مديرا عاما لليونسكو    موقع عبري: الجالية اليهودية في المغرب تفكر في استخراج جثمان أسيدون ونقله إلى مكان آخر بسبب دعمه ل"حماس"    شركة الإذاعة والتلفزة تسلط الضوء على تجربة القناة الرابعة في دعم المواهب الموسيقية    تصفيات مونديال 2026.. مدرب إيرلندا بعد طرد رونالدو "لا علاقة لي بالبطاقة الحمراء"    رشق الرئيس السابق لاتحاد الكرة الإسباني بالبيض في حفل إطلاق كتابه    بوعلام صنصال بعد الإفراج: "أنا قوي"    استطلاع: 15% من الأسر المغربية تفضل تعليم الأولاد على الفتيات.. و30% من الأزواج يمنعون النساء من العمل    مجلس النواب يصادق على الجزء الأول من مشروع قانون المالية لسنة 2026    مدير المخابرات الفرنسية: المغرب شريك لا غنى عنه في مواجهة الإرهاب    المركز الثقافي الصيني بالرباط يُنظّم حفل "TEA FOR HARMONY – Yaji Cultural Salon"...    تحطم مقاتلة يصرع طيارين في روسيا    المسلم والإسلامي..    ثَلَاثَةُ أَطْيَافٍ مِنْ آسِفِي: إِدْمُون، سَلُومُون، أَسِيدُون    دراسة: لا صلة بين تناول الباراسيتامول خلال الحمل وإصابة الطفل بالتوحد    مرض السل تسبب بوفاة أزيد من مليون شخص العام الماضي وفقا لمنظمة الصحة العالمية    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بورخيس: كتابة العكّازة ليلية
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 19 - 05 - 2012

معافو النظر هم مباشرون وسريعو الجواب، عثورهم على الأشياء قادم من النظر كهبة، هذه المنّة البيولوجية هي التي تجعل التفكير يتجه نحو المباشرة. تفكير ببصر ممنوح وغير مكتسب بالتدريب والتربية. المباشرة هي نتيجة الهِبة، يتعلق الأمر بالأدب أيضاً عندما يكون صنيعة الهِبة. أمّا العميان فهم تدريجيون بسبب غياب الهبِة تلك، كما نتاجهم الأدبي تدريجي أيضاً. جوابهم مفكَر به متأنٍ يشبه السرد، يأتي من تعودهم الطويل محاولة العثور على الطريق، ومن ألفة التعامل التدريجي بعصا الضرير. الكاتب الأعمى في حالة بورخيس هو تدريجي التحوّل، وزمنه تدريجي أيضاً. هو شاهد الشمس عندما كان مبصراً ويعاشر الغروب عندما صار أعمى، بخلاف الكاتب المعافى الذي لديه تجربة الضوء وحدها. من يمتلك صفة واحدة يتعلّم المباشرة لأنه لا يمتلك نقيضها.
يبدو أن كتابة الروايات من قبل الكتّاب المبصرين تحتاج إلى وسائل ربط كثيرة، المبصر أحوج إلى الدليل وإلى المأوى من الأعمى. تساعده وسائل الربط انجاز النصوص وتجميع أجزائها، فالمبصر يعاني التفّكك على رغم امتلاكه واحدة من وسائل التجميع وهي العينين. وهكذا، يلتجأ إلى وسائط ربط كثيرة ليستجمع موضوعه، هذه هي صفات كتابة الكاتب المبصر، وهي ليست نقيصة أو خللاً الاّ بقدر كونها كتابة هِبة، لا كتابة تدريب وتفكير مكتسب. الكاتب الذي ينأى بكتابته عن وسائل الربط الكثيرة يقترب من كتابة الأعمى. الكاتب الأعمى هو الكاتب بوسائل ربط قليلة. أو الكاتب بالعكازة.
يعتمد بورخيس في كتابة نصوصه على وسائل ربط ، لكنه لا يكثر منها، مكتفياً بعكازة الضرير كوسيلة ربط إجمالية وجامعة، يستطيع تهذيبها وتدريبها كي تكون حاضرة متى يشاء. يقول: »أنا عاجز عن كتابة الرواية. أنا كسول والرواية الواحدة بحاجة إلى العديد من وسائل الربط. فإذا كانت هناك وسائل ربط زائدة عن الحاجة في ثلاثٍ من صفحاتي، ففي ثلاثمائة صفحة لن يكون هناك غير ذلك«. كتاب »المرايا والمتاهات«، ترجمة إبراهم الخطيب. يستعين بورخيس بالكسل ليصف امتناعه عن كتابة الرواية، وهنا تورية الأعمى، يستعملها من أجل الاّ يضحي بعلاقته الحميمية مع العكازة. تورية تحصر الود بالعكازة.
