لطالما اشتغل الباحث والناقد المغربي عبدالفتاح كيليطو على التراث السردي العربي، وحاوره من زوايا عدة، وهو في اشتغاله، ذاك، استخدم النظريات الغربية الحديثة ليقارب التراث من منظور جمالي ونقدي بحت، فكانت الحصيلة كتباً شكّلت إضافة لافتة في هذا المجال، مثل: «الأدب والغرابة»، «العين والإبرة»، «الحكاية والتأويل»، «المقامات»، «الأدب والارتياب»، «الغائب»... ويبدو أن ثمة أشياء تعذر على الباحث قولها لدى تبحره في التراث نقدياً، فآثر أن يقولها كروائي «زاده الخيال» الذي يبيح له الجهر بما سكت عنه في النقد الرصين، فجاءت روايته «أَنْبِئُوني بالرّؤيا» الصادرة بالفرنسية، والتي صدرت ترجمتها العربية الموفّقة بتوقيع عبد الكبير الشرقاوي عن دار الآداب (بيروت-2011). «أنبئوني بالرؤيا». للوهلة الأولى، يبدو العنوان شاعرياً؛ بريئاً، غير أن متن الرواية يكشف عن حيلة سردية ماكرة، ذلك أن العنوان يحيل إلى حكاية في التوراة تقول إن الملك نبوخذ نصَّر حلم أحلاماً مزعجة منعته من النوم، فأمر أن يُدعى السحرة والعرافون والمنجمون، وقال لهم: حلمتُ حلماً فانزعجت، وأريد أن أعرف ما هو؟. أجابه المنجّمون: أخبرنا بالحلم فنبين تفسيره. فرد الملك: أنبئوني بالرؤيا وسأعلم أنكم قادرون على إعطائي التفسير»، ثم هددهم، إنْ عجزوا عن ذلك، أن يقطعهم قطعاً. هذا المطلب التعجيزي يكشف عن أن الملك أراد القول: ليس جديراً بتأويل الرؤى إلا ذاك القادر على كشفها. وثمة شيء مماثل ورد في «ألف ليلة وليلة» عندما قام هارون الرشيد من فراشه منقبض الصدر، فدعا وزيره جعفر الذي اقترح عليه القراءة علاجاً. وراح يقرأ من كتاب، وسرعان ما شرع في الضحك، ثم قرأ ثانية «وطفق يبكي حتى اخضلت لحيته». ولما سأله الوزير عن «علة ضحكه وبكائه تقريباً في الوقت ذاته» غضب الخليفة غضباً عظيماً، ليأمر وزيره: قد دخلت في ما لا يعنيك، فلا بد لهذا الأمر من عواقبه. آمرك بإحضار من يقول لي لماذا ضحكت وبكيت لما قرأت هذا الكتاب، ويعرف ما فيه من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، وإذا لم تجد هذا الرجل، ضربت عنقك، وبينتُ لك، آنذاك، ما الذي أضحكني وأبكاني». اللغز يذهب إسماعيل كَمْلو، وهو إحدى شخصيات الرواية التي تنجز بحثاً عن «ألف ليلة وليلة»، يذهب بهذه الفكرة إلى أقصاها، إذ يرى بدوره: ليس جديراً بتأويل عمل أدبي إلا القادر على كتابته. إذا انطلقنا من هذه المعضلة - اللغز، سنجد أن كيليطو يطرح ألغازاً على القارئ؛ يناوره في تلك الهوامش التي تعذرت عليه لدى انهماكه في أبحاثه النقدية؛ يمتحن صبره وذكاءه وهو يمضي به إلى متاهات «ألف ليلة وليلة» ذلك العمل السردي الفذ الذي ألهم أدباء العالم، وليس آخرهم بورخيس وماركيز، فهو كتاب، وفقاً لكيليطو، «يصاحب القارئ طوال حياته، يقرأه طفلاً ثم يافعاّ وبالغاً ويؤثر فيه عميقاً وإليه يعود دائماً». والآن، حين يكتب كيليطو نصاً؛ متعدد الدلالات، مستوحياً من ليالي شهرزاد؛ القاصة البارعة، فإنه يضع