لا يمكن الحديث عن المرأة في صحتها ومرضها دون الحديث عن الأمومة، فهي من أقوى خصائصها ووظائفها التي منحها الله إياها لتعمر بها الحياة، ولذلك ارتبطت فكرة الأمومة في المجتمعات القديمة بالألوهية، وذلك حين كان هناك اعتقاد بأن المرأة هي التي تنجب بذاتها أي أنها مصدر الخلق، ومن هنا انتشرت الآلهة الأنثى بمسميات مختلفة. ثم حين اكتشف الرجل أن وجوده ضروري لأن تنجب المرأة ظهرت الآلهة الذكورية جنباً إلى جنب مع الآلهة الأنثوية، ثم حين اكتشف الرجل خلال الحروب والمنازعات أنه جسمانياً من المرأة أقوى وأنه مسئول عن حمايتها حاول الانفراد بفكرة الألوهية ، وحين تجاوزت الإنسانية هذه المراحل واستنارت بصيرتها بنور الوحي الإلهي وعرف الإنسان التوحيد وتواترت الديانات إلى أن وصلت إلى الدين الخاتم الذي أعلى من مقام الأمومة والأبوة حتى جعله تاليا لمقام الربوبية في قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً . إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً (الإسراء 23 - 24) من هي الأم؟ الأم : هي أصل الشيء ، وهي الوالدة ، وهي الشيء الذي يتبعه فروع له . والأمومة هي نظام تعلو فيه مكانة الأم على مكانة الأب، ولا شك أن خير وصف يعبر عن الأم وعن حقيقة صلتها بطفلها في لغة العرب هو الوالدة وسمي الأب الوالد مشاكلة للأم الحقيقية، أما الأب فهو في الحقيقة لم يلد، إنما ولدت امرأته. فالولادة إذن أمر مهم، شعر بأهميته واضعوا اللغة، وجعلوه محور التعبير عن الأمومة والأبوة والبنوة ب وفي القرآن الكريم تأكيد لذلك المعنى في قوله تعالى : ما هن أمهاتهم، إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم فلا أم في حكم القرآن إلا التي ولدت والأمومة هي علاقة بيولوجية ونفسية بين امرأة ومن تنجبهم وترعاهم من الأبناء والبنات. وهذا هو التعريف للأمومة الكاملة التي تحمل وتلد وترضع (علاقة بيولوجية) وتحب وتتعلق وترعى (علاقة نفسية). وهذا لا ينفي أنواعاً أخرى من الأمومة الأقل اكتمالاً كأن تلد المرأة طفلاً ولا تربيه فتصبح في هذه الحالة أمومة بيولوجية فقط ، أو تربى المرأة طفلاً لم تلده فتصبح أمومة نفسية فقط. ومما سبق يتضح أننا أمام أنواع ثلاثة من الأمومة : الأمومة الكاملة (بيولوجية ونفسية) : وهي الأم التي حملت وولدت وأرضعت ورعت الطفل حتى كبر، وهي أقوى أنواع الأمومة فهي كما يصفها الدكتور يوسف القرضاوى (فتاوى معاصرة 1989) : المعاناة والمعايشة للحمل أو الجنين تسعة أشهر كاملة يتغير فيها كيان المرأة البدني كله تغيراً يقلب نظام حياتها رأساً على عقب، ويحرمها لذة الطعام والشراب والراحة والهدوء. إنها الوحم والغثيان والوهن طوال مدة الحمل ب وهي التوتر والقلق والوجع والتأوه والطلق عند الولادة. وهي الضعف والتعب والهبوط بعد الولادة. إن هذه الصحبة الطويلة - المؤلمة المحببة - للجنين بالجسم والنفس والأعصاب والمشاعر هي التي تولد الأمومة وتفجر نبعها السخي الفياض بالحنو والعطف والحب . هذا هو جوهر الأمومة: بذل وعطاء وصبر واحتمال ومكابدة ومعاناة . - الأمومة البيولوجية : وهي الأم التي حملت وولدت فقط ثم تركت ابنها لأي سبب من الأسباب وهي أمومة قوية وعميقة لدى الأم فقط . ولكنها ليست كذلك لدى الابن (أو البنت)، لأن الأبناء لا يشهدون الأمومة البيولوجية وإنما يشهدون الأمومة النفسية، ولذلك اهتم القرآن بالتوصية بالأم والتذكير بالأمومة البيولوجية التي لم يدركها الأبناء. قال تعالى : ووصينا الإنسان بوالديه، حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين (لقمان 31) . - الأمومة النفسية : وهي الأم التي لم تحمل ولم تلد ولكنها تبنت الطفل بعد فراقه من أمه البيولوجية فرعته وأحاطته بالحب والحنان حتى كبر. وهذه الأمومة يعيها الطفل أكثر مما يعي الأمومة البيولوجية لأنه أدركها ووعاها واستمتع بها. والأمومة النفسية - سواء كانت جزءاً من الأمومة الكاملة أو مستقلة بذاتها - تقسم إلى قسمين: الأمومة الراعية: وتشمل الحب والحنان والعطف والود والرعاية والحماية والملاحظة والمداعبة والتدليل. الأمومة الناقدة: وتشمل النقد والتوجيه والتعديل والأمر والنهي والسيطرة