ترك طه حسين طريقته الخاصة في الكتابة، وأسلوبا كنا نسمع أساتذتنا في اللغة العربية يقولون إنه مليء بالمحسنات البديعية والإطناب، ومهما قيل في أسلوب صاحب«الأيام» فالواجب أن يضاف عليه: مستحيل التقليد. وأحلم دائما أن أجد وقتا لكي أعود فأقرأ«أديب» أو«دعاء الكروان» مرة أخرى، ففي قراءة طه حسين تشعر بنفسك تنزق في جبل من العشب دون أن تدرك بأنك تسقط نحو القمة، وعندما يكون الأسلوب مستحيل التقليد يكون متفردا، وإذا كان متفردا فتلك هي العبقرية. وكلما فكرت في طه حسين فكرت في الثاني، خورخي لويس بورخيس. ولا أعرف علاقة بين الرجلين سوى فقدان البصر، وللأسف لم يتفرغ الدارسون كثيرا لكي يتحدثوا عن أدب العمى وخصوصياته، وعلى الأخص منهم المهتمون بالتحليل النفسي في النقد الأدبي، وهم قليلون على أية حال، أو كانوا قليلين، لأن الذين ظهروا منهم انطفأوا سريعا بعد زوال مرحلة الإعجاب بمدارس التحليل النفسي في الغرب. الكاتب الأعمى سجين التاريخ، ربما لأن العمى نفسه هو شكل آخر للسجن، سجن الذات، لذلك يسعى الأعمى إلى فتح كوة في عقله لكي يطل منها على التاريخ. كان طه حسين معجبا غاية الإعجاب بشاعر المعرة أبي العلاء، وكتب عنه رسالة جامعية هي«رحلة أبي العلاء»، ومنذ ذلك الوقت بقي يسكن بجوار أعمى معرة النعمان لا يبارحه، حتى كتب عنه كتابا أسماه«مع أبي العلاء في سجنه». وقد اختلق في هذا الكتاب العجيب لقاءات مطولة مع الشاعر المتشائم الناقم على زمانه، إلى درجة أنه تخيل نفسه يدخل عليه في خلوته، تلك الخلوة التي طالت أكثر مما يجب وجعلته يقول بيتيه الشهيرين: أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيت لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسم الخبيث وبهذا أصبح أبو العلاء أول من صور العمى سجنا، ولكنه أضاف إليه سجنين آخرين، هما الإقامة الجبرية الطوعية في بيته، ووجود نفسه الطموحة داخل جسم خبيث غير مقبول اجتماعيا. وما فعله طه حسين فعله أستاذه قبله بقرون. ففي «رسالة الغفران» فتح المعري كوة على التاريخ، ولكنه تاريخ من نوع آخر، تاريخ المستقبل. إذ كتب، على شكل رسالة مطولة إلى ابن القارح، مشاهداته في الدار الآخرة، فوضع بعض من يعرفهم من الشعراء والكتاب في جهنم، ووضع آخرين في الفردوس، وأطلق لخياله العنان فصور لنا حواراته مع من رآهم في الجانبين، ونقل على ألسنتهم أسباب وجودهم هنا أو هناك، وطبيعة الآثام أو الحسنات التي جعلتهم في ذلك الموقع. وظلت تلك الرسالة فريدة من نوعها في تاريخ الأدب العالمي، حتى إن النقاد يقولون إن الكوميديا الإلهية للشاعر دانتي، التي صور فيها نبي الإسلام في هيئة لا تليق، كانت نسخا لرسالة المعري، التي ترجمت بالطبع إلى اللغات الأخرى. أما بورخيس، الأديب الأرجنتيني، فقد وجد ضالته في الفيلسوف العربي ابن رشد وفي كتاب العرب «ألف ليلة وليلة»، وفتح لنفسه، كما فعل طه حسين والمعري، كوة على التاريخ والغيب لكي يجد متنفسا له في سجن العمى. اختلق بورخيس، صاحب «كتاب الرمل»، حوارات مع شخوص ألف ليلة وليلة ومع فيلسوف قرطبة الذي حاربه الغزالي في«تهافت الفلاسفة». وكما فعل المعري، الذي رحل إلى الدار الآخرة، أي العالم اللامتناهي، انحشر بورخيس في اللامتناهي هو الآخر، فكتب عن المكتبة اللانهائية وكتاب الرمل الذي لا تنتهي صفحاته أبدا. والثلاثة معا نموذج قوي لعلاقة الأدب بالعمى، حيث تتسع منطقة اللاوعي لدى صاحبها وتمنحه مقدرة أكبر على استنطاق التاريخ وإعادة قراءة الماضي بوصفه حاضرا، فلعل كل واحد من هؤلاء كان يسعى للقبض على الزمن الهارب والرؤية إلى الماضي كتجربة شخصية له.