صدوق نور الدين تعد «أنبئوني بالرؤيا»، الصادرة عن دار الآداب -1102، للباحث والروائي عبد الفتاح كيليطو، الأثر الروائي الثالث بعد روايتين: «خصومة الصور» و«حصان نيتشه»، علما أن «كيليطو» يكتب القصة القصيرة، إلى جانب خوضه البحث والدراسة، وبالضبط في الآداب القديمة.. من تم يقتضي تشكيل تصور عن التوجه الإبداعي لكيليطو، المطبوع بخصوصيته وفرادته، الإلمام بالتجارب السابقة المكتوبِ أغلبُها باللغة الفرنسية، وكأن المخاطب الأساس القارئ الغربي (الفرنسي تحديدا)، دون أن يفهم من طرح الإشكالية اللغوية أن كيليطو لا يخوض التأليف باللغة العربية.. فقارئ «المغامرة الروائية» لكيليطو يطرح السؤال: أترى ما تتم قراءته وتلقيه والتحاور معه أصلا «رواية»؟.. يحدث هذا حال قراءة الرواية الأخيرة «أنبؤني بالرؤيا»، والتي يتحقق وعي معناها من داخلها. على أن الإجابة تُحتّم إدراك مفهوم الكتابة الروائية لدى كيليطو، المؤسس على كون الرواية بحثا.. بحثا قائما على التخييل لتصريف فكر ومعرفة.. فالرواية بما هي تخييل تُوازَى بالاستكمال المتحقق في بحوث ودراسات خاض ويخوض فيها المؤلف.. ف«أنبئوني بالرؤيا»: رواية بحث في «ألف ليلة وليلة»، وهي على السواء الكتاب المرجعي الجامع حول هذه الحكايات.. بيد أن استقراء مسار الآثار المؤلفة من لدن عبد الفتاح كيليطو يجعلنا نقف على دراسته القيّمة حول «ألف ليلة وليلة»، والموسومة ب«العين والإبرة»، وفيها يعترف بما يلي «لا يقرأ هذا الكتاب كما تقرأ سائر الكتب»... في داخله يوجد شيء ما سحري، وإذن مرعب «إن المادة المُشتغَل عليها تخييلا في» أنبئوني بالرؤيا» تحقق استجلاء دقائقها بالدرس والتحليل في «العين والإبرة».. بمعنى أن ما تم بحثه موضوعا يستثمر موصوفا، حيث تتطور آليات الفهم والإدراك والتفسير والتأويل، ليستكمل الموصوف، الموضوع.. والواقع أن كيليطو، في سياق اهتمامه بالآداب القديمة، لم يركز اهتمامه على الحكاية فقط وإنما طال بحثه المقامة والرحلة، مثلما قارب تجارب إبداعية لأعلام كالجاحظ والمعري وابن رشد.. وفي هذه الرواية يستحضر، بالمقارنة والمثال، تجاربَ عربية وغربية على السواء.. ولذلك كله فمادة «أنبئوني بالرؤيا» تجد مرجعيتها ضمن آثار المؤلف وغيره، إذا ما ألمحنا إلى نوعية وطبيعة المادة المتمثلة في «الليالي»، من حيث احتمال أكثر من قراءة، من تأويل، ولربما «تأليف».. تتشكل بنية الرواية «أنبئوني بالرؤيا» من مجموعة من الأقسام منها: إيدا في النافذة، الجنون الثاني لشهريار.. وغيرهما. وهذه الثوابت -إذا جاز- تمس الصيغة كما المعنى.. ومن حيث الجانب البلاغي، يحسن النظر إليها كروابط تسهم في إحكام البنية الروائية انطلاقا من خاصة التكرار القصدي، الهادف إلى تنويع الوحدات الحكائية، لتوسيع المعنى.. ومثلما نتمثل الربط والتوسيع، يستوقفنا التمرئي.. فالباحث المحاضر، الحائز على المنحة، يشتغل في موضوع «الليالي» قراءة وتأويلا واستجلاء للمرجعيات.. في حين أن طالبه إسماعيل كملو، ينشغل بالموضوع ذاته من زاوية أخرى، ليكمل الثاني الأول.. وبالتالي يتمرأى فيه.. بيد أن