والقسوة أحياناً. وفي الأحوال الطبيعية يكون هناك توازن بين قسمي الأمومة فنرى الأم تعطي الرعاية والحب والحنان وفي نفس الوقت تنتقد وتوجه وتعاقب أحياناً. أما في الأحوال المرضية فنجد أن هذا التوازن مفقود فيميل ناحية الرعاية الزائدة والتدليل أو يميل ناحية النقد المستمر والقسوة والسيطرة . أنماط من النساء: في طبيعة المرأة ثلاث كيانات رئيسية (الأم - الزوجة - الأنثى) يمكن أن تشكل بحسب غلبة أحدها تلك الأنماط النسائية التالية : .1 المرأة الأم : تتجه بكل مشاعرها نحو أطفالها وتكون مشغولة طوال الوقت بهم وتدور كل سلوكياتها حول مركز واحد هو أبناؤها. وهذا النموذج يكثر وجوده في المجتمعات الشرقية. .2 المرأة الزوجة: تتجه بمشاعرها نحو زوجها فتحبه حباً شديداً وتخلص له طول العمر وتكون أقرب إليه من أي مخلوق آخر، فهما دائماً في علاقة ثنائية حميمة يقضيان معظم الوقت معاً في البيت أو في الرحلات الداخلية أو الخارجية أو في المتنزهات، وهذا النموذج نادر في المجتمعات الشرقية ولكنه موجود في المجتمعات الغربية خاصة حين يكبر الأبناء ويغادرون بيت العائلة. .3 المرأة الأنثى: وهى امرأة تتميز بالنرجسية وحب الذات وتتجه بمشاعرها نحو نفسها وتتوقع من الجميع أن يدللونها وتغضب منهم إذا أغمضوا أعينهم عنها فهي تريد أن تكون في مركز الاهتمام دائماً ، وكذلك فهي دائماً مشغولة بجمالها وزينتها وجاذبيتها لذلك تقضي وقتاً طويلاً في متابعة أحدث الأزياء وأحدث الاكسسوارات ، وتدور كثيراً في الأسواق ، وتقف كثيراً أمام المرآة ويهمها جداً رأي الناس فيها ولا تحتمل الإهمال وهي في غمرة انشغالها بنفسها كثيراً ما تنسى أولادها وتنسى زوجها وتنسى كل شيء. .4 المرآة المتكاملة : وهي التي تتوازن فيها الكيانات الثلاثة فتكون أماً وزوجة وأنثى بشكل متكامل. وهذا لا يمنع أن تبرز إحدى الكيانات عن الأخرى في أوقات معينة، فتبرز الأم حين يمرض أحد الأبناء وتبرز الزوجة حين يكون الزوج في محنة وتبرز الأنثى في مرحلة منتصف العمر حين يكبر الأولاد ويقل احتياجهم لها وحين ينشغل عنها الزوج فتعود حينئذ إلى نفسها لتدللها وتهتم بها وتتصرف بشكل يجذب اهتمام من حولها إليها. وطبيعة المرأة البيولوجية والنفسية مهيأة لأن تتحمل الآلام من أجل أبنائها وزوجها، وأن تعطي كثيراً ولا تأخذ إلا القليل وربما لا تأخذ شيئا، وأن تحنو على من حولها وربما يقابلون ذلك بالقسوة أو الجحود، وأن تؤثر غيرها على نفسها ، وأن تضحي بنفسها من أجل سلامة من ترعاهم. فهي في علاقاتها بزوجها وأولادها تميل إلى الخضوع والتسليم والإيثار وتكون سعيدة بذلك ولا تطلب أي مقابل وكأنها مدفوعة إلى ذلك بغريزة قوية هي غريزة الأمومة . ما هي غريزة الأمومة؟ هي غريزة من أقوى الغرائز لدى المرأة السوية وهي تظهر لديها في الطفولة المبكرة حين تحتضن عروستها وتعتني بها ، وتكبر معها هذه الغريزة وتكون أقوى من غريزة الجنس فكثير من الفتيات يتزوجن فقط من أجل أن يصبحن أمهات ودائماً لديهن حلم أن يكون لهن طفل أو طفلة يعتنين به . ولولا هذه الغريزة القوية لعزفت معظم النساء عن الزواج والحمل والولادة . وغريزة الأمومة أقوى من الحب الأمومي ، لأن الغريزة لها جذور بيولوجية (جينية وهرومونية) أما الحب فهو حالة نفسية أقل عمقاً من الغريزة ، والمرأة حين تخير بين أمومتها وبين أي شيء آخر فإنها - في حالة كونها سوية - تختار الأمومة بلا تردد . الحرمان من الأمومة وأثرة على الصحة النفسية : ولما كانت الأمومة غريزة بمثل هذه القوة كان الحرمان منها شديد القسوة على المرأة العقيم فهي تشعر أنها حرمت من أهم خصائصها كامرأة ، ومهما حاولت أن تعوض هذا النقص فإنها في النهاية تشعر بفراغ هائل وتشعر أن لا شيء يمكن أن يملأ هذا الفراغ بداخلها . ولذلك تظهر أعراض الاضطرابات النفسية أو النفسجسمية بكثرة حتى تجد لها مخرجاً . والمخرج يمكن أن يكون بتبني طفل تمنحه حب الأمومة أو التسامي بغريزة الأمومة من خلال رعاية الأيتام أو العمل في دور حضانة الأطفال أو رعاية أطفال العائلة أو غيرها . وهكذا نرى الأمومة من أقوى غرائز المرأة وهي حين تتفتح تزين الدنيا بأرق وأرقى عواطف البشر وأبقاها .