ما بنته القصة المغربية في أربعة عقود، يأخذ، فجأة في عمل أنيس الرافعي وبعض مجايليه، وضعية «المحرقة» السردية التي لا ينهض هذا «الغاضب الجديد» من رمادها إلا بحفنة من سرد يدروها، بكل جرأة، فوق نهر السرد القصصي الكوني، متطلعا بذلك إلى الوقوف جنبا إلى جنب، بجوار قامة سردية مغربية اسمها أحمد بوزفور. يتجرأ القاص أنيس الرافعي على اختزال الزمن، وتكثيف وثيرة الكتابة، وإطلاق الشعارات والمبادرات، ونثر أسماء بعينها من مدونة القصة العالمية مثل: كورتزار وكالفينو وبورخيس ومياس وكاساريس وآخرين. أسماء تمثل برأيه «نظائر كونية عليا للسرد»، يتخذ منها مستندا في البحث ومرجعية في التجريب، وذلك بالاشتغال، بتحريض منها وبالموازاة معها، على تأسيس ما يتجاوز النبرة الخاصة في الأسلوب إلى المقترح الشخصي في السرد. وقد وضع أنيس الرافعي، مؤخرا، لهذا المقترح في السرد القصصي المغربي، عنوانا جامعا هو: «علبة الباندورا» (الشاطئ الثالث، الدارالبيضاء 2007)، جمع فيه مجموعاته القصصية الثلاث: «أشياء تمر دون أن تحدث فعلا» (2002)، «السيد ريباخا» (2004) و«البرشمان» (2006). وتحتفظ هذه المجموعات، في إصدارها الجديد، ببعض مصاحباتها النصية والنظرية، في صيغة إهداءات وتصديرات وآراء و«بروتوكولات»، تفصح عن بعض الاختيارات الجمالية، كما تساعد على قراءة المتن القصصي مع التوكيد على طابعه التجريبي، كما تحتفظ بعناوينها الفرعية التي تهجس هي الأخرى بهذا الطابع، الذي تحول إلى هوس شخصي للكاتب. عنوان هذه الأعمال القصصية، يحيل على الطابع الأليغوري ل«علبة باندورا»، فهذه العلبة، باستحضار خلفيتها الميثولوجية اليونانية، هي ذلك الوعاء السردي المحكم الصنع، كإحالة على المهارة وليس النسقية، المليء ب«مزايا وسيئات الإنسانية». وهذا الوعاء هو المقترح القصصي الذي يجترحه أنيس الرافعي، ويصر على فتحه، بنية من يرغب في إحداث «الكارثة» السردية المنذرة بمجيء ما بعد السرد. لعل القصة ترتكب «فجورا» أجناسيا واضحا، عندما تعلن مثل هذه الرغبة الإيكارية في تجاوز مستحيلها الشخصي، وتصبح تماما مثل إيكارالذي خرج من تجربة «التحول» إلى طائر بسقوط مدوي وقاتل في أعماق المحيط، بعد أن تمتع للحظات بنعمة التحليق في الأجواء العالية، بجسد خفيف ورشيق بشكل لا يصدق. هذه الأليغوريا المضادة، تنبثق، في الواقع، من سؤال نقدي مقلق: ألا يؤدي ما بعد السرد إلى صمت القصة واستحالة فن القص؟ وألا يمكن للقصة أن تنتقم لنفسها من نوايا المؤلف «الكارثية» بمنح مهمة مختلفة للسارد، تحافظ من خلالها على كيانها وعلى وظيفتها، بنفس الحركة، وذلك، من خلال، مطاردة محكي هش ممعن في التلاشي، لا يكاد يستقيم، بتلك الطرق المتقطعة واللاهثة أحيانا، إلا بافتراض محوه باعتباره مجرد لعبة لتزجية الوقت، والسخرية من ثقل الوجود الإنساني، ومن صرامة المخططات الفنية نفسها التي قد لا تعدل شيئا أمام «عراء» الوجود، وبياضه الممعن في الحياد واللامعنى والفراغ والصنمية والتآكل والتشييء. إن قصة أنيس الرافعي تذهب، في الواقع، عكس نية مؤلفها الذي كثيرا ما يتدخل في المتن السردي، ليس فقط باعتباره شخصية تقع خارج النص وتملك عليه بعض السلطة، وإنما أيضا باعتباره شخصية تدخل، أحيانا، في صميم النسيج الداخلي للسرد، تذهب إلى أن تصبح جزءا من لعبته التخييلية، بكيفية يتبلبل معها مفهوم الداخل والخارج الذي يصبح جزءا من بلبلة (من بابل) البنية السردية التقليدية، وتحويل برجها إلى فسيفساء من المحكيات الصغيرة، التي تمتص أحوال الأنا العميقة المقدمة بطريقة تجمع بين الإطناب والصلافة والتكرار والبلاغة والسخرية والحدة والمزاجية، وهو ما ينعكس تماما على بناء الجملة السردية التي لاتتحرر من هذه الصفات إلا بتقطع البنية