أحيانا تكبر الكلمات ولا بياض، أعني الكلمات التي تتحول إلى فتحات جراح، تمتص المشهد وتشخصه. وتبقى في الخلف الكبير تسند الانتظار بين طبقات الصراخ؛ لكن لا بياض، أعني لا قول ينحدر من الغصة، ليصر على المعنى بين البشاعات التي تشوه الأصل وتذهب بريح الفصل. أحيانا يمتد البياض، لكن الكلمات تنسحب في صمت، في صخب، وفي غفلة... لتلوذ بالجيوب والفرائص. الكلمات التي تستطيب اللغو، وتمجد الأقنعة. ثنائية السواد والبياض متعددة الألياف والتكوين، بل أكثر من ذلك مفتوحة على إحالات ومرجعيات. وفي المقابل، يتعدد السواد ويتشابك، سواد يتحول إلى كتلة شبيهة بلطخة، بأمة، بلون أو نمط. وحين يكون هذا السواد متشابك الداخل، فهو مفتوح ككوات على الحياة والوجود. أكيد أن لكل منا سواده غير المنفصل عن السواد العام الذي يصيرنا كائنات في العتمةّ، تكتب بالفحم على البياض المنفلت عن الرقابة وعيونها اشتهاءات تكسر الطابوهات، وتقوم بتنسيبها. أما البياض، أو بالأحرى بياض البياض، فله أرصفته أيضا، الممتدة من بياض القبر إلى قنة السماء، بياض الاشتهاءات والرايات، بياض الأضرحة والحالات، بياض الأعماق والرغبات.. وهو ما يثبت أن لكل سواد بياضه المطمور في جوفه. وبالتالي، فكل منا يحيا بين بياضين، البياض الأول والأخير؛ وبينهما نطارد بياضا في الحياة والوجود. وكلما كان سفرنا على محمل بياض، ننتهي إلى سواد. وهكذا نحن في دخول وخروج دائمين. وطبعا دخول الحمام ليس مثل خروجه! - قلت له: كم يؤلمني هذا السواد ولا بياض. - قال: وهو ليس بشيخ أو عارف – بل حارس أنفاسه في القفص – مائة تخميمة وتخميمة ولا ضربة بالمقص. طبعا السواد الأعظم لا مقص له، ماعدا تلك «التخميمة» الشبيهة بمقص داخلي لا ينام، فيخرج كل شيء للحياة مقصوصا. - قلت: ليلنا يستر الفضائح، ولا يتركها تنتشر على وجه النهارات البئيسة. - قال: حدق جيدا في فضائح النهار، وسترى هذا الأخير امتدادا طبيعيا لليل.. ملكة النهار يأتون من الليل دوما. - قلت في نفسي وبها: آه! كم حدقت، حتى أصبحت قابلا للتحديق حقا، كلما حدقنا في شيء إلا وملأناه، كأن السواد هو الأصل المملوء بضربة اليد والعقل أو الحمق... حقيقة، إننا نحيا بين سواد وبياض، سواد مملوء كأي مجال ومكان، فتكون آليات التواصل عبارة عن قنوات للغوص، طبعا ضمن حدود مؤكدة أو مفترضة، حدود تطعم بالإديولوجيا ويحرسها التاريخ المدجج! وفي الخلف، هناك بياض ما يرافق السواد، بياض نجنح إليه كملجأ وخلاص أو احتياط رمزي أو... وأحيانا يغدو هذا البياض بياض أسرارنا الصغيرة، كما مناديل الجيب والنوم والكتابة... ذاك البياض الذي نخبؤه تحت ضلوعنا المعدودة لنكتب عليه: «أحبك» لوطن ننتظر منه، أن يبادلنا البياض، دون ألوان ظرفية ومظروفة . لكن بإمكان الجماعات والهيئات أن تلون ما تشاء وبكامل الهندسات و«التخليطات»، لتوهم الآخرين أن الأفق بإمكانه أن يتجلى، خارج السواد والبياض. فالأول شر والثاني خير. ويغلب ظني أنها الثنائية التي قال في شأنها جبران خليل جبران: الخير في الناس مصنوع إذا جبروا والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا مناسبة هذا الكلام هي الحيرة التي نحياها بين السواد والبياض، فكلما كثر وتأشكل سوادنا، قل بياضنا، وكلما كثر البياض – البلاستيكي أحيانا- كثر السواد لملئه... لم أقل لكم تصبحون على بياض، وكفانا شر السواد.