منذ اندلاع الثورة الفلسطينية كانت إسرائيل بعد فشلها أو تعثرها في تصفيتها تلجأ الى أطراف عربية لتوجه إليها ضربات موجعة كادت أحيانا أن تصبح مميتة لهذه الانتفاضة المسلحة، وهكذا جرت مأساة شتنبر الأسود في الأردن. وتكررت نفس المؤامرة بمنفذين جدد في لبنان بعدما أصبح هذا البلد معقلا خلفيا للثورة. ولما تم ترحيل الجزء الأكبر من القوات الفلسطينية من لبنان ونقل القيادة الفلسطينية إلى تونس على بعد آلاف الكيلومترات من وطنها المسلوب، تصورت إسرائيل وحماتها أن الأمور استقرت لهم في بلاد شجر الأرز، ولكن الأمر لم يكن كذلك وألحق حزب الله اللبناني هزيمة نكراء بالجيش الإسرائيلي وأجبره لأول مرة منذ اغتصاب فلسطين على الانسحاب منهزما ومذلولا تحت جنح الظلام، دون أن يحصل على أي مقابل سياسي. ومنذ ذلك الحين يحذر المخططون الصهاينة وأنصارهم، خاصة على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، من أن يسعى الفلسطينيون، وخاصة فصائلهم المسلحة التي تتلاقى تكتيكيا، ومن وجهة النظر السياسية مع حزب الله، إلى تكرار نفس تجربة جنوب لبنان في غزة والضفة الغربية. والمقصود الأساسي هنا كان حركة المقاومة الإسلامية حماس. اغتيال الشيخ أحمد ياسين حاولت إسرائيل تدمير حماس بمختلف الطرق، بما في ذلك التحريض والتآمر لإشعال حرب فلسطينية داخلية، ولما فشلت كثفت عمليات اغتيال قادة الحركة على أمل حدوث تحول في الاختيارات الاستراتيجية للحركة ومجيء قادة جدد يكونون مستعدين للحلول الوسط. وصعد الصهاينة جرائمهم حتى وصل بهم الأمر إلى اغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس الحركة، فجر يوم الاثنين 22 مارس وهو يغادر المسجد في غزة بعد صلاة الفجر على كرسيه المتحرك. الحليف الأمريكي أسرع بعد ساعات من قتل الشيخ المقعد ليؤيد الجريمة. ويوم الثلاثاء 23 مارس 2004 صرح جورج بوش في البيت الأبيض، في رد على سؤال للصحافيين حول هذا الاغتيال أن «إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب، ولكن وأثناء قيامها بذلك، آمل أن تضع النتائج في اعتبارها». منذ ذلك الحين أصبح من الواضح أن واشنطن وتل أبيب في نفس مركبة التآمر والقتل والتصفية ضد حماس، وأنهما تتصوران أن في الأمكان إتقان عملية تصفية لحماس بأقل الخسائر لهما. ويومها كذلك ذكرت الإذاعة العسكرية الإسرائيلية أن رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بت) اعترض على قرار قتل الشيخ أحمد ياسين بمفرده وطالب بتصفية جميع أعضاء قيادة حماس دفعة واحدة. وقالت إن إفي ديشتر اعتبر خلال اجتماع الحكومة الأمنية المصغرة التي وافقت على اغتيال الشيخ ياسين أن تصفيته «ستكون مضرة أكثر مما هي مفيدة لإسرائيل». وأضاف: يجب أن نستغل الفرصة لتصفية جميع أعضاء قيادة حماس لتوجيه ضربة قاضية للحركة. بعد 24 ساعة من استشهاد الشيخ أحمد ياسين، ألمح رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي موشيه يعالون يوم الثلاثاء 23 مارس 2004 إلى أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله ربما يكونان الهدف التالي للجيش الإسرائيلي بعد الشيخ أحمد ياسين. وردا على سؤال في مؤتمر أمني في تل أبيب حول ما إذا كان نصر الله وعرفات الهدف التالي على قائمة الجيش الإسرائيلي، أجاب يعالون «أعتقد أن ردود فعلهما أمس (يعني يوم اغتيال الشيخ) تظهر أنهما يفهمان أن الخطر يقترب منهما». وقال يعالون في كلمة إن مقتل الشيخ ياسين في غزة الاثنين كان بمثابة الصفعة القوية لحركة حماس. بعد ذلك توالت عمليات اغتيال القادة المتعاقبين على