في التاريخ الهجين لإسرائيل، ضافر كل من جهاز الاستخبارات (الموساد) وجهاز الأمن العام (الشاباك) وجهاز الأمن الداخلي (الشين بيت) جهودها لملاحقة وتصفية -على طريقة جيمس بوند، وتبعا لمبدأ «العين بالعين»- كل من اعتبرته «إرهابيا» أو خطرا على أمن الدولة العبرية. ومن بين «الأمجاد» الإجرامية لهذه الأجهزة، التي تحولت إلى مادة لسيناريوهات سينمائية، يبقى أسر الجندي جلعاد شاليط في يونيو 2006 من طرف منظمة «حماس» وفصائل فلسطينية أخرى ضربة موجعة لخططها ولاستراتيجيتها الوقائية والحربية؛ فلمدة خمس سنوات، حاولت هذه الأجهزة، وبكل الوسائل، تحرير الجندي والحفاظ على أسطورة إنجازاتها و«مفاخرها»؛ وفي الأخير، اضطر نتانياهو إلى رفع الراية البيضاء والموافقة على ما عرف ب«اتفاق اللامفر». وعليه، تعتبر الصفقة التي أبرمتها إسرائيل مع منظمة «حماس» صفعة حقيقية لهذه الأجهزة. صحيح أن هذا التبادل يخبرنا بمكانة وقيمة الإسرائيلي واليهودي أين ما كان وكيفما كان -أسير واحد مقابل 1027 أسير، يوفر الدليل على أن إسرائيل لا تفرط في مواطنيها- لكن هذه القضية تخبرنا أيضا بجملة حقائق، أهمها أن فرنسا تبقى القاعدة الخلفية لإسرائيل وللصهيونية.. فغداة أسر جلعاد شاليط، زينت العديد من واجهات البلديات الفرنسية بصور، كما نظمت حملات تأييد لإطلاق سراحه، برعاية ومساهمة فنانين وصحافيين ووزراء في الحكومة، كانت وزيرة الخارجية سابقا، ميشال آليو ماري، تتزعم أنشطهم في هذا المجال. وقد أدت ثمن ذلك خلال زيارتها لغزة في الواحد والعشرين يونيو 2011 ، لما استقبلها المواطنون الفلسطينيون بالأحذية، مذكرين إياها بأن ثمة 5000 أسير فلسطيني يقبعون في السجون الإسرائيلية وأنهم محرومون من قراءة الكتب ومشاهدة القنوات العربية. أما الرئيس ساركوزي، فقد ساند المظاهرة التي نظمتها لجنة الدفاع عن إطلاق سراح جلعاد في مدينة القدس. يميل قلب شاليط، مثله مثل جميع الإسرائيليين من حملة الجنسية الفرنسية، إلى الدولة العبرية أكثر مما يميل إلى فرنسا. يقومون، رجالا ونساء، بالخدمة العسكرية الإجبارية في إسرائيل، فيما تبقى فرنسا مجالا ل«التبزنيس» والدعاية لإسرائيل. ولم تطرح الحكومات الفرنسية يوما على يهود فرنسا من حملة الجنسيتين، الفرنسية-الإسرائيلية، الاختيار بين أحدهما كما تفعل مع الفرنسيين من أصول مغاربية الذين يطالَبون باستمرار بالتخلي عن جنسيتهم الأصل والاندماج في هوية التبني؛ ولما يعبر المغاربيون عن رغبتهم في الحفاظ على هويتهم الأصل، يتهمون برفض الاندماج في النسيج الجمهوري بسبب عقيدتهم الإسلامية! ولا تزال مواضيع الجنسية المزدوجة والاندماج والخدمة العسكرية تستحوذ على النقاش والمزايدات السياسية في فرنسا؛ فقبل عشرة أيام، طرح حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، التابع للرئيس ساركوزي، باقتراح من السكرتير العام للحزب جان فرانسوا كوبيه، فكرة «الوفاء للسلاح»، يقسم بموجبها كل فرنسي، رجلا كان أو امرأة، بلغ سن الرشد أو كل من حصل على الجنسية الفرنسية، بالدفاع عن العلم الفرنسي في حالة نشوب حرب ما. إن صودق على هذا المقترح، فإن الجناح اليميني الشعبي داخل حزب ساركوزي، والمقرب من الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبن، يكون قد حقق اختراقا نحو التقرب من الأطروحات العنصرية القائلة بأن يتخلى الأجانب نهائيا عن رائحة أصولهم ليصبحوا فرنسيين مائة في المائة، وإلا تخلوا عن الجنسية الفرنسية! هنا المفارقة الصارخة: من جهة يسمح للفرنسيين-الإسرائيليين بالتطوع في صفوف الجيش الإسرائيلي أو في الجيش الأمريكي لقتال «الإرهابيين»، وفي الطرف المقابل يطلب من المغاربيين ومن الأجانب عموما الولاء للعلم وللسلاح الفرنسيين، مع العلم بأن هذا الولاء لا يكفي لأنْ يجعل من هؤلاء فرنسيين مائة في المائة. والخلاصة أن شاليط وأشباهه من صهاينة فرنسا يحسبون على «الإيريتزيين» المتشددين، الذين ينظرون إلى الفلسطينيين لا كشعب بل كقوم دخيل على «إيريتز إسرائيل»، «إسرائيل الكبرى». وتبقى فرنسا إحدى المنصات المتينة للدعاية لهذه الإيديولوجيا. لا أعتقد أن فرنسا كانت ستحرك ساكنا لو كان فرنسي في اسم محمد أو أحمد قد وقع في كماشة مختطفين أو مرتزقة في الخارج. وهذه حالة صلاح الحموري، الطالب الفرنسي الفلسطيني (26 عاما) المسجون في إسرائيل منذ 2005 بتهمة التخطيط لاغتيال حاخام، والذي طلب الرئيس محمود عباس من ساركوزي، أثناء زيارته لباريس يوم الجمعة الماضي، التدخل لإطلاق سراحه.. سترينا الأيام هل سيناضل ساركوزي لصالح صلاح مثل نضاله من أجل جلعاد.