تنذر أولى الزخات المطرية في الموسم الفلاحي سكان الرماني بخطر الأودية الأربعة التي تخترق مدينتهم وتهدد بغمر منازلهم بالسيول الجارفة حين تهطل الأمطار بغزارة. ويعتبر سكان الرماني حاضرتهم «ضحية» لموقعها في سفوح هضبات متعددة. لا تبعد هذه المدينة عن العاصمة الرباط سوى ب80 كيلومترا، ولكن سكانها يضطرون إلى قطع 160 كيلومترا من أجل استخراج بطاقة التعريف الوطنية. توجد في المدينة ثانوية وحيدة ومستشفى وحيد يقول فاعلون مدنيون إن خدماته «دون المستوى». في أحواز المدينة، لا شيء يعلو على الأنشطة الفلاحية، لكنْ قليل من سكان الدواوير المحيطة بالمدينة يحصلون على مدخول يجعلهم فوق عتبة الفقر. يضع سكان مدينة الرماني أيديهم على قلوبهم بمجرد هطول أولى الزخات المطرية مع كل موسم شتاء. تشكل هذه الزخّات «إنذارا» بقرب ضرب موعد جديد مع فيضانات الأودية الأربعة التي تخترق المدينة وتشكل تهديدا حقيقيا للأحياء السكنية ولشوارع المدينة ومرافقها الأساسية. وليس سكان المدينة وحدهم من يستشعرون الخطر المحدق بهم مع إطلالة فصل الشتاء. سائق سيارة أجرة في منطقة «مرشوش»، التي تبعد عن الرماني، بنحو 10 كيلومترات، أكد أنه لم يستطع تقبل العيش في هذه المدينة بسبب الخوف من الفيضانات: «لا يمكن تصور عواقب الفيضانات إذا كانت الأمطار قوية»، يقول هذا السائق، الذي فضل الإقامة في دوار غير بعيد عن «مرشوش»، أو «مغشوش»، كما ينطقها سكان المنطقة، على السكن في الرماني. ولا تتمثل «الكارثة الكبرى» بالنسبة إلى هذا السائق في فيضانات الأودية التي تخترق المدينة فقط، بل تشمل أيضا «خوفا مضمرا من حدوث خطب ما في السد الأكبر في المنطقة«. وينتاب الخوف ذاته سكان المدينة، وقد عبّر بعض من التقت بهم «المساء» عن هذا الخوف، وتوقعوا البعض أن تتحول المدينة إلى «أطلال» إذا وقع حادث من هذا القبيل.. ضحية الموقع تشكل أربعة أودية مصدر تهديد للرماني: «سبيدة» و«لحراير» و«هنتاتة» و«عريض» توقف فيضاناتها نبض الحياة في شرايين المدينة وتحول كثيرا من أجزائها إلى مستنقعات.. كثيرا ما تغمر السيول منازل الأسر وتوقف الدراسة في بعض المؤسسات التعليمية، لاسيما تلك التي شُيِّدت غيرَ بعيد عن مجرى الأودية الأربعة سالفة الذكر. يجعل الموقع الجغرافي للرماني السيول تغمر بسهولة بالغة المنازل في عدد من أحياء المدينة، التي توجد في موقع «تحاصره» الهضبات من كل جانب. يبدو ذلك جليا من جميع الطرق المؤدية إليها. فسواء ولجت المدنة من ناحية الرباط أو من الشرق، عن طريق واد زم، أو من الجنوب، عبر طريق الدارالبيضاء، فإن السيارات «تتهادى» فوق الهضبات إلى أن تبلغ سفحها في قلب مدينة الرماني، وهذا ما يفسر السهولة التي تغمر بها مياه الفيضانات الأحياء السكنية في الرماني والتقاء الأودية الأربعة في هذه المدينة. وتبدو الرماني من قمم الهضبات المحيطة بها مثل إقامات سكنية في قعر منجم مفتوح.. كثيرا ما يعود تلاميذ ثانوية عبد الرحمن زكي أدراجهم إلى ديارهم في فترات متفرقة من فصل الشتاء، إذ غالبا ما تغمر مياه