الصد والجفاء الذي تبديه «إيدا» في النص الأول تجاه ضمير المتكلم ذاته، المتجسد في النص الثالث «معادلة الصيني» والرابع «رغبة تافهة في البقاء».. إنه السلوك ذاته، وكأن «إيدا» هي بالذات «عايدة». تبقى «أنبئوني بالرؤيا» ومن خلال هذا التشكل، رواية من حيث بناؤها محكمة إحكاما دقيقا.. وأما قصديتها الأساس ومعناها المنتج، فالبحث في كتاب «ألف ليلة وليلة».. ومن منطلق كون «أنبئوني بالرؤيا» رواية /بحثا، يحق الحديث عن مستويين لغويين: المستوى السردي حيث تحكى (مثلا) قصة السفر إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية بهدف البحث، المحاضرة وتعقب نماذج من كتاب «الليالي»، فيغدو السفر من أجل « ألف ليلة وليلة» كتابة مغايرة للنص.. وأما المستوى الثاني فموضوعي.. ثم تبرز اللغة الثانية، لغة الدارس المحلل والمؤول.. ويمكن التمثيل للمستوى الأول بما يلي: «أحب القراءة في الفراش.. عادة مكتسبة منذ الطفولة، لحظة اكتشاف ألف ليلة وليلة.. كنت أرقد في غرفة جدتي، على أريكة موضوعة أسفل سريرها.. أثناء مرض من أمراضي لا بد أنه كان من الخطورة كي تتأبد ذكراه عند الأسرة كنت على الدوام غائصا في رقاد سباتي.. وفي اللحظات القليلة التي أسترد فيها وعيي، أسمع أصوات الزائرات المستخبرات عن حالي.. ما إن أدرك أني موضوع همسهن حتى أغوص ثانية في النوم»... أما المستوى الثاني فيمثل له بما يلي: «في سالف الزمان».. والأخطر أنها باللغة العربية الفصحى، وهذا ما يستثير مشكلة.. فأقدم مخطوطات «الليالي» مكتوبة بلهجة مخدومة شيئا ما تسمى «العربية الوسطى». إن المستوى الأول حدثي، بحكم ارتباطه بالحكاية.. والثاني تحليلي نقدي، ما دام يمثل بحثا. إذن في «أنبئوني بالرؤيا» يقع التلقي أمام صورتين: صورة كيليطو، الروائي الواعي بمنجزه.. وصورة كيليطو، المألوفة منذ بحثه في «أدب المقامات».. فالصورتان تتداخلان على امتداد جسد النص بالتناوب والتقاطع، ليبقى النص في جوهره نموذج كتابة مفتوحة على الروائي /البحثي وفق المعتاد في كتابات «ميلان كونديرا»، وإلى حد ما «رولان بارث».. ويمكن القول عموما إن لغة عبد الفتاح كيليطو إبداعية.. يتساءل قارئ «أنبئوني بالرؤيا» عن جدوى إعادة البحث والتفكير في نص كتب عنه الكثير.. إلا أن صفتي «السحر» و»الرعب» تغريان بإعادة التمثل والتنقيب، خاصة من لدن باحث يمتلك كفاءة واقتدارا مثل عبد الفتاح كيليطو.. إذا ما أشرنا إلى كون الصيغة التي تم اختيارها لتصريف معرفة، تقريب أفكار وقضايا، ليست في المتناول إنجازا.. فكيليطو يتقصى مواضيع لم تبحث في «الليالي» مثل: النوم، خواتيم الحكايات، التساؤل عن التأليف والإضافات التي يمكن أن تطول نصا يقع في عشرة مجلدات وسبعة ملاحق، حسب رتشارد فرنسيس بيرتون.. بيد أن التقصي حتّم ضرورة الاستشهاد، وكنموذج «حكاية نورالدين والحصان». وقد استدعى تقصي المادة استحضار نصوص عربية وغربية لابن بطوطة، ابن حزم، إدغار آلان بو، بوفاري وكونراد.. إن القضايا المثارة دعوة متجددة إلى تعميق البحث والتفكير النقديين بصدد مادة تعد أصل ونواة الحكايات جميعها..