رأس الحركة، ولكن رغم ذلك لم تهتز حماس وحتى رئيس (الشين بت) كتب في تقرير قدمه للحكومة الأمنية المصغرة بعد عدد من الاغتيالات الإسرائيلية: «أن النجاح في توجيه ضربة قاسمة لحركة المقاومة الإسلامية حماس لن يتم بتصفية القيادات العليا المعروفة لنا، لأن الحركة تنجح بعد كل ضربة تتلقاها على أيدي القوات والوحدات الإسرائيلية في تعويض خسائرها في سلسلة القيادة بسهولة وبسرعة وبدون صراعات داخلية كفيلة بإضعاف الحركة أو الإتيان بقادة يكونون على استعداد لقبول التعايش مع إسرائيل والتخلي عن أملهم في إجبار الحكومة على تقديم تنازلات لوقف الإرهاب ضد الإسرائيليين. أن الحل الأمثل هو تصفية الحركة من الداخل، والأفضل أن يكون ذلك على يد السلطة الفلسطينية. وأضاف، في التقرير الذي نشرت بعض الصحف الإسرائيلية مقتطفات منه بعد أسابيع من تمكن إسرائيل من تصفية الرئيس أبو عمار. يجب ألا نسقط مرة أخرى في فخ المناورات التي كان يمارسها عرفات معنا ليوهمنا أنه سيضرب ويصفى حماس وكل المنظمات التي لا تريد التسوية معنا.» الإحباط في بداية يونيو 2005 عكس رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية، موشيه (بوغي) يعلون في حديث مع آريه شفيت العامل في صحيفة (هآرتس) حالة الإحباط التي يشعر بها غالبية القادة الصهاينة أمام الصمود الفلسطيني وخاصة التهديد الذي تشكله حماس وقد ضخم بعض مستشاري يعلون من الأمر وأكدوا أنه حتى بعد التخلص من عرفات تبقى السلطة الفلسطينية على تكتيك المناورة وتبادل الأدوار مع التنظيمات الفلسطينية الأخرى الأكثر عداء . قال موشيه يعلون: «الفلسطينيون يشعرون بالتفوق رغم ضعفهم.. تهديدهم وجودي.. ودولة فلسطينية ستتآمر على إسرائيل استمرار الفلسطينيين بالحديث عن حق العودة فعليا يعني فشل إسرائيل في بناء سور في المجال السياسي». «الجدارلا يحل مشكلة العنف. الجدار وسيلة مهمة في القدرة على منع التسلل لكنه ليس الوسيلة التي لا معدى عنها. الوسيلة التي لا معدى عنها هي القدرة على الوصول الي المخرب في فراشه. لا أن ننتظره عند باب الحافلة أو المجمع التجاري بل أن نباغته في فراشه. وبعد أن عدد يعلون ما يعتبره إنجازا إسرائيليا خلال أربع سنوات ضد المقاومة الفلسطينية وما تصور أنه اقتناع من قبلهم بأن العنف غير ذي مردود. أضاف: «كان هذا الإنجاز الإسرائيلي الأكبر في تلك الحرب». هنا سأله الصحفي آريه شفيت: لكنك تقول إن النجاح جزئي. ما الذي لم ينجح؟ فكان الرد: إذا كان الفلسطينيون بعد كل ذلك يتحدثون عن حق العودة حديثا فعليا لا إعلانيا فقط، فإن معنى الأمر أننا لم ننجح في بناء سور في المجال السياسي. في الجانب الفلسطيني ما يزال هناك نظر وتفكير في نظرية المراحل. التطور ذو الأهمية الكبرى في هذه المسألة هو اتفاق القاهرة بين أبو مازن وحماس. من تصريحات أبو مازن في هذا الاتفاق تعلم أن أبو مازن لم ينزل عن حق العودة. وليس الحديث عن حق العودة بالمفهوم الرمزي، بل عن حق العودة كطلب للتحقيق. العودة إلى البيوت وإلى القرى. معنى هذا الأمر أنه لن تكون هنا دولة يهودية، أي، بالرغم من كل شيء، وبالرغم من أربع سنين من القتال، فإن أبو مازن أيضا ليس مستعدا لقبول دولة يهودية هاهنا، بعد أربع سنوات ونصف من قتال العنف الفلسطيني، أيضا لم ننجح في إقناع حتى فتح في الاعتراف بدولة يهودية تقوم هنا إلى الأبد. لم ننجح في إقناعهم بالتخلي عن أحلامهم في قضية العودة. ويضيف الجنرال: كل ما نجحنا فيه هو إقناعهم بأن العنف في هذا الوقت غير ذي نفع. في جوانب أخرى أيضا لم تتحررالسلطة الفلسطينية من أمراض فترة عرفات. عندما تمكنت حماس من المشاركة في الانتخابات بغير التخلي عن سلاحها، أفتكون تلك ديمقراطية؟ تلك عصابات، عصابات مسلحة تلعب في ألعاب تشبه ألعاب الديمقراطية. ما زال من السهل على الفلسطينيين أن يقيموا واقعا عصابيا لا سياسيا. سأقول ما لم تقله: في السنوات الأربع تلك كان هاهنا إنجاز عسكري إسرائيلي ظاهري. هذا ما يقولونه في الجيوش الأجنبية. ولكن كان فشل في ترجمة الإنجاز العسكري هذا إلى إنجاز سياسي تاريخي؟ ستقول الأيام أكرر ما قلت: يوجد هاهنا عدم تماثل عكسي. دولة إسرائيل مستعدة لمنح الفلسطينيين دولة فلسطينية مستقلة، أما الفلسطينيون فغير مستعدين لمنحنا دولة يهودية مستقلة، لهذا لا يوجد هنا وضع مستقر، لهذا فكل اتفاق سنجريه هو نقطة انطلاق للجولة القادمة، للنزاع القادم، للحرب القادمة. الانسحاب من غزة بعد أن اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب من قطاع غزة وتصفية مستوطناتها هناك، تطلعت إلى وقوع قتال داخلي بين الفلسطينيين في نطاق الصراع على ما سمته تل أبيب غنائم الانسحاب، ولكن لم يحدث شيء من ذلك. في نفس الوقت تقريبا دفعت إسرائيل بعملائها لإثارة صدامات بين حماس والسلطة، في حين كثفت واشنطن من ضغوطها على أبو مازن لينفذ ما ذكرت أنه تعهد به من جمع السلاح من كل الفصائل وتصفية من تصفهم واشنطن بالتنظيمات الإرهابية وتطبيع الوضع في غزة لتكون مثالا لما سيتحقق مستقبلا من التعايش بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. ووعدت الخارجية الأمريكية أن تنفيذ هذه الإجراءات سيسرع من عملية تطبيق خريطة الطريق. الأمر بكل بساطة هو أن الإدارة الأمريكية كانت تلعب مرة أخرى بتكتيك دفع السلطة الفلسطينية إلى منزلق تقديم التنازلات التي تتضخم مع كل خطوة والمعلقة بوهم البعض الحصول على مقابل. بموزاة مع ذلك قادت إسرائيل حملة محلية وعالمية للإساءة إلى سمعة حماس. وهكذا، وفي إطار مساعيها لنزع الشرعية عن حركة المقاومة الإسلامية وإقناع الرأي العام العالمي بأن حماس هي منظمة إرهابية أفرادها متعطشون للدماء، باشرت الدويلة العبرية في النصف الثاني من عام 2005 حملة واسعة لإقناع العالم بالتشابه بين حماس وتنظيم القاعدة. وقالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية إن إسرائيل تنشر على نطاق واسع شريط فيديو كانت وزعته كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس تظهر فيه المستوطن الإسرائيلي ساسون نوِريئل، الذي خطفته مجموعة تابعة لحماس وقتلته يوم الاثنين 26 شتنبر الماضي. وتركز إسرائيل، كما قال مسؤول كبير في خارجيتها للصحيفة، في حملتها على الصورة التي ظهر فيها نوِريئل معصوب العينين ومقيد اليدين وعلى قميصه نقاط دماء، ومقارنتها بأشرطة شبيهة كان تنظيم القاعدة بثها لمخطوفين أجانب في العراق. وقد حاولت تل أبيب طمس الحقيقة عن أن نوِريئل، هو أحد عناصر جهاز الأمن العام (الشاباك الإسرائيلي) وأنه سقط بينما كان يقود عملية تصفية ضد مقاومين فلسطينيين. لجنة خماسية وقد كشفت حركة حماس في نهاية شهر شتنبر ,2005 ولأول مرة أن هناك لجنة خماسية تم تشكيلها من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية، قبل نحو شهرين من ذلك التاريخ ، تهدف إلى تشويه صورة الحركة قبل موعد الانتخابات التشريعية، للتأثير على شعبيتها ونسبة التأييد لها في الشارع الفلسطيني. وقال الدكتور محمد غزال، عضو القيادة السياسية لحركة حماس، إن الولاياتالمتحدة استخدمت بعض الجهات الصحافية، لخدمة هذا المخطط الأمريكي الدولي، الهادف