كل شاعر حقيقي تكشف قصائده، ليس فقط عن شفافيته الداخلية وشغفه الميتافيزيقي، وإنما أيضا عن سحر الينابيع الأولى المتدفقة من جهة بعيدة من الطفولة، حيث يتقطر ذلك الكلام الخاص ويصبح أكثر من دليل لغوي. وبورخيس هو أحد الشعراء المدموغة أعمالهم بآثار قوية من تلك القطعة الزرقاء من الحلم، التي تجعل فجر الحياة الشخصية (زمن الطفولة) يتقاطع مع فجر الحياة الإنسانية (زمن الأسطورة)، ليسم العمل الشعري باندفاعة حيوية، تجعل القصيدة تتشرب، في طريقها نحو حاضر أبدي، مياها قديمة تتدفق باستمرار من أعماق الصخور. في قصائد بورخيس تحيى الآلهة القديمة من جديد. وتكشف الملاحم والأساطير، بالغة العتاقة، عن حياة متجددة تسع قلق الشاعر وما يشكل ميتافيزيقاه الخاصة. وليست هذه الميتافيزيقا ببعيدة عن نفائس الطفولة ومتلاشيات التاريخ والحياة والفكر والفلسفة والوجدان والرموز، التي تخترق صنيعه الشعري وتضفي عليه قوة اللهب. الماء والنار هما إذن مزايا شاعر، نظر بعيني قصائده إلى الحياة، فهاله ما رأى. لذلك أمضى حياته متلذذا متشائما، سعيدا، ساخرا، متسكعا في الموسوعات، هائما في فردوس الخيال البشري، وكأنه آخر يخطو في شريط من حلم، محاولا، ما وسعه المقام، عند الانتباه، الخروج منه وإذاعة السر على الناس. وربما لم يفقد بورخيس بصره إلا لأنه تجرأ على ما تجرأ عليه برميثيوس. فَقَدَ الشاعرُ بصره فتوارتِ النار عميقا في قصائده. وهي من ذلك العمق تتلألأ، تضيء وتكشف، لكن دون أن تفضح السر تماما. لقد تعلَّم الشاعر درس الفن، لكن نزقه الشعري جعلَه يتمنى، في إحدى قصائده، لو أمكنه أن يعيش حياته مرة أُخرى ليرتكب أخطاء أكثر. الحياة أكثر إغراء عند بورخيس، لكنها ليستْ كذلك إلا لأجل الفن. لذلك لم يأسف بورخيس على فقدانه لبصره إلا لأجل عيون الكتب. والمرارة العميقة التي تعجن قصيدة «الهبات» قادمة من هذا العي، تجاه المشيئة الإلهية التي منحته الكتاب والليل. تلك المشيئة التي جعلته، يا للسخرية، يدخل «مدينة الكتب» بعينين مطفأتين. لذلك، كثيرا ما استعار بورخيس عيون قرائه الأوفياء، بعد أن أتعب عوينات والدته العجوز، ليكشف حُجُبَ تلك المدينة، ويذخر، في أعماقه وفي أعماق قصائده وأدبه، بعضا من ضوئها وكنوزها التي لا تضاهى. عاش بورخيس في قصائده الكبيرة من أجل كلمات قليلة، وجدناها تتسع لكثير من أشواقه وأحلامه ووساوسه. ولم يكن الشاعر برأيه إلا ذلك الخيميائي، الذي يستطيع ابتعاث السحر القديم في الكلمات العادية. لذلك أكثر الكلمات التي ينشدُّ إلى أساسها بنيانه الشعري الخاص لم تكن لتتجاوز أصابع اليدين إلا قليلا، ولعل أكثرها إلحاحا هي: المتاهة، الخلود، الشرق، الليل، المرايا، الكتب، العمى، الغروب، الحلم، الفجر، النقوش، العندليب، السيف، والوردة. إنها تعويذته السرية، التي ظل يرددها بينه وبين نفسه، جاعلا منها موسيقاه الخاصة، القادرة على تجلية ذلك الغامض في الحياة. هذه الكلمات، بالرغم من قوتها وسحرها في قصائد بورخيس، فهي ينقصها بعض التوثب. بعض الحركة المسبوكة بالذهب المتوحش. وهو ما تكتنزه عنده كلمة النمر وصورته. النمر، تلك «الجوهرة المُهلِكة» التي تصل طفولة الشعر بميتافيزيقا القوة الحيوانية. في الواقع، لقد ظل بورخيس دائما يتألم، لأنه لم يستطع، في قصائده، سوى ترويض النمر-الرمز، أي الصورة الأدبية مقابل النمر الحقيقي، ذلك «الكائن الفعلي الذي يهلك قطعان الجاموس»، والذي مازال «يواصل تحت الشمس والقمر المتقلب، في سومترا أو البنغال، تحقيق نصيبه من العشق واللهو والموت». ظل بورخيس يتألم لأن أحلامه لم تستطع أبدا خلق «الوحش الجامح» الذي كان يتشوق إليه، حتى جعله خياله الفلسفي معادلا للإرادة.