الفيضانات هذه الثانوية التأهيلية الوحيدة في المدينة، التي تستقبل أيضا تلاميذ من المراكز القروية والدواوير المجاورة للرماني، وتجعل ولوجا مستحيلا. ويتذكر أحد المقاولين الشباب في المنطقة كيف غمرت مياه وادي «لحارير»، ذات يوم شتاء، فضاء هذه المؤسسة التعليمية وملأت عددا من أقسامها المتواجدة في الطابق الأرضي بالسيول والوحل. ولا تستغرب ساكنة حي «الكورس»، أيضا، أن ينتفض وادي «هنتاتة» ويغمر ديارهم بالسيول ويحوّل حياتهم إلى جحيم أثناء الفيضانات، قبل أن يتذوقوا معاناة إعادة الأمور إلى سابق عهدها وإفراغ المنازل المغمورة بالسيول من الوحل. وانتقد أحد أبناء المدينة السماح بالبناء في مناطق لا تسمح طبيعة تربتها بإقامة منشآت عقارية، واستدل على ذلك بفضاء كان يستغل في عهد الاستعمار وفي السنوات الأولى من الاستقلال، التي تواصل فيها تواجد المُعمّرين في الرماني، كحلبة لإقامة مسابقات في رياضة سباق الخيل، يحتضن في الوقت الراهن أحد الأحياء الراقية في الرماني، وشيدت فيه مرافق إدارية عمومية. وكان سكان الرماني، في مناسبات انتخابية عديدة، قد تلقوا وعودا بوضع حد لخطر الفيضانات الذي يهدد حياتهم طيلة فصول الشتاء. لكن لا شيء تحقق من هذه الوعود على حد قول كثير من التقت بهم «المساء» بعين المكان. وفي المقابل، أبدى آخرون، ضمنهم فاعلون جمعويون، تفاؤلا حذرا بإمكانية أن تحُدّ البنيات التحتية التي أنجزت في الآونة الأخيرة في مركز المدينة من خطر الفيضانات وتجعل مياه الأودية تنساب بسهولة في المجاري المخصصة لها دون أن تلحق أضرارا كبيرا بالأحياء السكينة وبالمرافق الأساسية. وتتضمن هذه المشاريع توسعة مجاري الأودية الأربعة على نحو يجعلها قادرة على استيعاب مياهها حين يبلغ صبيبها ذروته إثر التساقطات المطرية القوية. ويتم إنجاز هذه البنيات التحتية «المضادة للفيضانات» بمقتضى اتفاقية شراكة تم توقيعها في شهر فبراير الماضي بين المجلس الإقليمي للخميسات، الذي تتبع له دائرة الرماني إداريا، ووكالة الحوض المائي لأبي رقراق والشاوية، إضافة إلى الجماعة الحضرية لمدينة الرماني. وتركز هذه المشاريع بالأساس على واديي «عريض» و«هنتاتة»، اللذين يشكلان على مركز المدينة خطورة تفوق خطورة الواديين الآخرين سالفي الذكر. وعلى هذا الأساس، تم رصد ميزانية تناهز مليارا و550 مليون سنتيم لإنجاز هذه البنيات التحتية الواقية من الفيضانات. ودعمت وكالة الحوض المائي لأبي رقراق والشاوية ميزانية المشروع بمبلغ وصل إلى مليار و100 مليون سنتيم، في حين كانت أضعف المساهمات من نصيب المجلس الإقليمي للخميسات، بنحو 50 مليون سنتيم. أما المجلس البلدي للرماني فدعم المشروع ب400 مليون سنتيم، مع الالتزام بالتنسيق بين باقي الهيآت المعنية بالمشروع، خصوصا المستفيدين من شبكات الكهرباء والماء الصالح للشرب، بينما تكفّلت بلدية الرماني كذلك بصيانة هذه البنيات التحتية بعد إتمام عملية إنجازها. أشباه طرق ليست الفيضانات العاملَ السلبيّ الوحيد الذي يضرب التنمية في الرماني في الصميم بسب تموقع هذه