إلى تحجيم الشعبية الكبيرة التى تتمتع بها حركة حماس في الشارع الفلسطيني. ولم يكشف غزال المزيد من المعلومات حول هذه اللجنة الخماسية، والدول والجهات المشاركة فيها، بالإضافة إلى الولاياتالمتحدة وإسرائيل. واتهم غزال، في تصريحات صحافية نشرتها شبكة فلسطين الإخبارية، بعض وسائل الإعلام بأنها تعمدت تشويه وتحريف تصريحات مسؤولي حركة حماس بشكل خطير. وكانت وسائل إعلام غربية قد نقلت عن غزال قبل ذلك بيومين، أن حماس قد تلجأ إلى تعديل ميثاقها، والبند المتعلق بتدمير الدولة العبرية، وقد تتفاوض يوماً ما مع إسرائيل، غير أن غزال، وقادة آخرين نفوا بشكل قاطع صحة هذه التصريحات. ولفت غزال إلى أن هناك سياسة واضحة أعدها الكنيست الإسرائيلي، والكونغرس الأمريكي، لمنع حماس من المشاركة في الانتخابات والتأثير عليها إعلاميا، وقال إننا نعلم تماما في حركة حماس من هم الذين حرفوا تصريحات المسؤولين في الحركة وتصريحاتي، وسنتابع كل ذلك في القريب العاجل. وأوضح أن الولاياتالمتحدة وإسرائيل ضغطت دوليا لتأجيل الانتخابات التشريعية، التي كان مقرر لها في السابع من يوليوز ,2005 حتى يتسنى تنفيذ مخططاتهم ضد الحركة. وذكر غزال أنه لا يتهم جميع وسائل الإعلام، غير أن هناك من يعمل بالفعل على تشويه صورة الحركة، وتحريف تصريحات قادتها، للتأثير سلباً على مكانتها في الشارع. وأضاف أن وزير الخارجية الإسرائيلي، سلفان شالوم كان صرح في فترات سابقة بأنه في حال فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية، فإن التقدم الذي أنجزناه في الصراع العربي الإسرائيلي سيرجع للوراء عشر سنوات أو أكثر، وبالتالي فإنهم يستهدفون حركة حماس والتأثير عليها. بعد أن تمكن بعض المتآمرين داخليا وخارجيا من إشعال مواجهة في غزة بين قوات السلطة وعناصر من المقاومة طبلت الأجهزة الإسرائيلية ومعها حلفاؤها، وقالوا إن الحرب الفلسطينية على الأبواب، والفرصة متاحة لأبو مازن ليتخلص من حماس وكل من يهدد سلطته. كان الخطاب تكرارا مملا لما تروجه أمريكا في العراق عن قرب وقوع حرب أهلية تتمنى واشنطن أن تعطيها مجالا للتنفس من جحيم ما سمى عسكريا بالمستنقع العراقي. مع بداية شهر أكتوبر فعلت إسرائيل كل ما أتيح لها من وسائل لجر حماس نحو مواجهة غير محسوبة العواقب معها، فشنت عمليات اعتقال وتصفيات ضد الفلسطينيين، وفرضت الحصار على المسجد الأقصى في القدس، والحرم الإبراهيمي في الخليل، ورفضت إسرائيل تنفيذ انسحابات أحادية الجانب في الضفة الغربية كما فعلت في قطاع غزة بحجة أن مصالحها الأمنية تتعارض مع الانسحابات الأحادية. في هذه الأثناء ولإفشال المخطط الصهيوني، وبفارق ساعات قليلة، كانت حركة حماس تعلن إنهاء المظاهر المسلحة في قطاع غزة، وتجسيد سيادة القانون بعد الاشتباكات التي جرت وأسفرت عن مقتل ثلاثة فلسطينيين وإصابة 50 آخرين. وقالت الحركة إن فرض سيادة القانون وإنهاء المظاهر المسلحة في الشارع الفلسطيني «هو مسؤولية جماعية من كل الفلسطينيين وأن حماس مع القانون وليست ضد أو فوق القانون العادل». وأضاف البيان أن حماس تؤكد «ضرورة ترتيب البيت الفلسطيني وتنظيم العلاقات الداخلية على أساس من الاحترام والتقدير وحماية الجبهة الداخلية والسلم الاجتماعي وحفظ الدم الفلسطيني وبندقية المقاومة ووحدة الصف والنفوس». وهكذا مرة أخرى تتعثر مؤامرة إسرائيلية أمريكية جديدة لضرب الفلسطينيين بعضم بالبعض أو استغلال عملاء محليين لتنفيذ المخطط. ولكن هذا لا يعني أن المخطط الإجرامي قد انتهى، وأن العدو خسر معركة، ولكنه سيحاول أن يكسب القادمة.