ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. كان الملك الحسن الثاني يوم ثاني مارس 1983 بصدد تسجيل خطاب العرش في القصر الملكي بفاس (إذاعيا وتلفزيا)، وفي منتصف الخطاب انتقل للحديث عن القادة العرب والأجانب الذين زاروا المغرب خلال العام المنصرم (1982). وكان من بينهم العاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز. وكانت مناسبة للعاهل المغربي للإشادة «بالعلاقات الأخوية والروابط المحكمة المتينة القائمة بين المغرب والمملكة العربية السعودية». كانت جلسة تسجيل الخطاب الملكي بحضور بعض الوزراء ومن بينهم وزير الإعلام والمسؤولين عن الإذاعة والتلفزة المشرفين عادة في مثل هذه المناسبة على عملية التسجيل. كان الملك يلقي خطابه بصورة عادية والصمت مخيما على القاعة. وعلى حين بغتة، سمعناه يقول في خطابه: «لقد استقبلت بلادنا خلال العام المنصرم صديقنا الكبير وشقيقنا العزيز صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز عاهل المملكة المغربية...». التقطت آذاننا هذه الجملة، وإذا بأنظارنا نحن ممثلو الإذاعة والتلفزة تتجه دفعة واحدة نحو وزير الإعلام، الذي التقط هو أيضا تسمية الملك فهد بملك المملكة المغربية. لقد شعرنا جميعا بأن الأمر لا يعدو أن يكون فلتة لسان، ولكنها فلتة ستكلفنا الكثير لإصلاحها (وخاصة تلفزيونيا) إذا استمر الملك في قراءة خطابه ولم يتوقف لإعادة الجملة مصححة. ولهذا بدأ التخاطب بيننا وبين الوزير الواقف في الجانب الآخر بالإشارات لتشجيعه على التدخل بسرعة لإشعار الملك بما وقع، مع أننا كنا في قرارة أنفسنا نعتقد أن الوزير لن يجرؤ على الإقدام على هذه الخطوة، إذ كان تقريبا من المستحيلات أن يقدم أحد الوزراء أو أحد المستشارين على توقيف الملك وهو بصدد تلاوة خطابه. ولكن وزير الإعلام الدكتور عبد الواحد بلقزيز كانت له من الشجاعة ما يكفي، حيث تقدم نحو الملك الذي اضطر للتوقف عن متابعة خطابه ليستمع إلى ما يقوله وزيره. أطرق الملك رأسه وساد الصمت قليلا، ثم رفع رأسه وقال مخاطبا الوزير: أييه ! الملك فهد ملك المملكة المغربية، وليس هناك خطأ وعليكم الاحتفاظ بالجملة كما هي» وأمر باستئناف التسجيل، وفي يوم عيد العرش أذيع الخطاب كما سجل، وسمع المغاربة ملكهم يقول بأن الملك فهد ملك المملكة المغربية، وتيقن الجميع أن قرار الحسن الثاني الاحتفاظ بتلك الجملة كما نطق بها علامة على مدى عمق الروابط الأخوية التي جمعته بالعاهل السعودي الراحل وببلاده الشقيقة على مدى عقود من الزمن. ولكن القصة لم تنته عند هذا الحد، وفي مدينة فاس فقط. مرت بضعة أشهر، وتوقف ولي العهد الأمير سيدي محمد في مدينة جدة قادما من أديس أبابا في طريق عودته للمغرب، بعد قيامه بمهمة على رأس وفد هام لدى رئيس إثيوبيا رئيس منظمة الوحدة الإفريقية إذ ذاك، وخلال هذا التوقف، استقبل ولي العهد من طرف الملك فهد، الذي أقام مأدبة غذاء على شرفه في رحاب القصر الملكي الجديد، الذي كان في طور التشييد بشارع الكورنيش في مدينة جدة. وحضر المأدبة أعضاء الوفد المغربي المرافق لسمو الأمير وعدد من الشخصيات السعودية، ومن بينها مجموعة من رجال الأعمال كانوا على وشك التوجه إلى المغرب لحضور المؤتمر الثاني لرجال الأعمال والمستثمرين العرب المنعقد في