هل يقود مغربي سفينة "الملكي"؟ أنس لغراري الرجل الخفي الذي قد يرأس ريال مدريد سنة 2029    مدرب شباب قسنطينة يشكر المغاربة على حسن الاستقبال قبل مواجهة بركان    الرباط تحتفي بالشارقة برفع علم الإمارات في افتتاح مهيب لمعرض الكتاب والنشر    "الأشبال" ينهون التحضير للقاء مالي    عمر مورو: مشاريع البنيات التحتية لكأس إفريقيا 2025 تسير بوتيرة متقدمة بمدن الشمال    الناصري ينفي التهم الموجهة إليه في قضية "إسكوبار الصحراء" ويكشف تفاصيل عن لطيفة رأفت وتاجر المخدرات "المالي"    احوال الطقس .. امطار وثلوج مرتقبة بمنطقة الريف    دعم مغربية الصحراء ومبادرة الحكم الذاتي ترجمة للتوافق الدولي من أجل الطي النهائي لهذا النزاع الإقليمي    حزب العدالة والتنمية المغربي يواجه أزمة وجودية تهدد مستقبله السياسي    وفد رفيع من سفارة رومانيا بالمغرب يزور ENCG طنجة ويوقع بروتوكول تعاون أكاديمي    حين تصبح معلوماتك سلعة .. من يحمي المغاربة من تسريبات البيانات؟    الحوامض المغربية تلج السوق اليابانية    شرطة البيضاء توقف مواطنا نرويجيا    حادثة سير مميتة تودي بحياة شخص بإقليم الدريوش    مقتل صحراويين في مخيمات تندوف : ائتلاف حقوقي يطالب بتحقيق دولي ضد الجيش الجزائري    ناصر بوريطة يواصل جولة دبلوماسية ناجحة لتعزيز دعم أوروبا لمغربية الصحراء    تنسيقية المتعاقدين بجهة الشمال تشتكي من "استفزازات نقابية"    خلال 2024.. المركز الجهوي للاستثمار بجهة الشمال وافق على مشاريع استثمارية بقيمة 85 مليار درهم قد تخلق حوالي 70 ألف فرصة شغل    إغلاق سلسلة "ب لبن" والحلويات الشهيرة في مصر بسبب التسمم الغذائي – التفاصيل والأسباب    من الرباط.. السفير الصيني بالمغرب لي تشانغ لين : الصين تعتزم عقد مؤتمر عالمي جديد للمرأة خلال هذا العام    وفاة الفنان المصري سليمان عيد    تزايد حالات السل اللمفاوي يسائل ضعف مراقبة سلاسل توزيع الحليب    بيان توضيحي لولاية أمن أكادير بشأن ادعاءات واهية لمنظمة    المعرض الدولي للنشر والكتاب يتعقب الفنون التمثيلية في الصحراء المغربية    دعم إنتاج الأعمال السينمائية.. الكشف عن مشاريع الأفلام المستفيدة برسم الدورة الأولى من 2025    مهرجان "جازابلانكا".. 26 حفلا موسيقيا يحييها 180 فنانا    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    "حماس" تدعو إلى إنهاء حصار غزة    نقابات التعليم تسجل غياب الإرادة السياسية لدى الحكومة في الوفاء بالتزاماتها وتحتج على "التسويف"    بيانات تكشف ارتفاع الإصابة بالتوحد وكذلك زيادة معدلات تشخيصه    واشنطن بوست تدق ناقوس الخطر: البوليساريو شريك لإرهاب إيران في إفريقيا    أكادير يحتضن مؤتمر التنظير عنق الرحم وجوف الرحم والجهاز التناسلي    الارتفاع العالمي لسعر الذهب ينعكس على محلات المجوهرات في المغرب    شي جين بينغ وهون مانيت يتفقان على تعزيز الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وكمبوديا    إطلاق الشعب المتخصصة في فنون الزجاج بالمعهد المتخصص في الفنون التقليدية بمكناس، في سابقة على المستوى الوطني    شركة للطيران تمتنع عن نقل ثلاثة جثامين لمغاربة مقيمين بهولندا    الدورة التاسعة إياب من بطولة القسم الوطني الممتاز لكرة السلة : .