يكتب سبينوزا: »إن الأفكار المتعلقة بالآثار الحاصلة في الجسم الإنساني، من حيث ما هي متعلقة بالعقل الإنساني فقط، ليست واضحة ومتميزة، بل غامضة.«
لو لم يكن بورخيس أعمى لكانت توريته مفضوحة. فحياة بورخيس التي تعرف الجدّ ونهم القراءة والدّقة غير المتناهية في تصحيح وإعداد مخطوطاته، لهي بعيدة تماماً عن الكسل والتراخي، هو يوّجه الجد والمثابرة إلى الإنتاج الإدبي وإلى الصفة العائلية، عندما يقترن بالعكازة، التي تعني لديه أكبر وسيلة ربط كتابية، يتعلّم منها ربط عوالم غير مألوفة على الحياة وعلى الأدب. التعلّق بالعكازة هو علاقة عاطفية أسرية، تعوضه فقدان والديه، وإن هما لم يتوفيا باكراً، بل توفيا عضوياً في حالته عندما أنجباه بين الكتب، فقد تحولا (الأم والأب) إلى صفتين إبداعيتين.
يقول من جهة الأمّ: »ولدتُ في مكتبة كبيرة«، ومن جهة الأب: »سمح لي بقراءة الكتب المحرّمة على سنّي«. أتساءل، لا سأتحاشى الأسئلة من جانبي الشخصي فهي ضد إرادة بورخيس، جاعلاً عكازة الضرير هي السائِلة، فقد يتعذر عليه كرهها. كيف سيكون أدب بورخيس، لو كان مبصراً، أو بالأحرى، لو كان أعمى من دوني، أنا العكازة؟.
علاقة الأعمى بالعكازة استدلالية، شرحٌ للرغبات والتعاون معها على تنفيذها، يشرح الأعمى للعكازة وجهته ويهتدي بها اليها، تتقمص هذه العلاقة صفات السرد، ولها سيرورة التأليف؛ رغبة في قول شيء ما، إحلال الرغبة في القول، ثم الاهتداء الى الطريق الذي هو النص. النص هو ذاته استدلال، يحتمل الضلالة والهداية معاً بحسب ما يريده الكاتب من أدبه؛ الشهرة والثراء، أم البقاء حياً فقيراً ومهملاً عند ممارسة الكتابة. هكذا تصبح العلاقة بالعكازة أدبية، تمنح الكاتب الضرير استعمال الرموز والتوريات في أسلوبه، وهو (أسلوب بورخيس بامتياز) بسبب علاقة المداومة اليومية والتآلف معها. رابطة تدريب وتفكي.
لا يحب بورخيس الأسئلة يكتب: »تروي الأخبار، عندما كان أستاذاً، أنه لم يكن يضع السؤال إطلاقاً في أثناء الامتحانات، بل يدعو التلاميذ إلى جانب ما من أي موضوع، ثم وضعه بعين الاعتبار، كما لم يكن يطالبهم بالتواريخ زاعماً أنه ذاته كان على جهل بها. وكان يمقت البيبلوغرافيا التي تبعد الطلاب عن المصادر«. سأقتفي موضوعاً رمزياً في حياته التي تخلو من التفاصيل، وهو مجهولية سيرته؛ اختفاء وأسرار بوليسية كما في قصصه. لا توجد لديه سيرة ذاتية مكتوبة، يذكرُ والديه رمزياً، ومرّة واحدة يذكر شقيقته في »نبذة بيواغرافية«، التي ستنشر بمدينة سانتياغو بالشيلي العام 2074،: »بورخيس، خورخي فرانشيسكو إيسيدُورو لويس: كاتب وعصامي من مواليد بوينس ايرس، عاصمة الأرجنتين إذ ذاك، سنة 1899، لا يُعلم تاريخ وفاته، نظراً لأن الصحف، وهي نوع أدبي ينتمي إلى تلك الحقبة، قد عاشت خلال الصراعات الواسعة التي يرويها لنا اليوم المؤرخون الجهويون. كان أبوه اُستاذاً للسيكلوجيا، وكان هو أخاً لنورا بورخيس«. كل شيء لديه غامض ومريب، باستثناء الكتب والعكازة، على رغم آرائه عن الكتب المُريبة. هنا تورية كذلك.
