رب ضارة نافعة، فرغم أنها قد أدمت قلوب المصريين جميعا، أسهمت أحداث رفح الإرهابية الأخيرة في التعجيل بإجراءات صوغ العلاقات المدنية العسكرية في مصر ما بعد مبارك بالتزامن مع عملية وضع دستور الجمهورية الثانية. وكان متوقعا أن يستغرق الأمر في مصر عدة سنوات، في ضوء التجارب والخبرات العالمية السابقة في هذا المضمار، إذ استغرق في إسبانيا -مثلا- نحو سبع سنوات، بينما تطلب في تركيا نيفا وعقدا من الزمن، في حين احتاجت دول أخرى كالأرجنتين والبرتغال إلى مدد زمنية أطول. ففي خطوة جريئة وغير متوقعة، أصدر الرئيس مرسي حزمة قرارات حاسمة انتزع من خلالها سلطات رئيس الجمهورية كاملة، وقلص الدور السياسي للمجلس الأعلى للقوات المسلحة كمشرف على العملية الانتقالية بعد ثورة 25 يناير 2011. فبإصداره إعلانا دستوريا جديدا يلغي الإعلان الدستوري المكمل الصادر في 17 يونيو 2012، آلت إلى الرئيس السلطة التشريعية حتى انتخاب برلمان جديد، كما استرد سلطته قائدا أعلى للقوات المسلحة، واحتفظ بحق إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية بالتشاور مع القوى الوطنية، إذا ما حال مانع دون استكمالها مهامها، بما يكفل تمثيل كافة أطياف المجتمع المصري فيها ويتيح الانتهاء من إعداد مشروع الدستور الجديد خلال ثلاثة أشهر من تاريخ تشكيلها. مغانم للجيش بينما ارتكنت بعض القيادات العسكرية في ممانعتها إلى إبعاد القوات المسلحة كلية ونهائيا عن العملية السياسية إلى اعتبارها ذلك انتقاصا من دورها أو افتئاتا على مكانتها ونفوذها، تطوي أدبيات العلوم السياسية كما الخبرات الدولية ذات الصلة بين ثناياها إيجابيات ومغانم شتى يمكن أن تجنيها القوات المسلحة من هذا الأمر، لعل من أبرزها: - إن من شأن تحرير الجيش المصري من ربقة الانخراط في العملية السياسية أن يعينه على مجاراة الاتجاه العالمي في هذا الصدد، ولاسيما بعد أن بات تراجع الأدوار السياسية للجيوش ظاهرة عالمية بامتياز. وبعد أن أصبحت الأنشطة الثورية أو الانقلابية للجيوش ضربا من الماضي، وأضحى نجاح التجارب السياسية في هذا المضمار يقيم بمدى قدرة السلطة المدنية المنتخبة على تقنين الوضعية الحيادية للجيوش بما يضمن الحفاظ على مهنيتها واحترافها، علاوة على تبني برامج ناجعة على النحو الذي يؤهلها لتقبل الحكم المدني وقيم الديمقراطية؛ - تتجلى أبرز ثمار عدم تسييس القوات المسلحة في ضمان احتفاظها بتماسكها ووحدتها وحرفيتها ومهنيتها، فنظريات العلوم السياسية كما التجارب التاريخية تؤكد أن الجيوش كلما نأت بنفسها عن السياسة وأمعنت في الاحتراف العسكري تنامى أداؤها وتسنى لها التصرف بحيادية تامة حيال الأنظمة الحاكمة، خصوصا في أوقات الثورات والانتفاضات الشعبية، وتراجعت حساسية العسكريين إزاء عملية التحول نحو الحكم المدني الديمقراطي، حسبما يسود في الدول الديمقراطية. على الجانب الآخر، يمهد تغلغل المشاكل السياسية في البنية الداخلية للجيوش السبيل إلى اختراقها من قبل تنظيمات وحركات وتيارات سياسية، بما يجعل منها ساحة للصراعات السياسية الحزبية، على غرار ما كان سائدا قبل ثورة يوليوز 1952 وهزيمة يونيو 1967. وإذا كان ظهور حركة «ضباط 8 أبريل» بعد سقوط مبارك يبعث برسائل بالغة الدلالة في هذا المضمار، فإن الحاجة تبدو ملحة هذه الأيام إلى مهارة وحرفية وتماسك الجيش المصري لمحاربة الإرهاب المتفاقم خطره بسيناء ضمن عملية «نسر» العسكرية، توخيا لدحض دعاوى إسرائيل وواشنطن لإقامة منطقة عازلة أو آمنة على جانبي الحدود، وتفنيد تهديدات إسرائيل بملاحقة الإرهابيين في داخل سيناء إذا ما لم تضطلع القوات المصرية بدورها في هذا المجال. ومن شأن قرارات الرئيس مرسي، التي عدّها محاولة لضخ دماء جديدة في شرايين القوات المسلحة، أن تساعد على رأب الصدع الذي بدأ يضرب أطنابه بين صفوفها عبر إنهاء حالة عدم الرضى عن بعض القيادات العليا وسط