أكتوبر 1983. وكانت مأدبة الغذاء مناسبة للعاهل السعودي لإبداء حفاوة كبيرة بابن الحسن الثاني والإشادة بالعلاقات المغربية السعودية، وتوجه بالخطاب مباشرة إلى رجال الأعمال السعوديين وطلب منهم تقديم كل ما أمكن لهم من الدعم للمغرب، لما لهذا البلد من مكانة في نفسه ولما يكنه من تقدير واحترام «لأخي الملك الحسن الثاني الذي أعتبره ملكا للمملكة العربية السعودية»، كانت المفاجأة الأولى في مدينة فاس وجاءت المفاجأة الثانية في مدينة جدة. وبما أنني كنت ووزير الإعلام الدكتور عبد الواحد بلقزيز الوحيدين من بين من حضروا مأدبة الغذاء في جدة، ممن كانوا حاضرين أيضا أثناء تسجيل خطاب العرش في فاس، فقد تبادلنا النظرات والابتسامات من بعيد وكأن كل واحد منا يقول للآخر: إنه الجواب. ولتكتمل الصورة، أريد القول بأن شخصية سعودية بارزة كانت حاضرة في القصر الملكي بفاس ساعة تسجيل خطاب العرش، إنه المرحوم الشيخ علي بن مسلم، مستشار الملك فهد ومبعوثه في عدة مناسبات لدى ملك المغرب، ومما لا شك فيه أن الشيخ علي بن مسلم التقط كلام الحسن الثاني وأبلغه إلى العاهل السعودي. وكان الحسن الثاني يصف دائما العلاقات بين المغرب والمملكة العربية السعودية بأنها علاقات تقليدية وأصيلة وتاريخية، فقد قال مرة: حينما تكون العلاقات الدينية والتقليدية مبنية أو مرتبطة بعلاقات شخصية، فهي ليست وليدة اليوم، ونعرف جلالة الملك فهد منذ أن كان وزيرا ومثل آنذاك الملك سعود بن عبد العزيز رحمة الله عليه في مؤتمر الدارالبيضاء لوزراء الجامعة العربية (سبتمبر 1959)، وكان آنذاك أول لقاء له مع والدي رحمه الله وكان أول لقاء لي به، ومنذ ذلك اليوم والرجلان هو وأنا لا يتعاملان إلا على أساس الرجال، بمعنى الكلمة والشهامة والوفاء والإخلاص ورعاية الأمان، وأكد الحسن الثاني في الختام: «من هذه المجموعة من الأخلاق انبثقت صداقة لا يمكن أن نكيفها ولا أن نزنها لا حجما ولا طولا ولا عرضا». بعد كل هذه المشاعر الأخوية، سيأتي يوم، بعد أزيد من عقد من الزمن، يؤكد فيه الحسن الثاني على صفة الأخوة الرابطة بينه وبين العاهل السعودي الراحل، حين قرر أن يشرك مع اسمه اسم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز في التسمية التي أطلقها على الجامعة الجديدة التي شيدت في مدينة إيفران، وهي جامعة «الأخوين» التي افتتحها الملك الحسن الثاني يوم 16 يناير 1995 بحضور الملك عبد الله بن عبد العزيز (وهو إذ ذاك ولي عهد المملكة العربية السعودية). شيدت جامعة الأخوين على مساحة تقدر بحوالي خمسين هكتارا، بمساهمة مالية هامة من المملكة العربية السعودية، كان الملك فهد قد وجهها للمغرب لمساعدته على مجابهة أخطار كانت تتهدد شواطئ المغرب من جراء كارثة ناقلة نفط إيرانية وقعت في عرض هذه الشواطئ. ولكن الأقدار الإلهية جنبت المغرب مخلفات الكارثة النفطية، وهذا ما أدى بالحسن الثاني إلى ضم المساعدة المالية السعودية لإقامة هذا الصرح العلمي (جامعة الأخوين) باتفاق تام مع الملك فهد رحمة الله عليهما جميعا. ومن ناحية أخرى، أشير إلى أن فترة وجود الدكتور عبد الواحد بلقزيز على رأس وزارة الإعلام حفلت بأحداث وطنية هامة وتحركات ملكية تاريخية داخل الوطن وخارجه واكبت الإذاعة والتلفزة المغربية مراحلها بفعالية. فقد