كتابة العكازة ليلية
العكازة لا تنتج أدباً، إنّما هي ضالعة في التأليف. ثمة تأليفات هائلة في الحياة، واحدة منها هو التأليف الأدبي. مثلاً، ترتيب الكراسي حول الطاولات في المقهى، وعلاقة هذا الشكل بالرصيف، لهو تأليف أسميه التأليف المكاني، والأسئلة في حركتها، هي من التأليف الزماني لأنها تتناسب وحركة الزمان طردياً، توّسعه ويوّسعها، وهلّم جرا. المكان مؤلِف ومؤلَف، الزمان هكذا، والكاتب هو مؤلِف ومؤلَف. ينبغي اعادة الإعتبار إلى التأليف عوض الاقتصار على كلمة الكتابة فقط، التي فيها الكثير من المحدودية والاستعلائية وتخص الأدب حصرياً. التأليف مفهوم أعم وأشمل ويعطي الأدب صفات الكتلة المرتبطة بعوالم غير الكلمات والتعابير والتشبيهات اللغوية. في التأليف تشاركية تنزع من الكتابة اصطفائيتها، وفيه اعتبار وضمّ لمؤلفين غير عضويين إلى عالم الإبداع. ألا يوجد مثلاً تأليف غير أدبي في علاقة اللوحة مع الإطار، أو في علاقة الألوان مع كتلة المحيط الخارج عن اللوحة، مثلاً، الجدار المعلق عليه اللوحة؟
يرفض بورخيس التضحية بالعكازة، فلا شيء يعوض مكانتها عند الضرير إلاّ الكتابة، الكتابة والعكازة متعاونان في عملية شروق وغروب تعاقب الليل والنهار، أفول وبزوغ. لكليهما صفات شمسية وليلية، لا أقصد القراءة أو الكتابة مثلاً في الليل أو في النهار فحسب، إنمّا أرضية الأبداع، فالفكر يكون نهارياً من خلال وسيلة اتصاله بالظلام، ويكون ليلياً من طريق حجم الظلام الذي يود ازاحته عن الضوء، بغض النظر على أن مادة الشر في الأدب هي أساسية وأحياناً فاعلة أكثر من الخير. فالعكازة ليلية، وذلك لأنها ترشد الضرير إلى الطريق، هي تقوم بمقام العينين والنور، لكنها غير العينين وغير النور، وعلى هذا النحو هي أدبية. أليس الأدب هو أي شيء يقوم بمقام شيء آخر؟. الليل ذو طبقات وصفات (قدحية) كثيرة مقارنة بصفات المديح النهارية، كلّ طبقة ليلية ذات مستويات تحاكي المتاهة، الإبداع ذو طبقات ومستويات، النص يفرك الطبقة الواحدة بغية توليد طبقات، والفعل هذا مستمر وأزلي طالما هناك ليل مبدع ونهار مبدع. لكن النهار المبدع ضعيف درامياً في بنيته، من حيث عدد الطبقات وحجمها وقابليتها على الحك. أو على الأصح، النهار المبدع ذو طبقة واحدة. كان آدم في الجنة كائناً نهارياً مطيعاً منفّذاً، ثم انقلب إلى روح ليليّ جراء المعصية. كان النهار بفضائله قبْلياً ثم جاء الليل تالياً مزيحاً (بمساوئه) النهار وفضائله . أليست هذه الإزاحة قيمة إبداعية تهفو اليها النصوص؟
نحن للأسف نضع الليل والنهار في مقارنة أخلاقية لجهة النهار، بالرغم أنهما يتشابهان في الفضائل والمساوئ. هذه المقارنة تفضح قصورالفكر ونزوع الإنسان التأصيلي نحو الظلم، كما تُظهر في المقابل اللغة بوتيرة واحدة عند مقاربة مفاهيم العدالة والظلم والخيانة وفي الوصف والتشبيهات شاهرة نظمها القديمة البالية وعياً. من المأساة أن تبتعد اللغة عن الوعي، والأنكى أن يساهم الأدب في تسطيح وعي اللغة.
نحن منحازون أدباً وتعاملاً من دون وعي إلى النهار، نجعل الليل موطئ الذم، وهو سعيد بتواطئنا، لأنه يغريه البحث واكتساب (الفضائل)، بينما نضعف النهار بجعله وحده حائز الفضائل. ثابت، لا يسعى إلى الاكتساب. هناك مقولة »المرء يكتسب قوة الإنسان الذي يصارعه«، وعليه يكتسب الليل طاقة النهار، ويبدو بطاقتين؛ طاقته الذاتية وطاقة النهار المكتسبة.