ديربي محلية بالعاصمة بين الفتح والجيش    أولمبيك خريبكة يوضّح واقعة محاولة انتحار أحد لاعبيه    ممثلون عن اليهود في بريطانيا يدينون العدوان الإسرائيلي في غزة    احتجاجات بالمزونة التونسية تنديدا بمصرع 3 تلاميذ وبتهميش المدينة    مهرجان "تيم آرتي" يختار مواهب الراب الشابة في دورة جديدة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    رغم التأهل.. فليك غاضب من أداء لاعبي برشلونة أمام دورتموند ويطالب بمزيد من الانضباط    إيقاف السباح التونسي أحمد الحفناوي 21 شهرا بسبب انتهاكات لقواعد المنشطات    وضع المعايير لملء استمارة الإحصاء لأداء الخدمة العسكرية برسم فوج المجندين لسنة 2025    روبيو: على أوروبا أن تقرر ما إذا كانت مستعدة لإعادة عقوبات إيران    مجلس الأمن يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار وعملية سياسية شاملة في السودان    استشهاد 15 فلسطينيا في غارة إسرائيلية جديدة على غزة    توظيف مالي لأزيد من 46 مليار درهم من فائض الخزينة    بعد ستة أشهر من الغياب.. الصحفي حمزة رويجع يكشف الحقيقة بشجاعة: نعم، أصبت باضطراب ثنائي القطب    ندوة وطنية تتدارس تجربة محمد الشيخي في رؤيا وتشكيل الشعر المغربي    الاعتداء على أستاذ يسلب حرية تلميذ    عاجل | هزة أرضية قوية تُثير الهلع بمراكش وتامنصورت    وزارة الصحة تخلّد اليوم العالمي للهيموفيليا وتطلق حملة تحسيسية وطنية لمكافحة هذا المرض    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استيقاظ حياة شعرية شفافة شديدة الرهافة والعمق
في ديوان حسن نجمي «على انفراد»
نشر في المساء يوم 17 - 07 - 2009

يرتادُ حسن نجمي الشعرَ، في «على انفراد» من زاوية التأمل في الذات عبر مِرآة الشعراء الآخرين، بعد أن يجلوها الشاعر بدَفقِه الخاص، ولمسته الشاعرية الحانية. وهو، بهذا المعنى أيضا، يرتاده من زاوية إعادة الكتابة، التي تتغيَّى تصعيدَ الميراث الداخلي الشَّخصي اللاواعي، عبر مُحاورة شعراء من العالم، وجَعْل كلمتهم الشعرية تُنفِّس على الذات مضايقَها، وتُفسح لها سبُلَ ارتياد النبع...
يُواصل الشاعر حسن نجمي، في ديوانه السابع، «على انفراد»(عكاظ 2006)، الحفرَ في جغرافيا شعرية خاصة، أصبحتْ، مند تسعينيات القرن الماضي، مِن علاماته المميزة في الشعر المغربي المعاصر، نقصد جغرافيا الحياة اليومية، وما تطفحُ به من أشياء ومواقف، وصور، وعلامات وعناصر، لا تقف الذات عند حدود المرئي فيها، بالرغم من أهميته، وإنما تتجاوزه إلى ما يثوي خلفه من ظلال وأبعاد ميتافزيقية، تجعلُ رؤيةَ الشاعر خلاصةَ عمل الحواس جميعِها، مستيقِظة، متأهِّبة، مستَنفَرة وساهرة على الوديعة. إن الشعر، في مثل هذه الحالة، ينخرط، بكل قوة وإصرار، في فاعلية امتصاص نسوغ الصمت الثاوي خلف صخب الحياة وحركتها الهادرة، لينسج منه لباسا شعريا شفافا، لا يكشف فقط عن جمالية، حب، وألم، وإنما أيضا عن لوعة، هي لوعة الذات وهي تباشر إيقاظ الفتنة النائمة على الأرض.
