خط جوي مباشر يربط بين أتلانتا ومراكش    قمة نهضة بركان والوداد في الواجهة ولقاءات مصيرية في أسفل الترتيب    الوقاية المدنية تحتفي بيومها العالمي بجهة طنجة-تطوان-الحسيمة    موسوعة "أنطولوجيا الكاتبة المغربية" للكاتب حسن بيريش    الهاتف المحمول في المغرب.. 58.3 مليون مشترك ومعدل انتشار يفوق 158%    الأوقاف تُعلن عن إلغاء الدروس الحسنية لرمضان    ندوة لاس بالماس: شيوخ القبائل الصحراوية يدعون لحل سلمي لقضية الصحراء المغربية ويؤكدون دعمهم للحكم الذاتي    المكسيك.. رئيس لجنة التنسيق السياسي لكونغرس مكسيكو يدعو الحكومة لمراجعة موقفها بشأن قضية الصحراء المغربية    حوامض المغرب تصل السوق الياباني    الصين تتهم الولايات المتحدة بالابتزاز    الناظور.. حجز 1160 قرصا طبيا مخدرا وتوقيف مشتبه فيهم    النيران تلتهم سوق خضر في تطوان    تحضيرات رمضان تنعش تجار وحرفيي "لؤلؤة الشمال"    إعفاء المدير العام لطنجة المتوسط بسبب تورطه في أنشطة تجارية تتعارض مع مسؤولياته الرسمية    قاض فدرالي يأمر بإلغاء قرار ترامب بإقالة عدد كبير من الموظفين    "مورينيو" يعاقب بالإيقاف والغرامة    من بينها مطار الناظور.. العربية تطلق عروض تذاكر ابتداء من 169 درهم    تقديم خدمات استشارية في إسبانيا يطيح بالمدير العام لميناء طنجة المتوسط    أكادير تحتضن اجتماع التخطيط النهائي لمناورات الأسد الإفريقي 2025    مسجد باكستاني يتعرض للتفجير    ولاية آيوا الأمريكية توافق على "شطب حماية هوية النوع"    توقيف هولندي في المغرب متورط في ترويج الأسلحة النارية    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    الكلفة ترتفع في الصناعة التحويلية    النائب البرلماني محمد لامين حرمة الله يشيد بهذا القرار الملكي    هذا هو موضوع خطبة الجمعة    أخبار الساحة    «طاس» تؤكد انتصار نهضة بركان على اتحاد الجزائر وتصدر حكمها في قضية القمصان    شمس الدين طالبي يتوج بجائزة "لاعب الشهر" في كلوب بروج    "أگورا الحقوق والتعبيرات الثقافية".. بوعياش تدعو إلى وضع استراتيجية وطنية متكاملة لحماية التعبيرات الثقافية وإلى النهوض بإدماجها في الدورة الاقتصادية    عرض منتوجات بخسة للبيع على مواقع التواصل الاجتماعي يطرح أسئلة السلامة وحفظ الصحة . .إتلاف أكثر من طنّ من المواد الغذائية الفاسدة في درب السلطان بالدار البيضاء    «مول الحوت» يستأنف نشاطه بعد تدخل والي مراكش    مصطفى الزارعي يكتب: مستحيلان على أرض مستحيلة.. مهما انتصر الغزاة وطال انتصارنهم فإن ساعة هزيمتهم لا ريب فيها    حذر من إلغاءها في حالة عدم تلقي جواب . .فرنسا تمهل الجزائر شهرا إلى ستة أسابيع لمراجعة جميع الاتفاقيات معها وعلى رأسها اتفاقية الهجرة    المغرب يشارك في احتفالات الذكرى الستين لاستقلال غامبيا بوفد عسكري رفيع المستوى    تنسيق نقابي بقطاع الصحة يحذر من تأزم وضعية القطاع ويحمل الحكومة مسؤولية "انفجار الوضع"    "نصاب" في الرباط يقنع متابعيه في فايسبوك بجمع المال بهدف بناء محطة بنزين واقتسام الأرباح!    ملعب بنسليمان سيكون جاهزا في دجنبر 2027    في الحاجة إلى مثقف قلق    في بلاغ توضيحي لأعضاء المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب: أغلبية الأعضاء قدموا اقتراحات لحل الأزمة، لكن الرئيس المنتهية ولايته لم يأل جهدا لإجهاضها    إقصائيات مونديال 2026: المغرب يواجه النيجر وتنزانيا يومي 21 و25 مارس بوجدة    رحيمي ثالث أغلى لاعبي الدوري الإماراتي    الفريق الاشتراكي بمجلس المستشارين يستغرب فرض ثلاث وكالات للأسفار بأداء مناسك الحج    الصين تعتزم رفع القدرة المركبة لتوليد الطاقة إلى أكثر من 3,6 مليار كيلوواط في 2025    