عرفت قضية الصحراء في بداية مشوار الدكتور بلقزيز على رأس وزارة الإعلام تطورات خطيرة، بالنظر إلى الأعمال العدوانية التي استهدفت التراب الوطني من طرف عصابات المرتزقة، مما أدى بالمصالح الوزارية والتلفزية إلى مضاعفة التعبئة واليقظة لمجابهة الإعلام العدائي في سعيه المضلل. ويشهد على ذلك مؤلف هذا الكتاب مع بعض المسؤولين عن قطاعات الإعلام العمومي (الإذاعة والتلفزة ووكالة المغرب العربي للأنباء وجريدة الأنباء)، وقد اندمجوا لحمة واحدة مع وزيرهم يقضون الليالي إلى جانبه يتابعون تطورات الحالة في الجنوب لنقل حقيقة الأوضاع للرأي العام الوطني والخارجي، ثم ينتقلون نهارا إلى واجهة إعلامية أخرى معالمها الأساسية إحباط حملات الأثير التضليلية المنطلقة من عواصم الجيران الأقربين والأبعدين نحو بلادنا... ولا ننسى أننا في أوائل الثمانينات... كان الإعلام السمعي البصري في عهد الوزير بلقزيز مطبوعا بروح الجدية والمسؤولية والفعالية، التي كان يسعى دائما إلى تثبيتها في نفوس العاملين إلى جانبه، والأحداث الوطنية والدولية كثيرة في عهد الدكتور بلقزيز: تأسيس إذاعة البحر الأبيض « Medi 1 »، مؤتمر القمة الإفريقي في نيروبي ومؤتمر القمة الإسلامي الثالث بالطائف وتأسيس الاتحاد العربي الإفريقي، والثورة الخمينية ومؤتمر القمة العربية الثانية عشرة بفاس وما تبعه من تأسيس اللجنة السباعية العربية برئاسة الملك الحسن الثاني وزيارتها للولايات المتحدة واجتماعات لجنة القدس، وغير ذلك من الأحداث التي حظيت كلها بتغطية إعلامية ممتازة. ويلاحظ أنه لأول مرة في تاريخ الإعلام، ومنذ تأسيسها، حظيت الوزارة في عهد الدكتور عبد الواحد بلقزيز بتنويه خاص من طرف الملك الحسن الثاني رحمه الله، للمجهودات التي بذلها العاملون في قطاع الإعلام لإنجاح مؤتمر القمة العربي الثاني عشر المنعقد بمدينة فاس عام 1982. فقد جرت العادة أن يوجه مثل هذا التنويه في رسائل ملكية إلى وزراء الخارجية والداخلية والقوات المسلحة الملكية (بما فيها الدرك الملكي والأمن الوطني والقوات المساعدة)، ولأول مرة أصبحت وزارة الإعلام مشمولة بتنويه ملك البلاد. فقد وجه الحسن الثاني رسالة تنويه إلى الدكتور بلقزيز (وزيرنا في الإعلام والشبيبة والرياضة) تحمل تاريخ 10 شتنبر 1982. يقول الملك الراحل في هذه الرسالة: لقد لاحظنا بإعجاب كبير وفرح متزايد خلال الأيام التي اجتمع فيها مؤتمر القمة العربي الثاني عشر، قيام مصالح وزارة الإعلام بواجبها على الوجه الأكمل من تغطية لأعمال المؤتمر وتتبع لأنشطة المشاركين فيه، وعناية بالصحافيين الوطنيين والأجانب وتيسير وسائل الاتصال لهم، ووضع أماكن إذاعتنا وتلفزتنا وأجهزتها بين أيديهم، الشيء الذي مكن سكان مملكتنا وسكان العالم أجمع من تتبع أعمال المؤتمر سمعيا وبصريا في حينها، والتعرف على المقررات في وقتها. ويضيف الملك الحسن الثاني في رسالته: «إننا لنوجه بهذه المناسبة إليك وإلى سائر أبنائنا العاملين تحت نظرك بوزارة الإعلام، تهانئنا على الجهود التي بذلتموها والعناية التي أظهرتموها والاهتمام الذي واجهتم به المتطلبات والحزم والصبر اللذين حللتم بهما المشكلات، كما نشكركم جزيل الشكر وأوفاه وندعو لكم بمزيد من التوفيق في أعمالكم والخير والسعادة في حياتكم».