تستدعي ولادة رضيع لدى امرأة عادية وجعا وأمومة واحدة، في حين تعيش المرأة المبدعة وجعا مكررا، وأمومتين: أمومة طبيعية، وأمومة لا أبوة فيها، هي ولادة النص الإبداعي، وما يستحضره من وجع وألم وسهر حتى. عن طقوس وضنى الولادة الطبيعية، وولادة النص الإبداعي أجرينا هذا التحقيق. -1 تقول الشاعرة المغربية فاطمة بنيس: «كأنثى مبدعة، يضاهي مجهودي في ولادة نص إبداعي، ولادة كائن بشري، مع أن هناك اختلافا جوهريا في ما بين الولادتين. المولود البشري هو نتيجة لرابطة واحدة واضحة المعنى، وخلق تقدر عليه حتى الكائنات الحيوانية، بينما النص الإبداعي هو نتيجة لروابط غيبية وثمرة ملتبسة المعاني وغير خاضعة لمنطق الأبوة وبالتالي ليست كل أنثى مؤهلة نفسيا وفزيولوجيا لخوض هذه المغامرة . وتقول فاطمة بنيس: «أدرك أنني إذا ما فاجأت محيطي الاجتماعي بمولود بشري، سأحقق له نوعا من الفرح والرضا، وسيطمئن علي كأنثى تابعة لمنظومته البطريكية، لكن إذا باغته بمولود إبداعي، سأحدث له قلقا وإحراجا، لأنني انزحت عن مساره المألوف، وأبدعت مساري الذاتي، وتستمر في الشرح: «بالنسبة لي، ولادة نص إبداعي تجديد لجسدي الأنثوي واكتشاف لحياة أخرى مغايرة لحيواتي السابقة، ففي كل نص إبداعي قلب ينبض وجسد يتشكل عكس الصورة النمطية، وهذا ما يجعل إجهاضه بمثابة فقدان مولود بشري». 2 - الروائية المصرية هويدا صالح تقول: «حين أكون في حالة إبداع، أشعر بحالة خاصة من عدم اليقين، أشعر بحنين جارف إلى شيء مجهول لا أعرف ما هو، ولا يتضح ذلك الشيء إلا حين أمسك القلم وأبدأ في الكتابة، حينها لا أنشغل بالتجنيس، فقط أنشغل بتلك الهواجس والمخاوف التي تسكنني والتي تجعلني أقف أمام الذات المسكونة بأحاسيس غامضة متأرجحة بين الشك واليقين، بين الحقيقة والخيال، ساعتها لا تكون لدي أي حلول لمواجهة العالم، ومواجهة تلك الحالة المحمومة إلا أن أبدأ في الكتابة، ساعتها تكون الكتابة هي الخلاص، هي المحرر لطاقات مخبوءة، طاقات نفسية لو لم أعبر عنها لصارت حفرا سوداء عميقة تأكل روحي، أشعر بروحي ناصعة الفراغ كفرخ حمام أبيض تماما، لا خط واحدا أسود يعكر بياضه، أشعر بفرخ الحمام / الروح يطير حرا طليقا بعد أن تنبجس عيون الإبداع، ويخرج النص إلى بياض الورق، ساعتهاأاجلس أمام الورق الذي سودت بياضه، تأمل وأسائل: هل أنا كاتبة تلك الكلمات الحية التي أشعر بكلماتها تبتسم لي؟! وتضيف هويدا صالح: « تماما مثلما تساءلت بفرحة غامرة بعد أن انبجس رحمي عن صغيرتي سعاد، جاء صوتي طفوليا مشاغبا، أنا أصبحت أما، وظلت أمي وإخوتي يتندرن بتلك الجمل الطفولية التي تفوهت بها بعد الولادة، تماما أقف هكذا، أمام الوريقات التي سودتها بشغف روحي، لا يهم أن تأتي شعرا أو نثرا، المهم أن أصب تعبي وفرحي وشغفي على الورق، ويصير لي كائنا آخر يبتسم لي، وينفصل عن ذاتي، يحاورني ربما، ويشاكسني أحيانا، وأحيانا أخرى يبتسم لي في محبة». 