المياه الراكدة    في لقاء تاريخي بالجديدة.. عزيز أخنوش يلتقي بمناضلي حزبه ويستعرض أهم إنجازات ومشاريع الحكومة    بنسعيد وقطبي يفتتحان متحف ذاكرة البيضاء لاستكشاف تاريخ المدينة    ندوة تلامس النهوض باللغة العربية    السعدي يطلق السنة الدولية للتعاونيات بشعار "المغرب في قلب الحدث"    أخنوش ينوّه بمضمون الرسالة الملكية حول عدم القيام بشعيرة ذبح أضحية العيد    "حضن الفراشة" .. سلاح فتاك لمواجهة التوترات النفسية    غاستون باشلار : إنشاد صامت    مراوحة الميتافيزيقا عند نيتشه وهيدجر بين الانهاء والاكتمال    بنزاكور يقدم "عملاق من الريف"    شبكة صحية تدعو إلى تكثيف الحملات التطعيمية ضد "بوحمرون"    بعد مليلية.. مخاوف من تسلل "بوحمرون" إلى سبتة    متى تحتاج حالات "النسيان" إلى القيام باستشارة الطبيب؟    دراسة علمية تكشف تفاصيل فيروس جديد لدى الخفافيش وخبير يطمئن المواطنين عبر "رسالة24"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أربعة أيام حاسمة في سجلات الثورة المصرية
نشر في المساء يوم 23 - 08 - 2012

عاشت مصر أربعة أيام حاسمة من مسيرة ثورتها، بدأت بعدد من القرارات الرئاسية يوم 8 غشت، واختتمت بحزمة أخرى من القرارات والإعلانات الرئاسية يوم 12 غشت. ما الذي حدث بين اليومين المفصليين،
ربما لن يكشف للعلن لعدة سنوات قادمة، وسيصبح بالتأكيد مادة لمؤرخي مصر وانتقالها الملحمي إلى دولة الحرية والديمقراطية والعدل. ولكن ما أصبح واضحا في نهاية الأيام الأربعة الحاسمة، أن الثورة المصرية وصلت، أخيرا، إلى محطة الخلاص، وخرجت كلية من حالة فقدان اليقين والغموض التي لفتها منذ سقوط نظام مبارك. بشجاعة وحنكة سياسية بالغتين، يقود أستاذ الجامعة والمعتقل السياسي السابق، مرشح الرئاسة الذي لم يسع إلى الموقع ولا خطط له، والذي قبل المهمة باعتبارها واجبا ألقته على عاتقه الأقدار، مصر إلى زمن جديد.
ربما لم يكن الاعتداء الدموي على موقع الجنود الحدودي في شبه جزيرة سيناء البداية الفعلية، من ناحية تصور الرئيس للأمور، ولكنه بداية مسلسل الأحداث على أية حال. أوضحت الحادثة إلى حد لا يقبل الجدل أن انغماس القيادة العسكرية لجيش مصر في الشأن السياسي لم يعقد عملية التحول التي أطلقتها الثورة وحسب، بل أضر إضرارا فادحا بمقدرات الجيش واستعداده، وبأمن البلاد. ولكن ذيول الحادث لم تكن أقل مدعاة إلى الدهشة والاستغراب؛ ففي حين كان الرئيس، وكما كان متوقعا، يستعد للالتحاق بجنازة الجنود الشهداء، اكتشف، على نحو أو آخر، أن ثمة من يخطط لإحراجه واستغلال الجنازة الشعبية الرسمية لإهانته. ما شهدته جنازة الجنود فعلا كان أمرا لم تعرفه التقاليد المصرية من قبل؛ فبالرغم من الوجود الكثيف لعناصر الأمن العسكري وأمن وزارة الداخلية، جرى التهجم على رئيس الوزراء وعلى عدد من الشخصيات الوطنية المؤيدة للثورة، بمن في ذلك المرشح السابق للرئاسة د. عبد المنعم أبو الفتوح. كان الرئيس قد قرر، بالطبع، ألا يلتحق بمراسيم التشييع، ولكن الإهمال الوظيفي وتغييب تقارير سابقة حول الوضع في سيناء عن رئاسة الجمهورية ورائحة تآمر على منصب الرئاسة أو العجز عن توفير الحماية الضرورية لرئيس الجمهورية في الجنازة، أدت جميعها إلى قرارات 8 غشت. أطاح الرئيس برئيس جهاز المخابرات العامة، الذي تسلم موقعه أثناء الثورة خلفا للمرحوم عمر سليمان؛ كما عزل قائد الحرس الجمهوري، مسؤول أمن الرئاسة مدير أمن القاهرة، وطلب من المجلس الأعلى للقوات المسلحة تنحية قائد الشرطة العسكرية وعضو المجلس، اللواء حمدي بدين، أحد أكثر أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة إثارة للجدل، ومن تحيط به شبهات الاعتداء على شباب الثورة في أكثر من مناسبة.