القارئ أمام تحد يتمثل في فهم أبعاد نصه المتقن، والعثور على مفاتيح تعينه في الولوج إلى فضاءات هذه الرواية المركبة؛ المكتوبة، للمفارقة، بلغة رشيقة فاتنة. الرواية، في مستوى من مستوياتها، احتفاء ب «ألف ليلة وليلة»، واستحضار لدوره ومكانته السامية في الثقافات العالمية، والترجمات العديدة له، إذ وجد هذا العمل النثري الفريد، رغم ضخامته وغرابة أجوائه، طريقه إلى مختلف لغات العالم. وها هو السارد في الرواية يفتتح النص بضمير المتكلم: أحب القراءة في الفراش، عادة مكتسبة منذ الطفولة، لحظة اكتشاف «ألف ليلة وليلة». كان الراوي مريضاً، آنذاك، في طفولته البعيدة، ولفت انتباهه هذا الكتاب، فراح يتوه في عوالمه الساحرة: «والحال أنّي بمقدار ما كنت أقرأ ويمضي الوقت، تتحسن حالي. ولما بلغت الصفحة الأخيرة، شُفيت تماماً. وكأنّ للأدب فضيلة علاجية». هذه العبارة الأقرب إلى الحكمة، والتي تحيلنا، مباشرة، إلى قدرة شهرزاد على انتزاع نزعة القتل لدى شهريار بفعل «فضيلة القص المباركة»، وفقاً لماركيز، ليست الوحيدة في الرواية، بل هي تحفل بتأملات وبمقولات مماثلة تعلي من شأن الأدب والكتابة والقراءة، وتطرح أسئلة حول القضايا المتعلقة بها. ولعل هذه المسائل الشائكة تبلغ ذروتها في الفصل الرابع والأخير؛ المسمى: «رغبة تافهة في البقاء». هنا، يطرح كيليطو مسألة الانتحال في الأدب، ويحاجج في تلك العبارة الشهيرة لرولان بارت القائلة ب «موت المؤلف». يناقض الراوي - المؤلف بارت، إذ يقول: النص وحده لا يكفي، هناك أيضاً الشخصية، الصوت، الأناقة، الهيئة، الراء الباريسية (الأخيرة تنطبق على الفرانكوفونيين من أمثال الراوي). ثم يضيف: والعجب أن نقاداً وفلاسفة يتحدثون عن موت المؤلف! وتتحدث الرواية في هذا الفصل، كذلك، عمن تسميهم ب «طفيلي الثقافة«، إذ يختار كيليطو معرضاً تشكيلياً للرسام مومن باري كي يوضح تفسيراته بصدد هذا الوصف. يتحول المعرض بالنسبة إلى أولئك «الطفيليين» إلى «حدث اجتماعي ومكان للقاءات. لا يعبأون إطلاقاً بالرسم. لكنهم يؤدون تمثيلية المبالغة في إبداء اهتمامهم». وحتى الرسام ذاته يقول جاداً، خلال نقاش: «أنا لا أقرأ يا سيدي، أنا أرسم»! بين السرد والنقد هذا الجدال الثقافي والنقدي الطاغي يكاد يُخرج النص من كونه رواية، ويحوله بحثاً نقدياً، وعلى كل حال، لم يسلم النص، الذي بين أيدينا، من نقاش دار حول جنسه، وإلامَ يُنسب؟ على رغم إشارة الناشر الصريحة إلى أنها »رواية«. ومردّ هذا التشكيك في تصنيفه، وهو تشكيك، بالمناسبة، لا يقلل من قيمة النص، يعود إلى أن كيليطو لا يكترث بالوصف المادي؛ المحسوس الذي يعد أساسياً في الرواية، ولا يهتم بتلك الشخصيات الملتصقة بتفاصيل وصخب الحياة اليومية، كشخصيات نجيب محفوظ مثلاً. وهو لا يسرد ما يريد على نحو تقليدي، فلا «حبكة درامية»، ولا تصعيد في المواقف. إنه، بالأحرى، نص مفتوح يرصد أحوال الثقافة والمثقف، وبدلاً من أن نصادف لصاً أو عاشقاً أو حارساً أو مسؤولاً...