سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أركون: الغرب انتقل من ثورة إلى أخرى ونحن بقينا مرتبطين بتاريخ القبائل المفكر العربي قال إنه انخرط بكل جوارحه في المناخ الثقافي والغليان السياسي اللذين عاشتهما باريس في الستينيات
قال محمد أركون إنه كان معجبا بوالدته لما تميزت به من خصال أثرت في حياته، وتحدث أيضا عن دراسته على أيدي رجال دين كاثوليك, لم يعملوا مع ذلك على تحويل التلاميذ إلى المسيحية، وهو ما جعله ينظر بتقدير كبير لهؤلاء الأساتذة الذين ساهموا بقدر كبير في تخريج الكثير من التلاميذ الذين أصبح لهم شأن عظيم فيما بعد. وقد أكد المفكر العربي انبهاره بمدينة باريس الفرنسية في سنوات الستينيات لما كانت تعيشه من غليان سياسي و أحداث ثقافية كبرى، وهو ما لم يجده خارج هذه المدينة, حسب تعبيره. - المفكرون والفلاسفة العرب والمسلمون لا يهتمون كثيرا بالسيرة الذاتية الفلسفية، وأنت لا تشكل استثناء للقاعدة. لم أفعل ذلك بسبب الحشمة والحياء. إن العرب أو العرب المسلمين عامة لا يتكلمون إلا لماما عن عائلاتهم، وبصفة أقل عن نسائهم. وما يتعين عليك إلا أن تقرأ الأدب البيوغرافي منذ القرون الوسطى من أجل التأكد بأن هم إقامة شجرة الأنساب لم يكن حاضرا بالنسبة لكل المؤلفين والمفكرين ومثال ابن رشد بليغ على هذا المستوى، فهو ينحدر من عائلة معروفة ومشهورة أبا عن جد، وتولى أفرادها مناصب رفيعة في القضاء والثقافة العامة.. ورغم ذلك، فإننا لا نجد أي أثر لما يمكن أن نسميه الهم النسبي. - مع ذلك تظل السيرة الذاتية الفلسفية، بالنسبة لك، جنسا صغيرا على الإطلاق. لدي كتاب في الموضوع سيظهر قريبا لدى «ألبان ميشيل». أعترف بأن الأمر يتعلق بطلب. وفي هذه البيوغرافيا، أتكلم قليلا عن أبوي، وخاصة أمي بالرغم من أنها لعبت دورا كبيرا في تشكيل هويتي. تعلمت منها الهدوء والرقة والصبر والتحكم في الذات... كانت رائعة. ومع ذلك، من وجهة نظر سيكولوجية، لم يكن من السهل عليها العيش في وسط أسري في منطقة القبائل الجزائرية، إلى جانب أربع نساء من بينهن واحدة مريضة وعاجزة. عندما كنت صغيرا رأيت كيف أن أمي استطاعت أن تعيش في هذا المناخ بكثير من النباهة والهدوء، والرفعة والرقة التي ظلت تلازمني باستمرار. كنت ابنها البكر، وبالتالي كنت أول علاقة لها بالأبناء، إذ أنها أنجبت عشرة، اثنان منهم توفيا في الصغر. بل إنني كدت أموت مرات عديدة، لأننا كنا نعيش في جبال القبائل. الحياة في الجبال، التي يصل علوها أحيانا إلى 4000 متر، كانت مختلفة تماما عن الحياة الحضرية. كانت حياة كفاف حيث لم نكن بحاجة إلى الخارج. كنا نتنقل عبر البغال باستثناء الصيف، إذ كنا نستعمل الجمال. كنا ننقل القليل من الحبوب من أجل مقايضتها بالتين وزيت الزيتون الذي كان ينتج بغزارة في الجبال. يجب الإشارة أيضا إلى أنه في هذه المنطقة أيضا كانت التقاليد الشفهية متجذرة على اعتبار أن أغلب سكانها أميون ولا يتحدثون العربية. ومن هنا تنبع صعوبة الوصول إلى قراءة القرآن وكذا ممارسة العبادات والشعائر الدينية. - فيما بعد ذهبت إلى وهران؟ بما أني لم أكن أعرف اللغة العربية، قررت أن أتعلمها. ومن أجل ذلك، درستها لمدة ثلاث سنوات في مدرسة يديرها رجال دين كانوا يحدثوننا عن الكاثوليكية بدون أن يعملوا على تحويلنا إلى مسيحيين. ولكن قبل ذلك كنت في مدرسة أحدثت في قريتي، تاوريرت ن ميمون، من قبل جيل فيري سنة 1882. هذه المدرسة كانت الأولى التي تقام في الجبال والتي كانت تحترم الركائز الثلاث للجمهورية الفرنسية الثالثة: المدرسة الإجبارية، المجانية والعلمانية. كانت ثورة حقيقية. هذه المدرسة كونت أجيالا من المدرسين، بعضهم أرسل إلى المغرب، وكان من بينهم أحد إخوة رئيس القرية، وقد اختاره السلطان محمد الخامس لكي يكون معلمه، وكان اسمه معمري، وقد نقل لنا صورة المغرب عبر جلابته المتلألئة والنقية وطربوشه الأحمر. وفي القرية، كان يثير الكل بذلك اللباس. وقد كان ابن أخ الكاتب مولود معمري، الذي كان يلبس لباسا مغربيا ذا ألوان براقة. كان بالنسبة لنا رمزا لسلطان المغرب، ومن كان يقول سلطان يقول دولة. وكان هذا الأمر يجعلنا نميز بين المغرب والجزائر، وخاصة منطقة القبائل التي لم يكن فيها أي جندي أو شرطي أو دركي. كانت بها فقط تلك المدرسة التي جعلناها هي الأخرى قبائلية. بالنسبة لنا، كانت الدولة شيئا مجردا. ولكن، أعود دائما إلى هذه المدرسة التي كانت تدار من قبل مبشرين حقيقيين كانوا يعتنون بنا وكأننا أولادهم. كانت هذه المدرسة وراء بروز عدد كبير من التلاميذ الذين استطاعوا أن يبلغوا شأوا بعيدا في دراستهم بسبب التكوين الذي كان يعطى بهذه المدرسة والذي كان التكوين نفسه الذي يتلقاه الفرنسيون في بلدهم، سواء كان ذلك في الإعدادي أو الثانوي، حيث كان الأساتذة المبرزون يسارعون إلى وضع طلباتهم من أجل بعثهم إلى الجزائر أو وهران. كنا نتوفر على أفضل الأساتذة. بعد ذلك التحقت بثانوية في وهران، والواقع أن تواجدي بمدينة كبيرة شكل رجة في حياتي. كنت تائها، فضلا عن أني لم أكن أعرف العربية. كنت أتكلم فقط اللهجة القبائلية أو الفرنسية. كانت تجربتي في الثانوية مفيدة بالنسبة لي، إذ اكتشفت فيها الأدب الفرنسي والفلسفة. وكنت الأول في المادتين معا. وخلال هذه الفترة بدأت أطرح على نفسي بعض الأسئلة، أقارن بين عالمي في القبائل وعالمي الحضري. كنت أقارن بين خريطة الجزائر وخريطة فرنسا... كان ذلك بداية مساءلة لا تتوقف !!! - بعد ذلك انتقلت إلى الجزائر؟ حصلت على الإجازة بعد ثلاث سنوات من الدراسة بكلية الجزائر. كان ذلك في بداية خمسينيات القرن الماضي. كانت هي الأخرى تجربة جديدة. كنت في العاصمة التي كانت تغلي سياسيا. في السنة الثانية من الجامعة، قمت بإلقاء محاضرة حول «مظاهر الإصلاح في مؤلفات طه حسين» أمام طلبة جزائريين كان يطلق عليهم حينها «الأهالي». قرأت كل ما نشر. كانت أفضل وسيلة ساهمت في تعميق معرفتي باللغة العربية. في هذه المحاضرة، انتقدت طه حسين لأن أعماله لا تتسم بالانسجام. لقد أثار انتقادي طه حسين استياء وغضب الطلبة الجزائريين، بالرغم من أنهم لا يعرفون مؤلفات طه حسين والأدب العربي. أثير هذا الأمر لكي أبرز الحالة الذهنية الغريبة لتلك المرحلة، فقد كانت القومية العربية منتشرة بشكل كبير، وهو الأمر الذي يفسر رفض انتقاد كل ما يتعلق بالعرب والإسلام. كانت مرحلة صعبة في مساري، لأنه بالرغم من تشبثي باستقلال وتحرر الجزائر، فقد كنت بالمقابل أمقت هذه القومية والإسلاموية العمياء التي لا يمكنني أن أتبناها، وهذا الأمر عمق لدي روح النقد، خاصة أني اكتشفت من خلال دروس التاريخ أن الغرب انتقل من ثورة إلى أخرى، في حين بقينا مرتبطين بتاريخ القبائل (tribus)! إنه التحول العميق الذي جعلني أصبح ما أصبحته الآن. - ذهبت فيما بعد من أجل الدراسة بباريس. أية مكانة تحتل هذه المرحلة في مسارك؟ وجدت بباريس ما كنت أصبو إليه: حياة ثقافية حقيقية. لم أدرس التبريز مثل كل المعربين الذين اختاروا مؤسسات صغرى، ولكن ذهبت إلى المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية بعدما استمعت إلى محاضرة ل«لوسيان فيفر» حول «ديانة رابلي». هذه المحاضرة أفعمتني بالطموح، ومكنتني فيما بعد من قلب نظام الدراسات المتعلقة بالإسلام بشكل خاص. كيف يمكن تطبيق مثل هذا المنهج في بلاد الإسلام؟ من هنا برز اهتمامي بمسكويه وجيله الذي كان موضوع أطروحتي «من رابلي إلى مسكويه». لم أجد مثل هذه اللحظات الرائعة من الغليان الثقافي خارج باريس. في سنوات الستينيات، عينت أستاذا مساعدا بالسربون، وهي الفترة التي انخرطت فيها بكل جوارحي في هذا المناخ الثقافي، والعلوم الاجتماعية واللسانيات, وكذا النقاشات الساخنة بين بارت وريكور وليفي ستروس وبروديل وغيرهم... عشت في ظل كل هذه الأجواء لمدة ثلاثين سنة. أريد أن أظل في مجال تخصصي، لأن همي الكبير هو طريقة مقاربة ومساءلة النص القرآني. وبفضل مساري أقاوم، وبفضله أيضا أجد القوة من أجل الاستمرار ومواصلة الإنتاج، مع معرفتي بأن لي قراء يتناقصون يوما بعد يوم!! محمد أركون صاحب تجديد الفكر الإسلامي يعد محمد أركون من أكبر الباحثين العرب في مجال الفكر الإسلامي. ولد عام 1928 في بلدة تاوريرت ن ميمون بمنطقة القبائل الكبرى الأمازيغية بالجزائر، وانتقل مع عائلته إلى بلدة عين الأربعاء (ولاية عين تموشنت) حيث درس المرحلة الابتدائية بها. وأكمل دراسته الثانوية في وهران، ابتدأ دراسته الجامعية بكلية الفلسفة في الجزائر ثم أتم دراسته في السوربون في باريس. عُين محمد أركون أستاذا لتاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة السوربون عام 1968 بعد حصوله على درجة دكتوراه في الفلسفة منها، وعمل باحثا مرافقا في برلين عامي 1986 و1987. يشغل منذ العام 1993 منصب عضو في مجلس إدارة معاهد الدراسات الإسلامية في لندن. يتميز فكر أركون بمحاولة عدم الفصل بين الحضارات, شرقية وغربية, واحتكار الإسقاطات على أحدهما دون الآخر، بل إمكانية فهم الحضارات دون النظر إليها على أنها شكل غريب من الآخر، وهو ينتقد الاستشراق المبني على هذا الشكل من البحث. يكتب محمد أركون كتبه باللغة الفرنسية أو بالإنكليزية وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات, من بينها العربية والهولندية والإنكليزية والإندونيسية. ومن مؤلفاته الشهيرة نذكر على سبيل المثال «الفكر العربي»، و«الإسلام، أصالة وممارسة» و«تاريخية الفكر العربي الإسلامي» او«نقد العقل الإسلامي» و«الفكر الإسلامي: قراءة علمية» و«الإسلام: الأخلاق والسياسة»، و «الفكر الإسلامي: نقد و اجتهاد» و«العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب» و«من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي» و«نزعة الأنسنة في الفكر العربي». كتب هاشم صالح يوما في إحدى الجرائد العربية مدافعا عن مشروع أركون الفكري، وقال «كثيراً ما طرح عليّ هذا السؤال: لماذا كل هذا الإلحاح على اركون؟ ألا تعتقد بأنك تبالغ في أهميته؟، وما هو الشيء الذي قدمه للفكر العربي أو الإسلامي؟.. وأعترف بأن التساؤل كان يحيّرني ويدهشني في كل مرة، فقد كنت أعتقد بأن الترجمات التي قدمتها حتى الآن (حوالي عشرة كتب وآلاف الصفحات..)، كافية للبرهنة على أهمية هذا المشروع وضرورته بالنسبة للعرب والمسلمين ككل. وأنا واثق من أن هذه الأهمية، سوف تتجلى للناس أكثر فأكثر بمرور الأيام، وإلا فإني أكون قد أضعت خمسة وعشرين عاماً من عمري عبثاً!..».