قام د. محمد مرسي بزيارتين لشمال سيناء خلال أسبوع واحد، تفقد موقع حادثة الاعتداء على الجنود، ليكون بذلك الرئيس المصري الأول الذي يصل إلى خط حدود مصر الشرقية منذ تحرر المنطقة من الاحتلال الإسرائيلي قبل ثلاثة عقود. خاطب الرئيس المصريين من أهالي شمال سيناء، في مؤشر واضح على اعتزامه وضع حدد للانهيار الأمني في المنطقة؛ وخاطب الجنود والضباط في مواقعهم، سواء في شمال سيناء أو في مقري قيادات الجيشين الأول والثاني، قبل وبعد الحادثة، مطمئنا وشارحا وموضحا سياسته تجاه الجيش وتجاه وضع البلاد ومستقبلها. وربما كان الإعلان الدستوري الجديد، الذي أعلن يوم 12 غشت، موضع تفكير ودراسة منذ أسابيع، ولكن الظرف الذي صنعته تطورات الوضع في سيناء جعلت الأمور أكثر إلحاحا.
وسواء كانت القرارات التي اتخذها الرئيس عصر يوم الأحد الفاصل، بما في ذلك الإعلان الدستوري الجديد، محل نقاش مسبق بين الرئاسة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو لم تكن، فهذا ليس هو جوهر المسألة. المسألة أن حزمة القرارات ألغت إعلان 17 يونيو الدستوري، الذي قصد به احتواء الرئيس الجديد قبل توليه منصبه، والذي سبق للدكتور محمد مرسي، مساء اليوم نفسه، أن أعلن معارضته القاطعة له وعزمه على تقدم صفوف الشعب لمواجهة دلالاته. كما تناولت قرارات الرئيس إجراء تغيير شامل في القيادة العسكرية، بما في ذلك منصبا قيادة الجيش/ وزارة الدفاع ورئاسة أركان الجيش، وعدد آخر من المواقع القيادية في المؤسسة العسكرية المصرية.
لأسباب ليست من صنعه على الإطلاق، لم تتح له الحملة الانتخابية القصيرة الوصول إلى القطاع الأكبر من المصريين؛ لم يؤخذ الرئيس مأخذ الجد، وقلل، حتى بعض المتعاطفين معه، من قدرته على إدارة شؤون البلاد والحكم، في مرحلة من أكثر مراحل تاريخ الجمهورية تعقيدا. والمدهش أن إنجازات الرئيس الملموسة، منذ حملته الانتخابية الأولى، لم تلفت انتباه المراقبين والمهتمين. ليس لأحد أن يتنبأ بما ستكون عليه الأمور في المستقبل، ولكن محمد مرسي لا يعرف مصر والمصريين وحسب، ولم يراقب انهيار مصر الاجتماعي الاقتصادي عن قرب خلال العقد الماضي فقط، ولكنه أيضا رئيس بلا مصالح شخصية، تجره إلى حسابات غير لائقة أو متعارضة مع مصالح البلاد الكبرى. وفي موقع الرئاسة، كما في مواقع سياسية عدة تولاها من قبل، يقارب محمد مرسي واجباته بنمط لا يختلف عن نمط المصلحين الكبار في التاريخ العربي الإسلامي، أو بما يعرفه دارسو التاريخ الحديث من المقاربة الأنكلو ساكسونية للواجب في نهايات القرن التاسع عشر وبداية العشرين. إن كان لا بد لكل رئيس من كاريزما، فإن خاصية مرسي هي كاريزما الشعور العميق بالواجب. كان مرسي، كما أغلب المصريين ومراقبي الشأن المصري، يعرف من بداية توليه موقع الرئاسة أن ثمة خللا في بنية الدولة والحكم لا بد أن يعالج، وأن يعالج قبل أن يتحول إلى عطل مزمن، يجهض مكتسبات الثورة ويعرقل سعي مصر إلى النهوض.