ثمة شاهد تاريخي من وحي الصراع الأخلاقي المزمن بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. كان علي يقول بما معناه: »... حتى قال الناس، هذا علي ومعاوية«. استدرج معاوية علياً إلى فخ المقارنة، أصبح يُقرن اليه، ويُقارن به، أي اكتسب فضائله ومَنحه مساوئه، على اعتبار علي هو الأفضل.
التقلّب في النصوص هو نزوع ليلي، قريب من عبارة »يتقلّب في فراشه«، أي ليلاً، وهل يتقلب البشر نهاراً؟، وهكذا القلب من كلمة يتقلّب هو ليلي، الإنسان من دون كل الموجودات على الأرض هو المتغير شديد الوعي، وهو ليلي من باب التحوّل والتبدّل سواء نحو الأحسن أو الأسوأ. النهار لديه دائماً مأزق يجعله مرائياً وهو خشية التحوّل، سوف أستعمل هنا عبارات الليل للمديح وعبارات النهار للذم. المأزق (ليلي)، محمود لأنه يسعى إلى الحلول، لكن الثبات (نهاري)، مذموم. يخاف النهار عندما يتغير أن يصبح ليلاً، الخوف والريبة محمودان، المراءاة محمودة إبداعياً وهي من صفات الأدب تسعى إلى إظهار عدّة وجوه، متبنية النيّة المبطنة. لكن مأزق النهار ذاك مستهجن، لأنه يسير ضد إرادة الحياة وهي التحوّل، وعليه سيبقى النهار مطية أثقال الدولة والكتاّب الرسميين والفقهاء، النهار معدوم المروءة إذن، فاقد نزاهته بإرادته. كما سيبقى الليل ندّاً شريفاً. تغيّر النهار إلى ظلام غير مقبول بشرياً متصلاً فطرياً بالشرّ، لكن تغيّر الظلام مقبول ومستحسن، فهو يتغير إلى النور. النهار ثابت وإيجابي دائماً، ما يبعده عن صفات الإبداع التي هي متقلبة تتغير وتتبدّل.
سلالة فجوات
عندما كان بورخيس مبصراً، كان شاعراً يسعى إلى تكوين »أدب وطني«، تماشياً مع توجهات الشعر الغنائي الحالم بحاجات وأهداف عاطفية تفسر الانتماء والهوية. الغنائية تحتاج إلى ارتباطات متعامدة لأنها سلسلة أنساق، تميل إلى حيازة السلطة والجاه، بل وتبحث حتى في جذورها العشائرية. النسق المتسلّسل يلبى حاجات وجودها. لا يتحقّق وجود الغنائية من دون المظلة، والغياب عدوها يعني لها الفراغ. اللانتماء هو الموت بالنسبة اليها. يسعى الشعر الغنائي دوماً نحو الحضور الفعلي لا الرمزي، الذي يتجلى على هيئة مستمعيِن، أو هيئة الاُذن. الاُذن تنتمي سريعاً حال الطلب منها، والعين تتوجس الانتماء المباشر، تنتمي بعد صراع أو بعد أزمة. الغنائية هي الاُذن، كلاهما يبحث عن مظلة وعن أسلاف ومريدين. حالة بورخيس عندما كان مبصراً، هي حالة الأذن تلك المنتمية، حالة الشعر الغنائي. من المعلوم أن بورخيس بدأ يفقد بصره تدريجياً، أي بدأ يفقد الهِبة الممنوحة اليه، يفقد الأذن الطربية متعايشاً مع العين أكثر من أي وقت مضى.
تمّ هذا التحوّل في أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث لم يعُد الطرب كافياً لتفسير مشاكل العالم. الطرب يسفّه الأفكار ويجعلها غافلة لاهية. مذاك انتفت الحاجة الى وجود كتابة الاُذن، أي الغنائية، فأصبحت كتابة العين الفاحصة تعويضاً للعمى البيولوجي ضرورة لابدّ منها. في هذه الحقبة الزمنية بالذات، بدأ بورخيس كتابة القصة، عند أفول وظيفة الاُذن وغياب البصر كهِبة. بمعنى إن الشعر في حالة بورخيس هو هِبة الاُذن والقصة هو هِبة العمى. نعم، العمى وهّاب في حالة الكاتب الضرير بخلاف ما يُعتقد بأن الضرارة هي سالبة. العميان إجمالاً هم مؤلفون وإن لم يكتبوا الأدب، إنما لهم صفة التأليف التي تعني هنا علاقة السرد فيما بينهم والعكازة، أو من حيث البناء الدرامي في علاقتهم مع الطريق ومع الظلام. لاحظ بورخيس أن أمناء مكتبة بوينس آيريس كلهم عميان. هؤلاء كما بورخيس يقرأون الكتب من خلال السرد الذي يقوم به قارئ عضوي سواهم، فهم يستمعون السرد من قبل طرفين مغايرين، غير متناحرين؛ العكازة وقارئ الأعمى.