3 - القاصة المغربية سعدية باحدة تعلن أنه: «شتان ما بين ولادة المرأة لرضيع تؤهل نفسها منذ مدة لاستقباله، ويشاركها الأهل والأقارب الفرح بقدومه، ويقتسمون معها الوجع، ما يجعلها تستمد القوة من مؤازرتهم، فتنسى آلام المخاض مباشرة بعد الولادة، تنفرج أساريرها بصيحة المولود، ويرقص قلبها مع الزغاريد. وتضيف: أما المرأة المبدعة، فحين يفتت الوجع أوصالها، يلملمها، تصطليها حمى الولادة، تئن، تتوجع، تتضرع، ليهون المغص، ويخف المخاض وتسهل الولادة، حينذاك تهرع وحيدة إلى ركن قصي تحت جذع نخلة عقيم، لتداري ورطتها يتيمة وكمن يحمل سفاحا، فقد تعزف عن الأكل، عن الابتسام، يجافيها النوم، وتفضل الاحتراق مع الأوراق والأحبار، وقد يتخلى عنها حتى أقرب الناس إليها، وقد تعزف عن الأكل . وختاما، تقول باحدة: «في ظل هذه الضغوطات الممارسة على المرأة يوميا، تنشطر بين العمل، متطلبات العائلة، وبعدهما الإبداع، إذ لا تتوفر لها طقوس الكتابة إلا بعد توتر ومعاناة مزدوجة، قد تطول حتى تتعفن الكلمة بداخلها، وهذا يحز في نفسها، فتكتئب وتنزوي في صمت». 4 - وتقول الروائية المغربية سعدية السلايلي: «طالما كتبت عن هذه العلاقة لأنني أنثى ومبدعة، وطالما رواد تني هذه المقارنة، بالمناسبة، أنا أنثى مستعصية على الترويض والإخصاب، ما يقوى على مطارحتي الغرام غير العيون المتعطشة للحرية في وجه شعب مهووس بالتمرد، أعشق المعاناة في أنفاسه فيصيبني وهم الاشتهاء وأستسلم بملء أنوثتي حتى يحصل الإخصاب المحرم، فيكون الوحم حيث يصير كل طعم مرا وكل لون قاتما، وكل رائحة باعثة على الإغماء، وتبرعم في الروح والجسد روعة الخلق، وأصبح أقرب إلى إلهة مني إلى إنسان، ثم يحين موعد الوعد. وتضيف سعدية: «نفس الخوف من هذا الكائن، الذي سيخرج من عدم ونفس هواجس التشوهات، ونفس اللقاء المبهم في ممر بين الحياة والموت، ونفس الخوف والضعف والقوة ونفس الصراخ في ذات اللحظة من النشوة والألم، وللتاريخ فأنا عندما رأيت أول رواية لي في المطبعة جاهزة للقراءة، أحسست بذات الإحساس عندما لمحت وجه طفلتي من خلال فوضى الممرضات في العيادة». 5 - أما القاصة والشاعرة المغربية مليكة صراري فتقول: «إن الكتابة رد فعل لا شعوري على وخزة ما، وأعتقد أنه شعور قد يوحد بين كتاب وكاتبات بصرف النظر عن تصنيفهم الأجناسي، بيد أن ظروف المرأة مختلفة في علاقتها بالعالم، نتيجة طقوس يومية يمارسها الواقع، قد يساهم في اختلاف شعور الأنثى عن الذكر بوخزة الألم، فما العلاقة بين الكتابة والألم؟ وهل الكتابة ألم؟ تستطرد مليكة قائلة: «تتشابه الولادتان، ولادة النص، وولادة الجنين، في كونهما تعيشان مخاضا سابقا مع اختلاف زمني، فالمرأة تعيش مخاضها خلسة وكأن ابنها النص ليس شرعيا، وتحذر أن يتسرب فعل جنحتها إلى من حولها». وتضيف مليكة: «ولادة النص أحيانا تهطل أحيانا كزخة مطرية، أما النصوص المجهضة فنصوص غير ناضجة لم يكتمل بوحها الداخلي، وخلاصة القول إننا ننسى بالولادة وجعها، ونحيي بالكتابة أوجاعا ما لأثر ما، وفي لحظة ما». 6 - الروائية التونسية فتحية الهاشمي تقول: «وأنا أحضن كتابا أشعر بحرارة ما تسري بداخلي وأنا أعانقه، بعيني قبل يدي، وأستمع إلى كلمة «مبروك مانزاد ليك»، حينها أحس بفرحة الأم الحقيقية، ولكن اليوم غير ذلك اليوم، قد تتساءلون لماذا؟ طبعا لكم الحق، لفارق بسيط فقط: الابن من لحمي ودمي يصنع حياته ويكون مسؤولا عنها كلما كبر، لكن النص الإبداعي يظل جسدي وعقلي كلما تقدمت به السن، أعود إليه فرحة، قلقة، متمردة، غاضبة، وتظل الأصابع تشير إلى أمومتي، وكم مرة حاولوا انتزاع مولودي مني أو تشويه صورته كي أكف عن الإنجاب، لكن مازال الحرف يمخر في مخي وجسدي ولا أعرف منه خلاصا». وتضيف فتحية: «أما إجهاضه، فلا تسأل عما أكابده، ماحدث لي، فقد أعيش أوضاعا عصيبة، أصرخ في وجه من يكلمني، وقد أدخل في حالة هستيريا لا تنتهي إلا وأنا أعاود كتابة ذلك النص، لكن بوجه مغاير».