صغار الضباط والجنود، فضلا عن سد الفجوة الجيلية بين أولئك وقائد عام يلامس الثمانين عاما بعد أن بقي طيلة 23 عاما وزيرا للدفاع؛ - لا يعني نقل السلطة من العسكريين إلى المدنيين أن يتم إقصاء العسكريين كلية عن شؤون الدولة أو إبعاد الجيش تماما عما يجري في البلاد، إذ سوف يحتفظ بدوره في حفظ استقرار ووحدة الجبهة الداخلية بالتنسيق مع السلطة المدنية وبالتعاون مع جهاز الشرطة، ذلك أنه سيبقى شريكا في العمل الوطني، ولكن وفقا لسياق معين واستنادا لآليات دستورية محددة. فالعودة إلى الثكنات، أو المهمات حسب تعبير العسكريين، لا تعني بالضرورة نهاية حتمية وقطعية للدور السياسي للجيش أو اختفاءه تماما ونهائيا من معادلة الصراع على السلطة بعد أفول عهد مبارك؛ فالمرحلة الانتقالية لم تنته، ومن السابق لأوانه الجزم بأن بديلا مدنيا مستقرا وملائما لحكم العسكر قد تصدر المشهد، ولم يحسم الصراع بين جماعة الإخوان وسائر القوى المدنية، خصوصا التيار السلفي، ولا تزال الإمبراطورية الاقتصادية للجيش قائمة. فيما لم تتأثر علاقاته الوطيدة بالولايات المتحدة إثر الإطاحة بكبار رجالاته، ناهيك عن كون وضع القوات المسلحة في الدستور الجديد لم يحدد تفصيلا بعد، الأمر الذي سيجعل من القيادات العسكرية الجديدة رقما مؤثرا في اللعبة السياسية، وإن بصيغ ومستويات مغايرة، خصوصا إذا ما كانوا قد لعبوا دورا ما في مساعدة الرئيس مرسي على إحداث التغييرات الهامة الأخيرة في قيادة القوات المسلحة وترتيب الأوضاع الجديدة. أما بخصوص الحساسية الفطرية الشديدة لدى الجيوش حيال اعتزال السياسة والتبعية للسلطة المدنية المنتخبة، فيمكن إقناع العسكريين بأنه لا يوجد تعارض جوهري بين الرقابة المدنية على القوات المسلحة وإبقاء تلك الأخيرة على استقلالها المهني أو الاحترافي، بمعنى أن تحافظ على وحدتها العضوية وقدرتها على بسط سيطرتها على قراراتها الداخلية ولا تتدخل في العملية السياسية، مع خضوعها بالتبعية السياسية للسلطة المدنية. وهذا جل ما تتوخاه العلاقات المدنية العسكرية التي تنشد التوصل إلى صيغة متوازنة تضمن توفير الظروف التي تتيح للقوات المسلحة القيام بالدور المنوط بها على الوجه الأكمل، بحيث تكون مؤسسة عسكرية محترفة ومتماسكة، مع خضوع أنشطتها المالية لرقابة السلطة المدنية المنتخبة، بينما يتهيأ المناخ لدولة مدنية ديمقراطية يسود فيها القانون والدستور على الجميع. الدور الأمريكي قد لا نبالغ إذا زعمنا أن الدور الأمريكي في عملية تغيير قيادات القوات المسلحة المصرية لم يكن غائبا، فرغم أن الإدارة الأمريكية امتنعت، في بادئ الأمر، عن إصدار أي رد فعل رسمي فوري على قرارات مرسي، لم تتورع المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، فيكتوريا نولاند، عن تأكيد أن بلادها كانت على علم مسبق بوجود محادثات حول تعيين طاقم جديد للدفاع في مصر، وإن كانت أقل اطلاعا على توقيت اتخاذ القرارات. وفي ردها على سؤال عن إمكانية اعتبار ما حدث من تغيير لفريق الدفاع المصري بمثابة «انقلاب ناعم» من الرئيس مرسي على قيادات الجيش، نفت نولاند أن تكون بلادها قد استخدمت هذا التعبير في وصف ما جرى. وإبان زيارات قاموا بها للقاهرة في الأسابيع الأخيرة التي سبقت التغييرات، أكد عدد من المسؤولين الأمريكيين، الذين كان من بينهم جون ماكين، أنهم تلقوا تطمينات من الرئيس المصري بشأن إبقاء العلاقات الراسخة والمتميزة بين الجيش المصري وواشنطن، خصوصا في مجالات التسليح والتدريب والمساعدات، في حالة حدوث أية تغييرات جوهرية في قيادة ذلك الجيش. هذا فضلا عن عدم المساس بالمصالح الأمريكية في المنطقة، كمعاهدة السلام وأمن إسرائيل، وتأمين القواعد الأمريكية، وضمان المرور الآمن في قناة السويس، فضلا عن الاستثمارات الأمريكية بشتى صورها. هاجس الأخونة والفرعونية تفاقمت مخاوف القوى الثورية والمدنية من أن يفضي نجاح