، فإننا سنصغي إلى أبيات من الشعر العربي وإلى اقتباسات وشذرات من سوفوكليس وسرفانتس ونيتشه وجاك دريدا وهرمان ميلفيل وجوزيف كونراد وسواهم. وسنتعرف إلى أساليب البحث العلمي، وسنسمع هجاء للمؤسسة الأكاديمي. لكن قبل كل ذلك، بل بالرغم منه، بدت «أنبئوني بالرؤيا» سرداً ممتعاً لمذكرات مثقف صبور؛ شغوف بالقراءة إلى حدود الهوس، ينقّب في جماليات التراث، مثلما يمتح من النظريات الحديثة، ولا يلفت نظره شيء في هذه الحياة سوى «كتاب موضوع على رف»، وهو ما يذكرنا ببورخيس، الذي يرد ذكره على أي حال في الراوية، والذي قال مرة وبحسرة: كلما ذهبت إلى مكتبة، ووجدت كتاباً حول أحد الأمور التي تستهويني، أقول لنفسي: يا للأسف، أنا لا أستطيع شراء هذا الكتاب لأن لدي نسخة منه في البيت! مراوغة أسلوبية وعلاوة على هذه المراوغات السردية، ثمة مراوغة في عنونة الفصول، أيضاً. فالفصل الأول المعنون «إيدا في النافذة»، لا تظهر فيه إيدا أو (عايدة) إلا في صورة عابرة، لنعود ونلتقي بها، مطولاً، في الفصل الثالث: معادلة الصيني. هنا، نجد تركيزاً على صورة المرأة وعلاقتها مع الرجل. يدرج كيليطو في هذا الفصل فحوى حكاية الصيني الذي اشترطت عليه حبيبته ألا تمنحه حبها إن لم يقض الليل، مدة ثلاث سنوات، تحت نافذتها. كان العاشق يحضر في المساء ويجلس على مقعده، ولا يذهب إلا عند الفجر. لدى انقضاء السنة الثالثة، هذه الشخصية الطيّعة إلى هذا المقدار تناولت مقعدها وذهبت من دون نظرة إلى الوراء، نهائياً. هذه النهاية التراجيدية، غير المتوقعة، تكشف عن مقاربة الرواية للعلاقة الملتبسة بين الرجل والمرأة، وهي تكمل ما تضمره، كذلك، إيدا الغامضة، التي تتراءى للراوي كطيف، هنا وهناك. لكن ثمة ما تفصح عنه إحدى شخصيات الرواية في شأن إيدا: في المراهقة، قرأتْ إيدا «مدام بوفاري» لفلوبير، وصدمها في الأعماق أن لا أحد هب لإغاثة إيما في معاناتها، لا رجل. الحاصل، كان الرجال سبب انهيارها وانتحارها. هذه الرواية كان أثرها عميقاً في إيدا، مرضت من ذلك وبكت كثيراً. ومنذ ذاك، ترتاب بالرجال، مقتنعة أن المرأة لن تجني من معاشرتهم إلا الخيبة والمرارة». ومع كل ذلك، يبقى «ألف ليلة وليلة»، وبدرجة أقل رحلة ابن بطوطة والمقامات والجاحظ وابن حزم الأندلسي، هو المحور الأساس للرواية التي تضيء جوانب في هذا الأثر الأدبي، إذ تفترض الرواية في الفصل الثاني «الجنون الثاني لشهريار» إن الملك شهريار لم يكن ينام أبداً، وأن أرقه المزمن كان، بنصيب كبير، في منشأ جنونه القاتل. فهو كان يسمع الحكايات في الليل، وينشغل، نهاراً، بشؤون الرعية، فمتى كان ينام، إذن؟ وفي المقابل «لو أغمضت شهرزاد عينيها ليلة واحدة، لكانت مقطوعة الرأس في الغد». ويبحث الراوي عن نهايات مفترضة لألف ليلة وليلة، فنهاية هذا العمل الضخم بدا ملتبساً إلى درجة دفعت الكثيرين إلى المضي في نسج حكايات من حوله، وليس كتاب «حكاية شهرزاد الثانية بعد الألف» لإدغار آلان بو استثناء في هذا السياق.