استأنفتْ مجلة البيت، الصادرة عن بيت الشعر في المغرب، حضورها الثقافي، من خلال العدد المزدوج(1112) الجديد، الذي يتضمن بابا مُستحدثا يتعلق بالحوار. وهو باب يأتي في مقدمة المواد، بعد كلمة العدد الافتتاحية. وقد جاء هذا الباب ليغني تجربة المجلة، ويضيف إلى أبوابها الثابتة مساحةً تحتفي بصوت شعري أو نقدي مميز، طبع الساحة الثقافية، المغربية والعربية، بإسهاماته النوعية. قد افتُتحت هذه التجربة، بحوار أجراه كل من الشاعر حسن نجمي والناقد خالد بلقاسم، مع الكاتب والمحلل المغربي الكبير عبد الفتاح كيليطو، بعنوان «تمجيد اللبس». حوار تمَّ التقديم له بخطاب مركز يضع عمل كيليطو ضمن نسبه المعرفي التفكيكي، الذي يقترب من نصه الثقافي انطلاقا من ثلاثة أنواع من الإبعاد: «إبعاد المقروء عن نفسه بفصله عن رؤية تأسستْ عنه في قراءات أخرى. إبعاد القارئ عن نفسه بفصله عن أحكامه ومُسْبقاته لفَتحه على مالايراه. إبعاد القراءة عن كل ما يُمكن أن يَحُدَّ من لا نهائيتها. هذا القرب في البُعد والإبعاد هو ما لا تكف كتابات كيليطو عن ترسيخه». يرسم الحوار بورتريها ثقافيا مدهشا لعبد الفتاح كيليطو، فيتدرج من العائلة إلى الكتابة، مرورا بمختلف مراحل التعلم وخصوصياته المعرفية والاجتماعية، ليرصد لنا بذلك تجربة استثنائية، يتقاطع فيها الخصوصي والعام، على نحو أثمر شخصية في التحليل، تتميز بتوقد أسئلتها، وبقدرتها على تجديد أدوات القراءة، على نحو أفسح المجال لانبثاق صوت نقدي خاص، ينفذ فيما وراء المألوف والعادة والمكرور والنافل، لينسج خيوطا من الغرابة، أصبحت، مع عبد الفتاح كيليطو، حساسية في الأدب والكتابة، وموقفا خلاقا من نصوص الماضي وكلام الأموات. يستحضر عبد الفتاح كيليطو علاقته ب «العلم»، من خلال ثلاثة ارتسامات: الأول ارتبط ببيت الجد، حيث صناديق الكتب المغلقة، التي لم يكن أحد يفتحها: «هل كان جدي نفسه يقرأها؟ لستُ أدري». الارتسام الثاني ارتبط بالمدرسة القرآنية، حيث يتوفر «المعلم والألواح والكتابة على الخشب، لكنها خالية تماما من الكتب، بما في ذلك المصحف». وميزة هذه المرحلة تكمن في «تعليم القراءة والخط والحساب». أما الارتسام الثالث، فيرتبط بالمدرسة العصرية، الموجودة «بحي العلو» بالرباط، والتي كان النظام التعليمي بها، يلزم التلاميذ، من السنة الأولى إلى نهاية الابتدائي، بتعلم الفرنسية خمس ساعات في اليوم، والعربية ساعتين. ويُردف كيليطو بأن ما أثاره، في البداية، في هذه المدرسة، هو وجود صور على الجدران في وقت كانت المنازل تخلو منها. ومن ثمة ارتبطت لدى كيليطو اللغة الفرنسية بالصورة «خلالفا للثقافة العربية، حيث تغيب الصورة أو قلما تحضر». يذكر كيليطو، أن ما أتاحته له سنوات التعلم الأولى، بالمدرسة القرآنية ثم العصرية، هو«الانتقال من لغة البيت إلى اللغة الفصحى»، التي ظلت مرتبطة لديه ولدى غيره من الطلبة، بالقرآن والمحفوظات الشعرية. وفي هذا السياق، يفصح كيليطو عن استمرار حماسته لحفظ الشعر، على نحو يُعيد ربط هذا التقليد بزمنه الثقافي القديم: «ما الشعر الذي يصاحبنا في نهاية المطاف؟ إنه الشعر الذي نحفظه عن ظهر قلب، الأبيات التي تسكننا. لا تكفي قراءة الشعر، ينبغي استظهاره». يستحضر كيليطو أيضا، عادة النطق الغريبة، التي طبعتْ علاقته بصوت ال R الباريسي، الذي كان، وما يزال، يتلفظه راءً، بسبب معلم الفرنسية، المغربي، المُجلبَب، المحِّب لعمله، الذي درسه في السنة الأولى من الابتدائي، فطبعه، هو وأصحابه، بميسم مميز في النطق، جعل نطق الحرف الفرنسي، لا يستقيم بطريقة معيارية على لسانه. لكن هذه السمة، تنطوي، مع ذلك، على وجهها الإيجابي، لأنها تُعطي لصاحبها تميزا: «لربما طريقة تلفظه هي ما يميزني بمعنى ما، ولا ينبغي أن نستهين بالحرف الذي نستطيع نطقه، قد ينطوي على مسألة خطيرة». يستحضر كيليطو قيمة الحفظ، كما يستحضر أهمية النسخ، في ثقافة قديمة، خرج من بطونها، ليتنفس هواء حديثا. ويذكر كيليطو أنه كان تلميذا متوسطا في العربية، وناقصا في الفرنسية، ولم يكن العلاج غير عقاب النسخ، حيث كان معلم الفرنسية تحديدا يجبر تلامذته، كلما ساوره الغضب، على نسخ نص ما ثلاث مرات. وعندما كان زملاء كيليطو يغشون في فروضهم، كان هو ينسخ بصدق ونزاهة. لذلك يعيد كيليطو التذكير بما رواه في محكيه الذاتي «حصان نيتشه» : «ما أنقذني هو أمانتي أو جُبني». ثم يذكر كيليطو انتقاله إلى ثانوية مولاي يوسف، مستحضرا كيف كان لقاؤه بالمنفلوطي حاسما، حيث جعله يكتشف عالم الأدب: «الأدب شيء غريب، لغة مختلفة، ليست اللغة اليومية ولا الفصحى، الأدب شيء زائد عليهما. هذا الشيء يملكه المنفلوطي، وإن سخر منه البعض كطه حسين والمازني». ويقارن كيليطو بين المنفلوطي وعبد الرحمان بدوي، فيجد أن كتب وترجمات هذا الأخير، جيدة وبصفة عامة أمينة، لكنها «لم تُحدث أثرا في الأدب العربي. أما المنفلوطي الذي كان يجهل الفرنسية والانجليزية، فكان له تأثير كبير على الأدباء العرب. وهذه مفارقة كون الذي أثر في جيل كامل هو شخص ترجم عن الفرنسية دون أن يعرفها، بينما الذي كان يُتقن الفرنسية وغيرها لم يكن له صدى يُذكَر». ويعترف كيليطو بأنه قرأ للمنفلوطي (الفضيلة، وماجدولين، والشاعر...)، فلم يعد فيها إلى النص الفرنسي، «لأنها بلغتْ بالنص القمة، كأن النصوص كانت، في الأصل، ناقصة ثم بلغتْ المستوى العالي والرفيع في ترجمات المنفلوطي». ويؤكد كيليطو، في هذا السياق، أن لقاءه مع الأدب العربي، بل مع الأدب الأوروبي، كان عبر المنفلوطي، وليس عبر جبران خليل جبران، الذي يجدُ نصوصه «تنطوي على بكائية قد تجذب في مرحلة المراهقة، لكنها تُصبح منفرة فيما بعد». لذلك يستغرب كيليطو من إشادة بعض النقاد اليوم بتجربة جبران، في الوقت الذي طوى النسيان تجربة المنفلوطي. ويذكر كيليطو أن قراءة