الرئيس مرسي في إنهاء ازدواجية السلطة بينه وبين المجلس العسكري إثر قراراته الأخيرة، إلى تغذية مشاعر الهيمنة والرغبة في الاستحواذ لدى الرئيس وجماعته، خصوصا بعد أن أمسى الرئيس يمارس صلاحياته كاملة بغير شريك وصار يجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، في غيبة من الدستور الدائم ووجود إعلان دستوري يسمح بذلك، بينما استبد الضعف والانقسام بسائر القوى المدنية والثورية. وفي هذا المجرى، صبت اتهامات فقهاء دستوريين للرئيس بتجاوز حدود صلاحياته من خلال إقدامه، من دون أسانيد دستورية أو قانونية، على إلغاء وثيقة دستورية بعد أن أقسم بموجبها كرئيس منتخب اليمين الدستورية على أن يحترم القانون والدستور، ثم إصداره إعلانا دستوريا جديدا بينما هو لا يمثل أصلا سلطة منشئة تخوله هذا الأمر. يضاف إلى ما سبق أن قرارات مرسي المصيرية في هذا الموضوع الحساس تمت بغير تفاوض معلن وشفاف بين جبهة تضم ممثلين لكل ألوان الطيف السياسي والوطني من جانب والمجلس الأعلى للقوات المسلحة من جانب آخر، حيث استأثر الرئيس بحسم الأمر بشكل مفاجئ. ولما كانت الطريقة أو الآلية التي من خلالها تتم دمقرطة الجيوش أو إبعادها عن السياسة، من حيث امتلاك زمام المبادرة وأسلوب الحسم وتوقيته، تسهم في توزيع الصلاحيات والسلطات بين الفاعلين السياسيين في النظام الذي يشهد هذه العملية لاحقا؛ لم يفلح تبرير الرئيس وجماعته ذلك الانفراد بأن القوى السياسية المدنية الأخرى تفتقد التجانس والقدرة على التوافق وبلورة تصور متوازن في هذا الصدد، كما لم يكن بمقدور بعضها التفاوض مع العسكريين للعودة إلى الثكنات بعد أن لاذت بهم للحيلولة دون صعود جماعة الإخوان، في تهدئة مخاوف القوى المدنية والثورية. فإلى جانب هواجس الهيمنة الإخوانية والفرعونية السياسية للرئيس مرسي، استنكر اتحاد شباب الثورة، في بيان له، قرار الأخير بمنح المشير طنطاوي قلادة النيل والفريق سامي عنان نوط الجمهورية، وهما أرفع وسامين في البلاد، ثم تعيينهما مستشارين للرئيس، الأمر الذي عزز مخاوف القوى الثورية من أن يوفر لهما ذلك التكريم حصانة ضد المحاكمة عن أخطاء يمكن أن تنسب إليهما، سواء قبل تنحي مبارك أو إبان المرحلة الانتقالية. ورغم أن القانون رقم 12 لسنة 1972 المنظم لمنح الأوسمة والأنواط المدنية لم يضمن أي حصانة قضائية لحامل تلك الأوسمة والأنواط الرفيعة، بل إن المادة 22 من القانون تنص على أنه يجوز لرئيس الجمهورية تجريد حامل القلادة أو الوشاح أو الوسام أو النوط منه إذا ارتكب أمرا يزري بالشرف أو لا يتفق والإخلاص للوطن، طالب اتحاد شباب الثورة بضرورة محاكمة المشير وأعضاء المجلس العسكري. ومن بين هؤلاء وزير الدفاع الجديد المتهم في قضية كشوف العذرية العام الماضي، جراء قتل وتعذيب الثوار، فيما عدوه مسعى ضروريا للحيلولة دون إتمام صفقة الإخوان والمجلس العسكري بشأن سيناريو الخروج الآمن للأخير لقاء انفراد الطرف الأول بالسلطة. وبناء عليه، ارتأت قوى ثورية ومدنية، خصوصا تلك التي كانت تلوذ بالمجلس العسكري وتراهن عليه لإحداث التوازن المطلوب في الساحة السياسية، مقابل صعود الإخوان وتنامي قوتهم التنظيمية والانتخابية، في قرارات الرئيس مرسي الأخيرة دافعا لتجاوز الخلاف والانقسام بينها، والقبول بالتعاون والعمل المشترك لتشكيل جبهة سياسية فاعلة ومعارضة. واعتبرت تلك القرارات انفرادا إخوانيا بالسلطة وإعادة إنتاج الفرعونية السياسية التي أسقطتها ثورة يناير 2011، بدءا بالضغط الشعبي لإعادة تشكيل الهيئة التأسيسية المعنية بكتابة الدستور بما يسمح بتمثيل كل القوى والتيارات السياسية فيها وإسناد مهام التشريع إليها كي لا يستأثر الرئيس بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، مرورا بتنسيق الجهود لمواجهة ما يعدونه زحفا إخوانيا خلال الاستحقاقين الانتخابيين المقبلين على مستوى البرلمان والبلديات.