وهذا هو ما ينبغي أن يقرأ في حزمة القرارات التي اتخذها الرئيس. الإغراء السهل والسريع دائما أن ينظر إلى تحولات بلد ما في ضوء أحداث مشابهة سابقة. وما إن اتضح حجم قرارات الرئيس حتى سارع البعض إلى التذكير بأن انتقالات السلطة في تاريخ الجمهورية لم تكن دائما بلا عقبات؛ وأن ما قام به الرئيس مرسي لا يختلف كثيرا عما قام به الرئيس عبد الناصر في 1967 عندما أطاح بعبد الحكيم عامر ومجموعته العسكرية، أو ما قام به السادات في ماي 1971، عندما تخلص ممن أسماهم مراكز القوى. قرارات الرئيس مرسي في يومي 8 و12 غشت ليست تكرارا لحوادث الصراع السابق على السلطة، ولا يجب أن تقرأ في ضوء سعي عبد الناصر أو السادات إلى إحكام قبضته على الحكم والدولة. محمد مرسي لم يكن جزءا من نظام الحكم حتى يخوض صراعا مع ورثة آخرين للسلطة والحكم. قرارات مرسي هي خطوة أخرى في حركة التغيير الهائلة التي أطلقتها الثورة المصرية، والتي تجلت، ولا بد أن تستمر في التجلي، في تيار سياسي اجتماعي كبير، يعيد بناء الدولة ونظام الحكم. كانت لحظة التلاقي بين إرادة الشعب وإرادة الجيش في أسابيع الثورة الثلاثة أبرز سمات الثورة المصرية. ولكن هذا التلاقي أصبح عقبة كبيرة في طريق الاستحقاقات التي فرضتها الثورة: استحقاقات بناء حياة حرة، وإصلاح جسم الدولة المصرية، بمؤسساتها وأجنحتها
المختلفة.
بيد أن ثمة وجها آخر لخطوة الرئيس مرسي، يتعلق بما هو الجيش المصري، كيف ينظر إلى نفسه وكيف ينبغي أن ينظر إليه. ليس هذا جيشا عقائديا أو نخبويا، بالمعنى الذي أصبحه الجيش التركي، مثلا، بعد حرب الاستقلال؛ ولا هو جيش طائفي على النمط السوري أو ما يجري بناؤه الآن في العراق. لا يعمل الجيش المصري على تكريس إيديولوجية ما في الدولة والمجتمع، ولا ينحدر ضباطه من طائفة أو طبقة أو ثقافة ما. بخصوصية مصرية بارزة وبصورة شبيهة بالأزهر، هذا جيش الشعب، أو هو أصبح كذلك، ولاسيما بعد الاستقلال التعاهدي في 1936، أبوابه ومواقعه العليا مفتوحة لأبناء الشعب من كل الطبقات والخلفيات والثقافات. ولكنه، وكما الأزهر، هو جيش مؤسسي، تعود جذوره إلى قرنين من الزمان، إلى بداية التحديث العثماني المصري الذي قاده محمد علي. حتى ثورة يوليوز 1952، لم يكن يقصد بها انقلابا عسكريا يطيح بالنظام الملكي، بل مجرد حركة تصحيح عسكرية ساهمت الظروف في تطورها إلى ثورة تغيير سياسي. ولأنه جيش مؤسسي فهو جيش يحمل وعيا جمعيا وتصورا خاصا لدوره وموقعه. ما تراه هذه المؤسسة أن الجيش ليس صانع الجمهورية وحسب، بل هو حارسها والوصي الأبوي على مصائرها. هذه المستويات المتداخلة من كينونة هذا الجيش ووعيه بذاته هي التي تفسر موقفه من النظام السابق، من الثورة، من سياق ما بعد سقوط النظام السابق، ومن خطوة الرئيس مرسي الأخيرة.
لأنه جيش الشعب، ولأنه لم يكن راضيا عن سياسات النظام في العشرية الأخيرة، ما كان له أن يواجه ثورة الشعب؛ بل رأى نفسه، على نحو ما، شريكا للشعب في ثورته. ولكنه بطبيعته وتصوره لذاته ليس جيشا ثوريا، ولم يكن يرغب في رؤية عملية تغيير شاملة في بنية النظام والدولة، تمس، في ما تمسه، خصوصياته وامتيازاته. المفارقة أن هذه الطبيعة، في النهاية، هي ما يجعله يقبل قرارات الرئيس في التغيير بدون ردة فعل واحدة: جيش الشعب، الجيش المؤسسي، يتقبل قرارات الرئيس الشرعي، الرئيس المنتخب بإرادة الشعب، ويطيع أوامره. هذه بالتأكيد ليست سوى بداية طريق طويل لبناء مصر الجديدة؛ فعلاقة الجيش بالدولة أعقد بكثير من وضع قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مرحلة ما بعد الثورة. ولكن ما حدث كان كافيا، على أية حال، لحسم مستقبل مصر، ومعها مستقبل حركة الثورة العربية.



بشير موسى نافع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.