يرتادُ حسن نجمي الشعرَ، في «على انفراد» من زاوية التأمل في الذات عبر مِرآة الشعراء الآخرين، بعد أن يجلوها الشاعر بدَفقِه الخاص، ولمسته الشاعرية الحانية. وهو، بهذا المعنى أيضا، يرتاده من زاوية إعادة الكتابة، التي تتغيَّى تصعيدَ الميراث الداخلي الشَّخصي اللاواعي، عبر مُحاورة شعراء من العالم، وجَعْل كلمتهم الشعرية تُنفِّس على الذات مضايقَها، وتُفسح لها سبُلَ ارتياد النبع، الذي نهلَ منه كلُّ الشعراء: الانسانُ موغلا في الحياة، متسلحة بالميثولوجيا والدين والفكر والفن والعمارة لمواجهة الموت والاندثار. ولعل أكثر الشعراء تردُّدا في متخيل الديوان، هما: بورخيس الأرجنتيني وريتسوس اليوناني. الشاعرُ يستحضرهما معا، ليكتب قصة شغف شعري، يَعثر في عمى بورخيس، على أخوة روحية، وتجربة استثنائية، بقدرتها المذهلة على إضاءة ظلام الداخل، وتحويله إلى مكتبة من الأحلام والرموز والرؤى، كما يعثر في إيماءات ريتسوس على ما يُرشد إلى دفق الشعر الهادر على مرمى حجر، بالنسبة إلى من يُحسن الإنصات، وإلى ما يقبع تحت قشرة الحياة اليومية من كنوز هاجعة.
في قصيدة «أعزل في الضوء»، يرسم حسن نجمي بورتريها، يُنسِبُه السياقُ إلى بورخيس، فيما تجعلُ منه الحالة الشعرية مسكنا مشتركا بين الذاتين، وقد توحدتا في الانجذاب إلى سحر وأهوال مكتبة الليل (العمى). إنها تحديداً عزلة الشاعر نجمي وقد حلّ في شخصية بورخيس الملتبسة، فنطق بلسانه، تاركا الصوت الشعري أن يخترق كيانه، متوسلا بضمير الغائب: «الملاك الأعمى يخطو متلذذا بالأرض./ نسي جناحيه. اكتشفَ معنى أن يتكئ على نفسه./ ومعنى أن يكون مع الضوء./ على انفراد/ يسمع وقع خطواته على الحصى /دون أن يقلق بشأن الظلام» (ص.14). إن قول إسحاق الموصلي، في حق أبي تمام: «يا فتى، ما أشد ما تتكئ على نفسك!» الذي أثبته حسن نجمي كتصدير للديوان، يندمج في البناء النصي، مشيرا إلى تقاطعات ثقافية، قديمة وحديثة، عربية وغربية، يصبح بموجبها الشاعر المعاصر مندمجا في سياق شعري رفيع، يشكل نسبا ثقافيا كبيرا، به تكون العزلة عزلة الشعراء، وتكون الفرادةُ فرادةَ البحث عمَّا يُغني مكتبة المجاز، ذلك الفردوس الرمزي، الذي يُشيِّدُه الشعراء بحجر كلماتهم الكريمة. إن مَن «يسمع وقع خطواته على الحصى»، يستبدل «أجنحة الملاك»، بأجنحة من مجاز، بهما يُحلِّق قريبا من الأرض.
في قصيدة «أنا وبورخيس»، يواصل الشاعر رسمَ ذلك البورتريه النابض بالحياة، متوسلا بدور الراوي في التقليد الشعري العربي العريق. منذ البداية يعلن الشاعر: «هذه القصيدةُ ليستْ لي /هو الآن يمليها عليّ بصوت أجشَّ سُرعان ما يتلاشى«(ص.15). إن حسن نجمي لا يستثمر فقط معطى ثقافيا عربيا، وإنما يخضع، في آن واحد، لإملاءات شعرية بورخيس الملتبسة، التي تجعل من الشاعر مجرد ظل لصوت عميقٍ، قادمٍ من أغوار سحيقة في اللاوعي أوالغيب، الذي ربطه السياق العربي القديم بواد عبقر. يقول تصدير القصيدة المنسوب إلى بورخيس، في قصيدة الساهر:«إنه يُملي علي هذه القصيدة. وأنا لا أستسيغ ذلك». الشاعر حسن نجمي هو إذن امتداد لهذا الصوت، الذي تصل حلقته الأخيرة إلى بورخيس. وككل من يتلقى «وحيا» مِن مكان ما، لا بُدَّ وأن يكون صوته أجش، في ارتباط بأهوال التجربة. ذلك ما تُخبر به قصيدة حسن نجمي، وهي تمعن في وصف تفاصيل اللقاء بكلمة الماوراء: «كأنه يقطِّر الصمت ساهيا بين سطر وآخر كما لو أنَّه يمضي إلى ضاحية الكون أو يذَّكَّر أن مهنته النسيان. أسأله: أين شردتَ كنهر؟ يقول لي هو ليس هنا. وقد دأبَ أن يخرُج من جسده. من مكانه وزمانه»(ص.15).