السردية وتبدل أدوارها بين السارد والشخصية والمؤلف، على نحو يزرع نوعا من النزعة الشكية في جسد سردي، يقترح نفسه كشرائح مستقلة، لا تلتئم لحمتها إلا بضرب من اليقظة والتأويل. إن القاص، عند أنيس الرافعي، هو بلغة كورتزار، «عالم فلك الكلمات» (ص17). هذه الكلمات التي يًخضع بعضها لعملية التذويب، في ورشته القصصية، ليصوغ منها القوالب القصصية التي تستوعب رعبه الداخلي، الذي يفزع منه إلى جنة «ما بعد السرد» والذي هو، ليس في آخر المطاف، إلا جحيم السرد الجواني المنبثق من «علبة اللاوعي» التي تنهل منها المجموعات الثلاث، وإن كانت تنتهي أحيانا إلى تذويب تجربتها في مصهر بارودي لَعبي لا يًخفي، مع ذلك، طابعها المأساوي. وأكثر ما يهيمن على المجموعات القصصية الثلاث، الفضاءات السردية المغلقة، كغرفة النوم والمرحاض والمطبخ والحانة والمقهى والبرميل والرحم وقاعة الانتظار والطاكسي وغيرها. ولا يتم ربط هذه الفضاءات بالعالم الخارجي إلا من خلال مرايا الأحلام والكوابيس، التي تمنح هذا العالم كثيرا من اعتباطية فضاء الحلم، باستطراداته وتحولاته ومسوخاته وانقلاباته وانقطاعاته المفاجئة. إرغام وتراغم إن ما يسميه السارد ب«التراغم» ينحته من الإرغام والقسرية التي تعيشها الشخصية في فضاء يحد من حريتها ويحول الصراع إلى الداخل. يقول السارد متحدثا عن جسده: «كان يرغمني على السير بخطوات مرتبة كربطة عنق وانتباه لامع مثل عود كبريت مشتعل، حتى لا أموت حسب هواجسه وتطيره المعتادين ميتة غير جديرة بي» (ص22)، ثم يقول: «كنت أرغمه بصلافة رومانتيكية ممضة، على اقتراف العري ومصارعة الشهوة مثلما يصارع مراهق جهاز فلبير مع النساء اللواتي أحببنه على الدوام لليلة واحدة لاغير» (ص23). إن هذه الأمثلة على «التراغم»، تحيل على الطابع الصراعي للشخصية التي انسحبت، مرغمة، إلى الداخل لتمارس نزقها وهذيانها. وهو ما تستمر الشخصية السارد في الخضوع إليه في قصة «التبرمل» (مشتقة من البرميل)، حيث تدفعها استيهامات معينة إلى القول «ولأنه فرض على عضلات ومفاصل جسمي حالة مرعبة من الجمود والشلل الكاملين كما لو أنها أفرغت داخل سبيكة مقعرة من الجبص. وكنت أثناء اكتظاظي على نفسي بعضي ملتصق ببعضي بصمغ وهمي وعاجز، بشكل رهيب، على إنجاز أدنى حركة سواء إلى الأمام أم إلى الخلف» (ص26). الهذيان ذاته نصادفه في قصة «التراتل»( من الرتيلاء)، القصة التي تسرد علاقة متشنجة لأب، في قاعة انتظار بعيادة طبيب، بمولوده المرتقب الذي يسلط عليه، وهو بعد في الرحم، جام غضبه وساديته ورعبه «قطعة ثمينة مني تتدجج بفلسفة كريهة كي ترسل بنرد الغرائز الحيوانية إلى أبعد من رقعة العذوبة... قطعة ثمينة مني تتطامع وتتشابك وتتشارس وتتضارى وتتفاتك وتتناهش وتتهارش وتتقاتل وتتدامى، بلا هوادة مع الآخرين»( 35). وبعد أن خرج الطبيب ليعلن، بأسف، بأن الولادة كانت متعسرة وأن الجنين توفي أثناء العملية القيصرية، يتنفس الأب السارد الصعداء: «أووووووووف ها هو» متراتل «آخر قد غادر العالم» (ص36). وتستمر نصوص «علبة الباندورا» على هذه الوثيرة من التشنج والسوداوية والصراع الذي لا تبرحه الذات الساردة إلا لأجل الارتماء في فراغ شخصيات أخرى، تبحث بيأس في الخروج من النفق، ولكن السرد لا يرسم لها ملامح وقسمات واضحة، وإنما يجعلها تمعن في الانفلات والهرب، بحيث لايظهر منها إلا الأظافر والنظرات الشزراء أو اليد التي تحمل بلطة أو فأسا. ولا تتحقق السردية، في كل ذلك، بالاستغناء، وإنما بالتوتر والتقطع واللهاث والترسيمات، التي تجعل الشخصية مجرد تخطيط سردي يبحث في الخروج من شرنقة الولادة فيدركها اليأس أثناء عملية البناء ذاتها، فتكتفي القصة بذلك، بتقطيع العناصر السردية وجعله منتهى عملية البناء.