الصحافة هي ملحمة العالم الحر، فحيث توجد ديمقراطية عظيمة، توجد، بالضرورة، صحافة عظيمة، وحيث توجد صحافة عظيمة، توجد، أيضا، تقاليد راسخة في ثقافة القراءة، فالقراء الجيدون يصنعون الصحيفة الجيدة، كما تقول القاعدة الذهبية في مجال الصحافة... من هنا نفهم معنى أن تحتكر صحافة الدول الديمقراطية كل الأرقام القياسية، فنجد صحيفة مثل «نيويورك تايمز»، الأمريكية، عمرها قرن ونصف، و«ديلي ميرور»، البريطانية، توزع مليون نسخة في اليوم... فالعالم الحر سمح للصحافة ولوسائل الإعلام، عموما، بالانتقال من كونها إحدى وسائل إخبار الرأي العام إلى الوسيلة الرئيسية لصناعة الرأي العام، ليتم تتويجها «صاحبة للجلالة» على كل أنواع السلط أو «سلطة السلط»... ظهرت فكرة «القدس العربي»، المشروع الفلسطيني، أيام كانت منظمة التحرير والانتفاضة في عزهما، وخلال إعلان الدولة الفلسطينية عام 1988، حيث قرر أصحاب جريدة القدس المحلي إصدار طبعة دولية واختيار عبد الباري عطوان ليكون رئيس تحرير لها. من هنا رأى أن على هذه الجريدة أن تكون قفزة إعلامية حقيقية. كما قرر عطوان منذ اليوم الأول أن تكون الجريدة مختلفة، ليست جريدة نظام، بل جريدة العرب. وبعد سنة دخل صدام حسين الكويت، فأخذ موقفا معاكسا للغالبية الساحقة، أي ضد أمريكا والمشروع الأمريكي، الذي كان يعرف بأنه سيدمر المنطقة العربية. في البداية أمسك عطوان العصا من منتصفها، وطالب بوجود حل بين العراق والكويت، لكن عندما صدر قرار الجامعة العربية، ووصلت القوات الأمريكية إلى المنطقة، كتب افتتاحية أوضح فيها: نحن نحب الكويت، لكننا نحب العراق أيضا. وإن القوات الأمريكية جاءت لتحتل العراق وتهين الشعب العربي. ونحن في هذه الحالة ضد الخندق الأمريكي. موقف واضح مؤيد للقضية الفلسطينية والعربية ومنتقد بشدة للأنظمة العربية المعتلة. بدأت معركة «القدس العربي» مع الأنظمة لأنها غردت خارج السرب، ولأنها كانت دائماً مع المعسكر الخاسر، ففي قناعتها أن 80 بالمائة من الشارع العربي مع هذا المعسكر ضد المعسكر الثاني الأثقل لأنه ضم دول الخليج حيث الثقل المادي، ومصر حيث الثقل البشري الضخم والتاريخي، وسورية ذات الثقل الثوري. هذا المعسكر الذي أشعل الحرب ضدها، وحطمها كما يقول عبد الباري عطوان، الذي كان أكثر من هوجم في الصحافة العربية الكويتية والمصرية، وهو على قناعة بأنه اتخذ الموقف الصحيح، أي موقف الشارع العربي، وأنه ظلم كثيراً، وإلى حد الآن مازال متمسكاً بموقف الشارع، وما زال مظلوما. قبل الحرب على العراق وصلت رسالة إلى عبد الباري عطوان رئيس تحرير «القدس العربي» لم يخف منها، وما زال محتفظا بها، معتقدا بأن مصدرها أمريكي، جاء فيها: أنت تحرض الناس ضدنا كأمريكان، وأنت ناجح وتأثيرك قوي، وتستغل الفضائيات في التحريض، ونحن نحذرك، إن استمررت سنمنعك من الظهور عبر الفضائيات وإذا تمادت جريدتك، سنغلق «القدس العربي» وأنت تتكلم عن عيوب الناس، لكنك نسيت عيوبك، وحتى إن لم تكن عندك عيوب سنخلقها لك، وأمامك أرواح، وعليك أن تتحدث عن القضية الفلسطينية بما يؤدي إلى دعم عملية السلام، وأرجو أن تفهم هذه الرسالة جيدا، واليوم أجد تطبيقا للرسالة فكل الفضائيات العربية الآن قاطعتني عدا الجزيرة التي تستضيفني بين حين وآخر لرفع العتب، ثم إنني تلقيت الكثير من التهديدات من دول عربية، ومنظمات عنصرية أوروبية متطرفة، مثل كلو كلوكس كلان، التي قتلت مايكل إكس ومارتن لوثر كينغ. كما أوصلوا لي رسالة إلى البيت وكتبوا فيها نعرف كيف نصل إليك، لكنها لم تؤثر فيّ، وحين يقول لي البعض إنهم خائفون علي أجيبهم بأنني لست بأحسن من الذين استشهدوا، على الأقل أنا عشت عمري، في حين أن هناك من قتل واستشهد في أعمار مبكرة، ولأنني ما زلت قادرا على العطاء فقد بدأت بتأليف كتاب عن القاعدة وأسامة بن لادن لصالح شركة نشر بريطانية كبرى، ربما أفكر لاحقا بترجمته إلى العربية. ولد عبد الباري عطوان سنة 1950 في مخيم للاجئين بمدينة دير البلح في قطاع غزة وهو واحدٌ من أحد عشر طفلاً لعائلة تنحدر من المجدل. بعد الانتهاء من الدراسة الابتدائية في مخيم رفح للاجئين في غزة. أكمل دراسته الإعدادية والثانوية في الأردن عام 1969، ثم في القاهرة بمصر. وفي عام 1970 بجامعة القاهرة، وتخرج بتفوق من كلية الإعلام، ثم حاز دبلوم الترجمة من الجامعة الأمريكيةبالقاهرة. وبعد التخرج عمل في جريدة «البلاغ» في ليبيا، ثم جريدة «المدينة» في السعودية. وفي عام 1978 انتقل إلى لندن، حيث استقر ليعمل في «جريدة «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» السعوديتين الصادرتين في لندن، وفي عام 1980 أنشأ مكتب لندن لجريدة «المدينة»، وفي عام 1984 عاد إلى جريدة «الشرق الأوسط». وفي عام 1989 تم تأسيس جريدة «القدس العربي» في لندن وعُرض على عبد الباري عطوان رئاسة تحريرها. ومنذ ذلك الحين يقوم برئاسة تحريرها. أثناء حرب الخليج 1990-1991 نالت «القدس العربي» شهرة واسعة بمعارضتها الهجوم الأمريكي. وبالرغم من أن الجريدة لم تؤيد ضم العراق للكويت، فقد رفضت التدخل الدولي في الشؤون العربية. وفي 1996 أجرى عبد الباري عطوان مقابلة صحفية مع أسامة بن لادن. ولإجراء المقابلة سافر عبر الجبال متخفياً في زي أفغاني. فيما بعد، وصف عطوان رحلته بأنها «الأكثر إخافة»، وانطباعه عن الشيخ بن لادن بأنه ظاهرة ومتطرف.