ما أقدم عليه الصحافي العراقي منتظر الزيدي من ضرب الرئيس الأمريكي جورج بوش بفردتي حذائه تعبيرا عن غضبه من سياسة هذا الأخير، حادث يستحق أن نطالعه من عدة زوايا سياسية ونفسية ومهنية. كإنسان غاضب من سياسة بوش التي قادت إلى كوارث عبر العالم، وفي مقدمة هذه الكوارث حرب العراق التي أودت بحياة نصف مليون عراقي تحت مبررات واهية، رأيت في حذاء الصحافي العراقي تعبيرا رمزيا عن رفض الشارع العراقي والعربي والمسلم لهذه الجريمة ضد الإنسانية المسماة «احتلال العراق»، وقلت في نفسي إن بوش وإدارته المحافظة لم يحترما القانون الدولي، ولم يعيرا اهتماما للأمم المتحدة، ولم يباليا برفض الرأي العام العالمي لشن الجيش الأمريكي الحرب على العراق... فلماذا نطالب منتظر بأن يراعي أصول الضيافة مع ضيف دخل على ظهر دبابة إلى بلاد الرافدين، وتعمد في أكثر من مناسبة أن يهين الشعب العراقي، مرة وهو يعذب مواطني هذا الشعب في أبو غريب بطرق تمتهن الكرامة، ومرة وهو يشنق رئيس الدولة المخلوع صدام حسين يوم عيد الأضحى أمام كاميرات أتباع غلام معمم اسمه مقتدى الصدر... لكنني كصحافي وجدت أن إقدام الصحافي العراقي على رشق رئيس دولة بحذائه في ندوة صحافية عوض رشقه بأسئلة محرجة أو بتحقيق يكشف جرائم إدارته في العراق.. وجدت استبدال القلم والكاميرا والكلمة بفردتي حذاء، أمرا لا يستقيم مع المنطق ومع أعراف المهنة وأخلاقها، سواء أكان الأمر يتعلق ببوش أو بغيره من المسؤولين، أمريكيين كانوا أو أوربيين أو عربا... إن حادثة الصحافي العراقي ستنقل صورة سلبية عن الصحافيين العرب عبر العالم.. وستظهرهم كأناس يمارسون مهنة لا يعرفون قواعدها، ويلعبون بسلاح لا يدركون خطورته... الواقع أن حادثة منتظر الزيدي ليست معزولة عن واقع المهنة الصحفية في العالم العربي. الكثير من زملائنا لا يعترف بأن للمهنة الصحفية أعرافا وأخلاقا وتقاليد، وقبل هذا وبعده، لها حدود.. سحر المهنة يأخذ بعض عقول زملائنا بعيدا، فيصور لهم تأثير مهنتهم أنهم «زعماء» أو «مبشرون» أو «قادة ثورة» أو «وعاظ» أو «مصلحون» أو «خطباء».. والحقيقة أن الصحافي ليس واحدا من هؤلاء. إن وظيفته هي أن يسخر قلمه أو كاميراه أو صوته ليكون قنطرة بين مصادر الأخبار والرأي العام الباحث عن المعلومات، ثم إنه صاحب رأي، كما أن العديد من الناس لهم رأي، وهو مطالب بأن يقول رأيه ثم ينصرف إلى عمله دون أن يتوهم أنه يلعب دور البطولة أو أنه يملك الحقيقة المطلقة فقط لأنه يحمل بطاقة الصحافي ويعمل في وسائل اتصال جماهيرية... هذا لا يعني التقليل من نبل المهنة ولا من موهبة الصحافي ولا من قدرته على المخاطرة وعلى الجرأة وعلى تحمل تكاليف العمل في ظروف غير مناسبة... أبدا، كلامي معناه أن نعي أن قوة المهنة نابعة من التزام الصحافي بقواعد مهنته ومعرفة حدودها، وعدم الانزلاق، تحت أي مبرر، للخروج من بذلة الصحافي كما فعل الزميل منتظر الزيدي وكما يفعل آخرون كثر في عالمنا العربي، فمنهم من تحول إلى «صحافي بلاط»، يمدح سيف الدولة كل صباح، ومنهم من تحول إلى «جرير» أو «الفرزدق» يهجو الأنظمة ويعارض الأوضاع التي لا يرضى عنها... الصحافي ليس مواليا ولا معارضا، إنه يبحث عن الحقيقة، وعندما يجدها يقدمها في غلاف نسبي على لسان مصادرها. إنه يساهم في «رقابة وسائل الإعلام» على السلط جميعها، من باب فتح الأبواب والنوافذ والمكاتب وكواليس القرار أمام الجمهور الساعي إلى معرفة ما يدور خلفها، وكلما عرى المستور أكثر بمهنية وصدقية وتجرد، كلما وقدم للجمهور خدمات أكثر... وإذاك من الأفضل أن يترك حذاءه في قدميه لأن المسيرة طويلة.. طويلة جدا.