إن الذات الشاعرة، وهي تنهض بوظيفة رَاوية بورخيس، مِن مَوقع إعادة الكتابة هذه المرة، مُلمَّة أكثر بتفاصيل المكتبة الشعرية البورخيسية، بألوانها، سحرها، مخلوقاتها، أطيافها، شجنها وهواجسها المُلِحَّة: «حين تُعوزُه الألوانُ يرتجلُ الأصفر لعينيه. حين يكون الظلامُ من حوله أعزلَ يحلم مثل سيربانطيس في زنزانة الجزائر. أنبأني بأنه يُحبُّ القصائد الأوطوبيوغرافية. وقد تُدركُه الوحشةُ فيفْتح فهرس الصحبة. ومثل نبَّاش آثار له شغف التنقيب عن أصول الكلمات. وقد قلتُ له: صار يومُنا صعبا! فأدهشني: «لنا أمسٌ صديقٌ يمكنُنا أن نتكئ عليه» (ص.16).
مع قصيدة «في الطريق إلى كافالا»، ينتقل الشاعر إلى مجرة شعرية أخرى، هي واحدة من أكثر المجرات انشدادا إلى فتنة الأرض. إنها مجرة يانيس ريتسوس، التي يكشف عنها العنوان الفرعي للقصيدة. وقد اتخذ الشاعر من تَعِلَّة السفر مجازا للنزول ضيفا على هذه المجرة اليونانية، التي شكلتْ بالنسبة إليه ولادة جديدة. إن إعادة الكتابة، لا تمثل هنا فقط انبثاقا إلى صوت من الداخل، بقدر ما تجسد أيضا انتباها لصوتٍ خارجي، يومض كالضوء، سيسعى الشاعر وراءه، ليتعلم حكمة إيقاظ الأسرار النائمة: «وفي لحظة العبور إلى مقاعد الانتظار تذكرتُك: مساء الخير ريتسوس!/ كنتُ قرأتُك. وتقريبا، كنتُ بلا شِعرٍ فغمرني ضوؤُك»(21).
تبسطُ قصيدة حسن نجمي، بحذق شعري نادر، مؤثثات شعرية ريتسوس وهي تؤسس لمحتمل شعري وإنساني آخر، ستكون لها جاذبيته السحرية، في جغرافيات ثقافية أخرى ومنها العربية. وفي الوقت الذي تكشف قصيدة نجمي عن مصادرها، تنهمٍك في إعادة كتابة ريتسوس، ليس فقط من موقع البوح والاعتراف، ولكن أيضا من زاوية بناء لغة شعرية واصفة هي بعضٌ من حداثة الشعر المعاصر. وبذلك يعانق الشعر أفقه النظري، وهو يتجه إلى بناء القصيدة: «صرتُ كلما كتبتُ أسأل ماذا كنتُ سأفعل لولا يداك الأختان؟ وماذا لولا الأمهاتُ الإغريقيات اللائي يرتدين السواد في قصائدك. ولولا أحجارُك الملونة.../ لولا إيماءاتُك. والإيروتيكا. وألحانُك على أوتار الكلمات. وليلُك الهيلِّيني. لولاك، يا صديقي كيفَ كنتُ سأفتِّتُ كل هذا الملح الذي تخثَّر في شرايين القصيدة؟»(ص.22).
يطفح ديوان «على انفراد» بكثير من العلامات المشرقة، التي توقظ في داخله حياة شعرية شديدة الرهافة والعمق. وقصائد الديوان لا توقظ فقط السحر المرتبط بمسقط الرأس، وإنما تحرك أيضا ظلال المعنى المرتبطة بمسقط رأس القصيدة، بالحب، بالأمومة، بالصداقة، بالموت بأمكنة الغواية، بالفضاءات النهرية، وبالجغرافيا السرية للعالم الحميم. إنها قصائد تستبطن مديحا حارا للحياة، حتى وهي توغل في الهروب والانفلات، كما تستبطن تقريضا للشعراء، حتى وهم يغادرون المسرح مخلفين وراءهم أجمل الأعطيات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.