المدينة أسفل هضبات عديدة. فالتضاريس المحيطة بهذه المدينة تجعل الوصول إليها صعبا من شتى الطرق المؤدية إليها. تتخلل هذه الطرق منعرجات، لا يخلو بعضها من خطورة، على طول عشرات الكيلومترات. «تضيق» الطريق الرابطة بين العاصمة الرباط والرماني، عبر «البراشوة»، إلى حد الاختناق في النقطة الكليومترية 38. تتموقع الطريق في هذا المحور في قمة جبل يطل على منطقة «اكريفلة» وتتخللها انهيارات عديدة من الجوانب، جعلت السلطات المعنية تحجب حركة السير على السير في أحد اتجاهيها. «ظلت هذه الطريق على هذه الحال منذ فصل الشتاء الماضي»، يقول سائق سيارة أجرة تربط العاصمة بالرماني. أبدى هذا السائق نفسه، في أول الأمر، انزعاجا كبيرا وتذمرا من عدم قيام السلطات المختصة بإصلاح هذا المقطع الطرقي، لكنه استدرك وذكّر بحالات مشابهة بقيت في سنوات خلت على حالها مدة طويلة، قبل أن يتم إصلاحها، مرجعا سبب ذلك إلى صعوبة ترميم الأضرار التي تلحق بالطرق في هذه المنطقة الوعرة تضاريسُها. وفي انتظار إصلاح هذه الانهيارات، يؤكد السائق ذاته أن السياقة في هذا المحور الطرقي لا تكتسي طابع الخطورة نهارا، وإنما يكون تهديدها للسلامة الطرقية كبيرا عندما يغطي الضباب قمة هذا الجبل، أو ليلا بالنسبة إلى الذين لم يخبروا هذه الطريق أو لا يعلمون بوجود هذا «التقليص» في عرضها من اتجاهين إلى اتجاه واحد فقط.. ورغم هذه «النقط السوداء» التي تتخلل هذا المقطع الطرقي، فإن السائقين المهنيين يفضلون المرور عبره على مقطع آخر يربط الرماني بالعاصمة الرباط، وكذلك «عين العودة» في ضواحي مدينة تمارة، عبر «مرشوش«. فالطريق المارة عبر «مغشوش»، كما ينطقها سكان المنطقة، والتي تبعد عن مركز الرماني ب10 كيلومترات، أسوأ بكثير من تلك التي تجتاز «البراشوة«. عرض الطريق الأولى أقل من الثانية، كما أن حالتها أسوأ، وإن كانت أقل منها منعرجات. ولا تختلف حالة الطرق الأخرى التي تربط الرماني ببقية المدن كثيرا: حفر هنا وانجرافات وانهيارات هناك. تتخلل الطريقَ التي تربط هذه المدينة بالعاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء، عبر المحمدية، على طول 122 كيلومترا، بدورها، حفر كثيرة وتهددها انجرافات في العديد من المقاطع، وليست الطريق الرابطة بين الرماني وواد زم أفضل حالا من المحاور الطرقية سالفة الذكر. غير أن ثمة عاملا آخر يكاد يكون مشتركا بين كل الطرق المؤدية إلى الرماني، يتمثل في ارتفاع فرص إمكانية إغلاقها في وجه المرور أيام التساقطات المطرية، خصوصا إذا كانت هذه الأخيرة تهطل بغزارة. وكثيرا ما تنجرف التربة وتهوي الحجارة من أعلى الجبال، لتلحق أضرارا كبيرة بالطرق، وقد تتسبب أحيانا كثيرة في «شل» حركة المرور فيها. حد أدنى من الخدمات «يطالب سكان الرماني -المدينة والدواوير المحيطة بها بتوفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية»، يقول أحد الفاعلين الجمعويين المحليين الذين التقت بهم «المساء». غير أن المتحدث نفسه أكد أن الساكنة هنا لا تجرؤ على التكتل من أجل