يقول بورخيس: » أن كلمة حكاية لها الحق في الوجود، لأن كل تفصيل في هذا الشكل، إنما وضع بمراعاة البناء العام. وهذا التطور الصارم يمكن أن يكون ضرورياً وبديعاً في نص قصير«. شكلُ القصة، قصير. تطلب العين الفهم، وشكل الفهم عمودي ثاقب، أحياناً يشبه رأس الدبوس صغير الحجم متناهٍ لكنه حاد، بينما تطلب الأذن الانتشار الذي يحتاج مساحة كبيرة، تجد ضالتها في الأفواه وفي الجمهور. ثمة مقاربة بين المُخبر والأُذن، كلاهما في تعقب الكلام والاستفادة منه. اللافت في القبس المذكور آنفاً كلمة »لها الحق«. الحق عينيّ، بينما تسعى الأذن متجلية المُخبر إلى الباطل عند تحريف الكلام، كي يتطابق ووظيفة المُخبر.
هكذا، ساهم العمى التدريجي بالتحوّل من الشعر إلى القصة، وعليه في الانفصال عن الانتماء العاطفي إلى »الأدب الوطني«، متنقّلاً من الانتماء المظلي الذي يحوز القرابين والقرائن والدولة، إلى الانتماء العاري المغلّف بالمكشوف وهو انتماء الفجوات. التعوّد هو ما يربط الانتماءين وما يفرقهما. الانتماء المظلي يستمد إسمه من المظلة، إنه يتعوّد الظلال والراحة والتبعية، ممارساً أخلاق الستائر ومناصباً العري العداء. انتماء الفجوات ينتسب إلى المكشوف، عصامي، منهمك بالمحاولات، ممارساً أخلاق العراء. لا يقصي الظلّ، فهو ليس عدواً له، إنّما أعداؤه هي المظلات والستائر. يقول دولوز: »إذا كان النّجار يدّعي صداقة الخشب، فإنه مضطر للدفاع عن شدّة صداقته قياساً إلى الحطّاب وحارس الغابة وصانع الخشب.»
النور عذاب جديد
يقول بورخيس: »في الماضي كان العالم الخارجي يتدخل كثيرا في يومياتي، أمّا الآن فصار العالم برمته في داخلي. صرت أبصر على نحو أفضل، ذلك أني بتّ أستطيع رؤية الأمور التي أحلم بها. حلّ العمى تدريجيا، لم يأت مباغتة أو على نحو درامي. في حال فقد المرء البصر فجأة، تتحطم الدنيا إربا أمامه، بلا شك. غير أنه في حال مرّ بمرحلة الغروب، يشعر بأن الزمن يتدفق على نحو مختلف«. هو يقتفي أثر كفافيس في قصيدة النوافذ: »ربما، سيكون النور عذاباً جديداً«، ثمة تغريب انقلابي إبداعي وبيولوجي للرموز كما في قصصه: تتغرّب الظلمة وتترحل وظيفتها من الحجب إلى الكشف، صارت ضوءاً داخلياً، وبعدما كانت الظلمة تشجع السرقة، صارت حارساً يحمي بورخيس من سطو العالم الخارجي. عندما غرق عالمه البيولوجي في الظلام، صار أشدّ نوراً، وأشدّ رؤية. صارت الظلمة غير كتلة جامدة، بل متدفقة، زمنها يسيل. هذا كلّه بفضل التحوّل التدريجي الذي صار متدفّقاً. هل هذا التحوّل تم بمعاونة السرد؟. يتطلّب السرد التمهل والانتظار والعناية، وهذه تخالف صفات اللسان بوصفه سارداً، الموصوفة بالتسرّع والتهور، هل اكتسب بورخيس من لسان شهرزاد المعجب بحكاياته، صفتي الحيلة والتأني؟. في حالته: الاحتيال على الظلام بالعكازة والكتب، التأني هو السرد.
(*) كاتب عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.