الأدب الفرنسي لم تكن متاحة له، في هذه المرحلة، بسبب غياب مكتبة للبعثة الفرنسية. وما كان متاحا أمامه، هو الانخراط في الخزانة الأمريكية، التي كانت تتوفر على كتب بالفرنسية، مترجمة عن الإنجليزية، الشيء الذي أتاح له تعلم الفرنسية عن طريق الترجمة، فكانت دهشته عظيمة، في تلك المرحلة من نهاية الخمسينيات، وهو يفتح عينيه على أدب أوروبي، مكنه من «اكتشاف فضاءات أخرى وأزمنة أخرى». ولا ينسى كيليطو التذكير، بسؤال كدّر عليه صفاءه الروحي، في تلك الحقبة، التي بدأتْ تراوده فيها هواجس الكتابة. سؤال تعلَّقَ تحديدا باختيار لغة التعبير: «فلكي أكون شخصا سويا، ويكون سلوكي (سليما سياسيا)، علي أن أكتب بالعربية، ولا سيما بعد شيوع كلمة الاستلاب». لم يكن كيليطو يربط هذه الكلمة بمعناها الماركسي، وإنما بدلالة الجنون: «كنتُ أتوهم أن مَن لا يكتب بلغته فهو من المجانين». من ثمة، حرصَ كيليطو على قراءة كل ما يُكتَب بالعربية من شعر وقصة ونقد، مُستفيدا مما كان يتمتع به من «قدرة هائلة على القراءة بسرعة وعلى التركيز والاستيعاب». في هذا السياق بدأ كيليطو الكتابة بالعربية والفرنسية، في الشعر والقصة والرواية، لكنه يذكر أنَّ كتابات هذه المرحلة، حَكمَ عليها بالإتلاف: «أظن أنني حسنا فعلت. الإتلاف ضروري»، لأن «ما تُتلِفه لا أحد ينتقده». كان كيليطو، يفكر في استكمال تعليمه العالي بالألمانية، لكنها لم تكن تُدرَّس بكلية الآداب بالرباط. لذلك لم يجد أمامه غير العربية والفرنسية. العربية كان يعتقد نفسه متفوقا فيها، لذلك دفعه غروره، كما يقول، إلى التسجيل بشعبة الفرنسية، وحصل فيها على الإجازة. سنوات الإجازة، كشفتْ لكليطو أنه ما يزال بحاجة إلى بذل الجهد للتعلم، خاصة وأن نجاحه بكل الأقسام كان يتحقق بنقط جد متوسطة. هنا بدأت أسطورة «كاتب الحاضر والمستقبل»، تتعثر، لأنها أصبحت بحاجة إلى دعم وإعادة نظر في التكوين الشخصي، في العربية والفرنسية معا. وفي هذا السياق، جاء اختيار استكمال الدروس لنيل «شهادة الأدب المقارن، شهادة صعبة للغاية. من موادها النحو والعروض والنقد القديم والفلسفة». ويذكر كيليطو، أن شهادة استكمال الدروس كانت حاسمة في تكوينه، ليعود بعدها، في السلك الثالث، إلى الفرنسية، حيث أنجز بحث دبلوم الدراسات العليا حول موضوع القدر في روايات فرانسوا مورياك. مغامرة كيليطو مع النقد الجديد، بدأت بسوء تفاهم. ويذكر كيليطو أن استماعه لمحاضرة رولان بارت بالرباط، التي كانت تحت عنوان: «مدخل للتحليل البنيوي للسرد»، جعلته يعتقد في عدم إمكانية التواصل مع هذا النوع من النقد. لكن الإصرار والزمن معا، حرراه من هذه العقدة، ليتمكن من استيعابه، طبعا تحت ضغط من طلبة شعبة الفرنسية، الذين كانوا متحمسين للمعرفة النقدية الجديدة. وبعدها جاءت مغامرة التعلم بفرنسا، التي أثمرت بحثه القيم، عن «المقامات»، تحت إشراف الأستاذ محمد أركون.