المطالبة بحقوقها الأساسية. وذكر في هذا السياق كيف فشل فاعلون مدنيون محليون في تنظيم وقفة احتجاجية ضد حالة استغلال النفوذ والشطط في استعمال السلطة من قبل مسؤول محلي. كان إجماع ساكنة الرماني، الذين تم التحدث إليهم على مدى يوميين من إنجاز التحقيق، كبيرا على ضعف الخدمات الأساسية المتوفرة في المدينة. تصدّرَ تجديد شبكة الصرف الصحي اهتمامات بعضهم، لأنها تمثل عاملا حاسما في مواجهة السيول الجارفة لفيضانات المياه الأربعة التي تخترق مدينتهم كل فصل شتاء، في حين منح آخرون أولويته للخدمات الصحية والتربوية والتكوينية. ترتبط جل الأحياء السكنية في المدينة بشبكة الكهرباء والماء الصالح للشرب، لكن شبكة الصرف الصحي في عدد من أحياء الرماني، لاسيما في الأحياء القديمة، ك«الفيلاج»، أقدم أحياء المدينة، و«الأمل»، تحتاج إلى تجديد. وفي هذا السياق، يتساءل مقاول محلي عن مصير مشروع كانت السلطات المحلية قد أعدّته في وقت سابق من أجل الشروع في تجديد شبكة الصرف الصحي في الأحياء القديمة. ويتذكر المقاول نفسه الحديث الذي دار يومها عن مصادر تمويل هذا المشروع وكيف تم الاهتداء، في الأخير، إلى مسطرة طلب قرض من صندوق التجهيز الجماعي. وتعاني مدينة الرماني، ومعها الدائرة كلها، من ضعف في المرافق التعليمية والتكوينية. وتوصد الثانوية التأهيلية الوحيدة بالمدينة، التي تستقبل كذلك تلاميذ من ثانويات إعدادية خارج المجال الحضري للرماني، أبوابها في وجه التلباميذ أياما كثيرة في فصل الشتاء حين تغمرها مياه الفيضانات وتملأ أقسام الأرضية وحْلا وطِيناً.. أما التلاميذ الذين لا يحالفهم الحظ في أن يكملوا تعليمهم الثانوي بنجاح، فيجدون أنفسهم وجها لوجه مع الشارع. يتجه كثير منهم نحو الأنشطة الفلاحية، على غرار أغلبية سكان المنطقة، أو يلتحقون بأقرب المراكز الحضرية الكبرى، كالرباطوالدارالبيضاء، بحثا عن عمل. ويستغرب جمال مدراوي، الفاعل الجمعوي، عدم وجود مركز للتكوين المهني في هذه الدائرة، كمؤسسة يمكنها أن تستوعب كثيرا من الشباب الذين يغادرون فصول الدراسة في مستوى الثانوي الإعدادي أو الثانوي التأهيلي وتمنحهم تكوينا أوليا يرفع حظوظهم في ولوج سوق الشغل. ويتذكر مدراوي كيف أقدمت السلطات المختصة، قبل سنوات، على إغلاق أبواب مركز التكوين المهني في الرماني وعلى نقل تجهيزاته وطاقمه إلى مدينة الخميسات، وبات شباب الرماني مطالبين بقطع المسافة الرابطة بين المدينتين، والبالغة 80 كيلومترا، من أجل الالتحاق بأحد مراكز التكوين المهني. التوجه نحو الرباط هو الاختيار الثاني المتاح أمامهم، غير أن العاصمة تبعد عنهم بمسافة مماثلة، ولهذا لا يبقى أمام كثير منهم خيار عدا التوجه نحو مدينة بنسليمان. كما عبّر فلاحون وعمال في القطاع الفلاحي، التقت بهم «المساء» في دواوير مجاورة لمنطقة «مرشوش»، عن رغبتهم في تمكينهم من تكوين خاص ينمّي كفاءاتهم ويرفع حظوظهم في الحصول على أكبر مردوية ممكنة. وانتقدت فعاليات مدنية محلية، كذلك، ضعف الخدمات المُقدَّمة من قبل المستشفى المحلي في