لم يعد الأمر مقتصرا فقط على المنافقين والمُرائين والشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون والغاوون، ولا على الذين في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا، بل عمّ الخطْب ليشمل الكبير والصغير وتعدى البر والبحر إلى الجبل. فبين ما نقول وما نفعل خرق ما انفك يتسع على الراقعين، وبين ما نظهر وما نبطن أبوان شاسعة كسماء من أكاذيب. قد تكون للسياسيين والشعراء أعذار يمكن تُفهَم بعضها أحيانا.. قد تكون للمضطرين مسوغاتهم المقبولة في هوامش معلومة، وقد تكون لفئة صغيرة -وسط السواد الأعظم- أسباب تؤكد قاعدة الانسجام بين المظهر والمخبر، بين الفكرة والمسلك، بين المُعلَن والخبيء.. والحق أن التطابق، بدوره، مجرد افتراض ليس إلا. أما أن تصبح ظاهرة ارتداء الأقنع هي واقع حالنا فتلك هي المسألة.. فكم من حاميها هو، في الواقع، حراميها، الغدار.. وكم من فقيه كنا ننتظر «بركته» دخل المسجد ب«بلغته» النجسة.. أما بعض المناضلين فقد تبيَّنَ، عن طريق الصدفة لا غير، أنهم ما كانوا يناضلون سوى ضد أبناء الشعب، المغلوب على أمرهم، وحراس القيّم من السقوط ما أكثر من هوى هو أيضا. وهكذا دواليك، إلى الحد الذي بات فيه وجود وجه من غير قناع من قبيل البحث عن الغول والعنقاء، إلى درجة أن القناع صار يلفه قناع أيضا، تماما كالصناديق الصينية. وما بقى في الجبة غير القناع! بل ما هو أفظع.. فنحن، من خلال مظاهرنا وكلامنا ومزاعمنا، قديسون، أتقياء، أنقياء، أهل ثقة... وكلنا نموت في حب الوطن والدين و... لولا أن أقنعتنا حين تسقط، بين الفينة والأخرى، لسبب أو آخر، قد تُعرّي بشاعة حقيقتنا، فيغدو لكل منا وطنه ودينه، اللذان بهما يحيى وعلى هواهما يموت.. فإلى عهد قريب، كان لنا وازع في الدين، أو في الأخلاق، أو في الوطنية، أو الحزبية، بعضا أو كلا، يعصمنا من التظاهر بما لا يعكس حقيقتنا. بيد أن ما يُلاحَظ علينا اليوم هو أننا -إلا من رحم الرحمن- قد صرنا، أو نكاد، بلا مبادئ تقريبا وفي حل من الضوابط التي تقلص من الفوارق بين ما نبديه وما نخفيه، إلى الحد الذي صار معه الأكثر تظاهرا بالصدق هو الأكثر إثارة للشكوك، والأكثر تبجحا بالورع هو الأكثر مدعاة إلى الارتياب، والأكثر تحمسا للصالح العام هو الأقرب ظنا من أنه غدا لا يرى في هذا الصالح سوى مصلحته الخاصة. الأمثلة لا تحصى، غير أن الجرأة الأدبية لا تسعف في هذا المقام. لا حاجة إلى التدليل على هذا الكلام، إذ يكفي أن نتعاهد كي نجنح إلى الخيانة، لنأخذ سلفة لكي نقرر عدم ردها والتنكر للملح والعشرة الذي يربطنا مع من أسدى إلينا خيرا، أو ائتمننا على سر. وعلى من يقول العكس أن يجرب ويقرض ماله، كتابه أو سره إلى صديق، ولو كان هذا الصديق، هو كاتب هذه السطور نفسه!.. نعم، هناك، دوما، ما يدحض هذا الطرح، لكننا نتكلم هنا عن القاعدة (من قال القاعدة؟) -وهي أننا نميل إلى الخديعة أكثر- ليس عن الشواذ (من قال الشواذ؟)- وهي أننا أحيانا قد نكون أسوياء ونحن نرتدي الأقنعة، والله أعلم.