المدينة. وتساءلت الفعاليات ذاتها عن الأسباب التي تجعل المستشفى يحيل حالات ولادة كثيرة على مستشفيات العاصمة الرباط، بذريعة «خطورة الحالة»، ثم تتم الولادة في مستشفيات العاصمة بسهولة ودون مشاكل. أكثر من ذلك، قال فاعل مدني آخر إنه عاين قسم الولادة في حالة متردية في شهر رمضان الماضي. وأكد الفاعل المدني، الذي التمس عدم ذكر اسمه، خوفا من تبعات أقواله، أنه وجد أمهات وضعن أولادهن حديثا، ضمنهن زوجته، يرضعن مواليدهن في الظلام الدامس ليلا.. وفي ظهيرة اليوم التالي، اكتشف أن نوافذ قسم الولاة لا تغلق عل الإطلاق، وإنما تم تثبيتها على مستوى معين لا يمكن معه إحكام إغلاقها أو فتحها بشكل كامل.. كما أن الشكل الذي اتخذته نوافذ الولادة في هذا القسم، الذي يعتبر الأكثر حيوية بالنسبة إلى ساكنة المنطقة، يجعل الواضعات حملهن في فصل الشتاء عرضة للبرد القارس.. أما اللواتي يضعن حملهن في أيام الحر والقيظ فيجدن أنفسهن تحت رحمة أشعة الشمس، المتسللة من المنافذ المفتوحة نهارا، وعرضة للفحات البرد القارس ليلا. محنة البطاقة الوطنية لا تتوقف معاناة قاطني الرماني والدواوير المحيطة بها عند ضعف البنيات التحتية التربوية وغياب مؤسسات التكوين المهني، بل تمتد لتشمل معاناة من نوع خاص لساكنة لا تبعد عن العاصمة الإدارية للمملكة سوى ب80 كيلومترا. سكان هذه المنطقة مجبرون على قطع عشرات الكيلومترات في اتجاه مدينة الخميسات من أجل الحصول على بعض الوثائق الأساسية، وفي مقدمتها بطاقة التعريف الوطنية. وأكد كثيرون أن استخراج بطاقة التعريف الوطنية بات «كابوسا» بالنسبة إلى أسر دائرة الرماني كلها، خصوصا الواقعة في شرق وجنوب المدينة. تتطلب هذه الوثيقة القيام ب«رحلات مكوكية» في طرق مهترئة، وأحيانا كثيرة في سيارات «الخطافة»، التي تفتقر إلى شروط السلامة الطرقية. ويعتبر سكان الدواوير الأسر المقيمة في الرماني «محظوظة»، لأن بإمكانها أن تستخلص شهادة السكنى من مركز الدرك، الكائن بالطريق المؤدية إلى «مرشوش». بناية قديمة تنتمي إلى الحقبة الاستعمارية، بنيت في منحدر وتقابلها بنايات حديثة غير متناسقة. تبتدئ رحلة استخراج بطاقة التعريف الوطنية من مركز الرماني. وتزداد المعاناة حسب المسافة التي تفصل الراغب في استخراج هذه البطاقة عن قلب عاصمة الدائرة كلها. تكون البداية أولا باستخراج شهادة السكنى من مركز الدرك في الرماني. إذا حالفهم الحظ، يكون يوم واحد كافيا لهذا الإجراء. غير أن هذا الأمر لا يتأتى، وفق فاعلين مدنيين محليين، إلا في حالات قليلة. تبدأ محنة بطاقة التعريف الوطنية بعد استخراج شهادة السكنى. بعدها، يكون الراغب في الحصول على هذه البطاقة لأول مرة أو تجديد القديمة بأخرى بيومترية، مضطرا إلى التنقل إلى مدينة الخميسات. وتشتدّ المحنة كلما ازداد بُعْد إقامة المواطن عن مدينة الرماني، إذ لا يكفي في هذه الحالة الاستيقاظ مبكرا والتوجه في الساعات الأولى من الصباح نحو مدينة الخميسات، بل يكون لزاما كذلك ضرب موعد مع صاحب سيارة أجرة من النوع الكبير، أو حتى مع «خطاف»، لضمان الوصول إلى الخميسات باكرا، والهدف ضمان موقع متقدم في صف الراغبين في إيداع ملفاتهم لدى الإدارة المكلفة بإعداد البطائق الوطنية، لأن أي تأخير قد يُصعّب مأمورية إتمام الإجراءات القانونية الضرورية في هذه الحالة في يوم واحد. وإذا تطلب الأمر يوما آخر، فإن «فاتورة» استخراج هذه الوثيقة الأساسية قد تبلغ مبلغا قياسيا. ولهذه الأسباب، لا يرى سكان الدواوير المحيطة بالرماني حرجا في التعبير عن «غبطتهم» لسكان هذه المدينة الذين يوفر عليهم قربهم من مركز الدرك في مدينتهم مشقة استخراج شهادة السكنى. غير أن سكان الرماني -المدينة يشتكون، بدورهم، من مشقة قطع 80 كيلومترا، أي 160 كيلومترا ذهابا وإيابا، في اتجاه مدينة الخميسات من أجل استخراج بطاقة التعريف الوطنية. كما أنهم يكونون مجبرين على التنقل نحو مركز الإقليم في أولى ساعات الصباح، من أجل ضمان استكمال كافة الإجراءات الضرورية لهذا الغرض، قبل أن تغلق الإدارة المختصة أبوابها. وتتساوى بذلك معاناتهم مع سكان دواوير الدائرة الأكثر بعدا عن مركز الإقليم، مدينة الخميسات. وأبدى أكثر الفاعلين المدنيين المحليين الذين التقت بهم «المساء» استغرابهم استمرارَ هذه المعاناة، بعد أن تلقى سكان الدائرة وعودا بقرب افتتاح مفوضة للشرطة في مدينة الرماني، تضع حدا لما بات يسمى محليا «محنة البطاقة الوطنية». وذكر مقاول من أبناء المدينة أن الحديث دار، قبل فترة ليست بالقصيرة، عن قرب تشييد مقر للأمن الوطني في المدينة، بل ونُقِل عن مصادر، لم يكشف عنها، تخصيص بقعة أرضية لتشييد هذه البناية التي طال انتظارها من قبل «الرمانيين». أكثر من ذلك، تم، قبل أشهر عديدة، تداول أنباء عن قرب اكتراء مقر للمفوضية المنتظر أن تشرع في عملها دون أن تضطر إلى انتظار اكتمال أشغال بناء لم يشرع فيها بعد، حل من شأنه أن يعفي السكان، المحدودة مداخليهم أصلا، من متاعب استخراج البطاقة الوطنية ووثائق أخرى كثيرة ويخفف ثقل تكاليفها المالية عن ميزانياتهم الضعيفة. عتبة الفقر يضرب الفقر أطنابه في الدواوير المحيطة بمدينة الرماني. وتتسع رقعة العوز والفاقة لتغطي، أيضا، أحياء داخل المجال الحضري لهذه المدينة. في المدينة، يعتبر الموظفون أوفر الفئات الاجتماعية حظا أو على الأقل هكذا ينظر إليهم الفلاحون المعايشون لهم. سبب «الحظوة» توفرهم على دخل قار «إذا لم يعرف الزيادة، فإنه لا يخضع للنقصان»، على حد قول أحد الفلاحين. واعترف فاعلون جمعويون محليون، ضمنهم موظفون، ب«الامتياز الذي يحظى به الموظفون هنا عن باقي الفئات المهنية»، لكونهم «تابعين للدولة ويتلقون أجورهم على رأس كل شهر». غير أن هذه الفئة تشكو، بدورها، من ضعف الخدمات الأساسية في هذه المدينة ويطالبون برفع التهميش الذي يطال المنطقة كلها. لا يقلون التجار «حظوة» عن الموظفين. «كل أيام هذه الرماني أسواق»، يقول مدراوي. وعلى هذا الأساس، ترتفع حظوظ هؤلاء التجار في رفع مداخليهم إلى مستويات تجعلهم فوق عتبة الفقر. غير أن التجار يدرؤون عن أنفسهم «تهمة» هذه الحظوة ويؤكدون أن الركود يلقي بظلاله على المحلات التجارية في المدينة. أوكد كثير منهم أن «الحركة التجارية لا تنتعش في هذه المدينة إلا في المناسبات». وتبدو المحلات التجارية والمقاهي والمطاعم الكائنة في قلب المدينة، قبالة محطة سيارة الأجرة، من الصنف الكبير أكثر المحلات التجارية رواجا في المدينة كلها، والسبب كونها محطة استراحة للمارين من الرماني، لاسيما القادمين من اتجاه خريبكة وواد زم. بمحاذاة محطة «الطاكسيات» توجد «صالة كبرى» لبيع معدات الفلاحة والزراعة. الصالة ذات واجهة زجاجية تكشف، لزائري الرماني ولمتخذيها كنقطة عبور فقط، أنهم يوجدون فوق تراب منطقة فلاحية بامتياز. المناطق المحيطة بالرماني فضاءات زراعية شاسعة تزيد الإشارة المتلقاة من «صالة البيع» سالفة الذكر ترسيخا. غير أن سكان كثير من الدواوير المحيطة بالرماني، التي زارتها «المساء»، على مدى يومين، يقولون إنهم فلاحون بالاسم فقط.. أسر قليلة هنا تمتلك أراضي في هذه الدائرة، القروية بامتياز. وثمة شركات تستحوذ على مساحات شاسعة في هذه المنطقة، بينما تظل مساحات أخرى، لا تقل أهمية عن تلك المستغلة من قبل الشركات، بدون استغلال. وما يزال منطق «الضيعة» سائدا هنا. «ضيعة لوي» نموذج لذلك. تبعد هذه الضيعة بنحو 20 كيلومترا عن الرماني، على الطريق الرابطة بين الرماني والرباط، عبر «مرشوش«. لا توجد في هذه الضيعة بنايات حديثة، وإنما تكتسي جميع دُورها طابع المعمار الاستعماري، المقوسة سقوفها. غير أن بعض هذه الدور، التي بنيت في الفترة الاستعمارية، تضررت كثيرا نتيجة «الإهمال» الذي طالها على مدى سنوات عديدة. ويقول سكان هذه الضيعة إنهم غير معنيين بإصلاح أو ترميم المنازل الآيلة للسقوط، التابعة جميعها للمعهد الوطني للبحث الزراعي، الذي يجري خبراؤه تجارب عديدة في هذه المنطقة. أكد عبد الرحمن، أحد أبناء الضيعة، أن شباب الضيعة لا يستفيدون شيئا من الأنشطة الفلاحية السائدة في المنطقة. ويعتبر زملاء عبد الرحمن الأخير «محظوظا» لكونه تمكّنَ من الحصول على فرصة عمل في شركة إسبانية حطت رحالها بالقرب من ضيعة «لوي»، التي يقيم فيها أحد إخوته، ما يزال عاطلا، على غرار كثير من أبناء المنطقة. غير أن عبد الرحمن لا يتردد في الرد على هذه «الحظوة التي يُغبَط عليها»، حيث ردد أكثر من مرة على رفاقه، وكان أخوه الأكبر بمعيتهم، العبارة التالية: «لا يمكن اعتبار العمل الذي أزاوله عملا»، ثم أتبع ذلك بالتبرير التالي: «عملي موسمي ومدخولي الشهري غير قار، والشركة اليوم توجد على عتبة الإفلاس». كما أن الأجرة الشهرية لعبد الرحمان وزملائه الاثني عشر، وضمنهم حراس، تتقلص في فترات معينة من السنة إلى 600 درهم فقط، أي بمعدل 20 درهما لليوم.. وهو مبلغ اعتبره عبد الرحمن غير منصف تماما ولا يتناسب مع المهام الموكولة إلى عمال الشركة، المطالبين بتغطية مساحات شاسعة كانت الشركة قد وعدت في دفتر التحملات، الذي حصلت بموجبه على رخصة استغلال عشرات الهكتارات بمحاذاة ضيعة «لوي»، على تشغيل نحو 75 شخصا. ولا يستفيد العمال، أيضا، من أي تغطية صحية أو اجتماعية ويضطرون، في كثير من الأحيان، إلى قضاء فترات «بطالة اضطرارية«. غير أنه بدا واضحا أن الأمور لم تجر كما اشتهتها وتوقعتها تلك الشركة منذ حطّت الرحال في تلك المنطقة قبل نحو 8 سنوات: مئات أشجار «الجوز» التي زرعتها الشركة لم تثمر بعد بكميات وافرة. وأكد أحد العمال أن الشركة المعنيية تقضي أيامها الأخيرة في المنطقة. وتوقّعَ أن تنسحب قريبا من الأرض التي تستغلها حاليا. وقد شرع العمال في الانتظام في شكل نقابي من أجل المطالبة بحقوقهم، غير أن «الأمية تجعل كثيرين منهم غير واعين بأهمية العمل النقابي من أجل الحصول على كامل حقوقهم». وثمة أيضا استياء يتنامى في صفوف شباب المنطقة بسبب «توزيع عشرات الهكتارات على أناس لا ينتمون إلى المنطقة»، وهو استياء يبلغ أشده حين تُترَك مساحات شاسعة دون استغلال في وقت تنخر فيه البطالة أوصال المئات من شباب المنطقة وتئن فيه جل الأسر تحت عتبة الفقر. ونموذج ذلك أرض زراعية تفوق مساحتها الإجمالية 240 هكتارا لا يتم استغلالها في الوقت الراهن، رغم خصوبة تربتها وموقعها الاإستراتيجي بمحاذاة الطريق الرابطة بين عين العودة -نواحي تمارة ومدينة الرماني، عبر «مرشوش».
آبار مهملة تهدد حياة الأطفال في دواوير بضواحي الرماني ما يزال سكان «ضيعة لوي» يتذكرون الأفق الجميل الذي رسموه لضيعتهم، بعد أن حطت شركة إسبانية رحالها بالقرب من ديارهم. استطاعت الشركة المعنية أن تحصل، بمقتضى دفتر تحملات، على ترخيص باستغلال عشرات الهكتارات لإنجاز مشروع لإنتاج ثمار الجوز. وبعد نحو 8 سنوات على وصول تلك الشركة، صار سكان الضيعة يخشون أن يخرج صغارهم أو أحد أطفالهم ولا يعود إلى البيت أبدا.. فقد حفرت الشركة ثلاثة آبار وتركتها مهملة، من غير إشارات تدل لا وجودها أو تحذر من خطر الوقوع فيها. لا تكاد فوهات الآبار الثلاثة ترى بالعين المجردة، ولا تغطيها سوى أحراش تحيط بها الأعشاب الخضراء من كل جانب، يتركز أحدها وسط حقل زرعت فيه عشرات أشجار الجوز. أشجار تغري ثمارها الأطفال، خصوصا التلاميذ، الذين يحاولون يوميا قطف ثمارها، على قلتها، وهو عامل يرفع احتمالات أن يهوي في قعر البئر أحد هؤلاء الأطفال اللاهثين وراء حبة «جوز» على حين غفلة من أهله وحراس الحقل، غير المحاط بسياج أو بحائط. أزال بعض شباب الدوار عن فوهة البئر الأحراش التي كانت تغطيها. وبادر أحدهم إلى رمي شجرة في قعر البئر، وقبل أن يسمع دوي التطامها بالماء في الأسفل، قال آخر إن «عمق البئر لا يقل عن 120 مترا»، ثم أضاف بلغة جازمة: «لا أمل في الحياة لمن يهوي في هذه البئر»!.. طالب سكان الضيعة في أكثر من مناسبة بوضع إشارات تدل على وجود هذه البئر، إضافة إلى إحاطتها بسياج يبعد خطرها عن أطفال الضيعة والمناطق المجاورة، لكن مطالبهم لم تجد لها آذانا صاغية. وفي انتظار الاستجابة لهذا المطلب، يضع هؤلاء السكان أيديهم على قلوبهم كلما تذكروا حادثة سقوط شاة في بئر مماثلة في أحد الحقول المجاورة، خشية أن يكون مصير أحد أطفال الضيعة شبيها بمآل تلك الشاة.