الصحافة هي ملحمة العالم الحر، فحيث توجد ديمقراطية عظيمة، توجد، بالضرورة، صحافة عظيمة، وحيث توجد صحافة عظيمة، توجد، أيضا، تقاليد راسخة في ثقافة القراءة، فالقراء الجيدون يصنعون الصحيفة الجيدة، كما تقول القاعدة الذهبية في مجال الصحافة... من هنا نفهم معنى أن تحتكر صحافة الدول الديمقراطية كل الأرقام القياسية، فنجد صحيفة مثل «نيويورك تايمز»، الأمريكية، عمرها قرن ونصف، و»ديلي ميرور»، البريطانية، توزع مليون نسخة في اليوم... فالعالم الحر سمح للصحافة ولوسائل الإعلام، عموما، بالانتقال من كونها إحدى وسائل إخبار الرأي العام إلى الوسيلة الرئيسية لصناعة الرأي العام، ليتم تتويجها «صاحبة للجلالة» على كل أنواع السلط أو «سلطة السلط»... تعد جريدة «نيويورك تايمز» (New York Times) من أبرز المنابر المؤثرة في عالم الصحافة الأمريكية. فقد لعبت الجريدة، خلال القرنين الماضيين، دورا كبيرا في تحديد مسار الرأي العام الأمريكي في مختلف القضايا. هذه لمحة تاريخية عن الجريدة وعن أهم القضايا التي أثارتها عبر 154 سنة من العمل الصحافي. يرجع تاريخ تأسيس «نيويورك تايمز» إلى عام 1851، ومؤسسا الجريدة هما هنري جارفس رايموند، الذي عمل صحافيا في ولاية نيويورك، وصديقه جورج جونز. قبل تأسيس الجريدة، عمل رايموند كنائب لمحافظ ولاية نيويورك. أما جونز فجاء من خلفية متواضعة وعمل في صباه ك«شاوش» لصاحب جريدة «نورثن سبيكتاتور» (Northern Spectator)، حيث تعرّف على هوراس غريلي، مؤسس جريدة «نيويورك تريبيون» (New York Tribune). بعد فترة عمل قصيرة مع غريلي، قرر جونز إنشاء جريدة، بمشاركة صديقه هنري رايموند. وأصدرت «نيويورك تايمز اليومية» (New York Times Daily) أول عدد لها يوم 18 شتنبر 1851. ومع إصدار أول عدد للجريدة، صرح ريموند وجونز في ذلك اليوم بأن «نيويورك تايمز» سوف تصدر يوميا ما عدا يوم الأحد من كل أسبوع. ولم يعتقد أحد أن ذلك الإصدار كان بداية تاريخ مليء بالإثارة والجدل والتفاعلات السياسية. وقبل مرور أقل من عام واحد على تاريخ التأسيس، قرر المالكان إصدار طبعة مخصصة للولايات الغربية، وهي الطبعة التي ما تزال مستمرة حتى يومنا هذا، وتظل دليلا على نجاح الجريدة في جذب قرائها وفي إثبات جدارتها كمصدر موثوق للأخبار والمعلومات. ومن المعروف أن الجريدة لعبت دورا جديرا بالاعتبار في تأسيس وكالة الأنباء العالمية «أسوشيتد برس» (The Associated Press) عام 1956، وكان أول رئيس لها هو هنري رايموند. كانت بداية الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861 بمثابة نقطة تحول للجريدة، التي استطاعت من خلالها الصعود في الساحة الإعلامية الأمريكية باعتبارها الجريدة الرسمية للحصول على تصريحات الحكومة الأمريكية، المتعلقة بالحرب، نيابة عن أعضاء وكالة أنباء «أسوشيتد برس». ومع التطورات التكنولوجية، نجحت الجريدة في الارتفاع بمستوى تقاريرها من حيث السرعة والدقة. ولكن الارتفاع الحاد في المبيعات وقع عام 1898، عندما انخفض سعر الجريدة إلى سنت واحد، وبالتالي ازداد معدل المبيعات من 26 ألفا إلى 75 ألفا، بعد سنة واحدة. ونتج عن ذلك ارتفاع مماثل في أرباح الإعلانات. ومن الشخصيات المهمة في تاريخ «نيويورك تايمز» أدولف أوكس، الذي اشترى الجريدة بعد إفلاسها عام 1896 وعيّن نفسَه ناشرا للجريدة في نفس الوقت. وكان معدل المبيعات اليومي للجريدة في ذلك الحين حوالي 9 آلاف عدد يوميا، مقارنة ب100 ألف في 1901. ولعب أوكس وعائلته دورا كبيرا في عالم الصحافة في الولاياتالمتحدةالأمريكية. ولم تكن جريدة «نيويورك تايمز» في منأى من الجدال والاتهامات التي نجدها حاليا حول مصداقيتها وحياديتها السياسية، فقد كانت الجريدة طرفا في إحدى أهم القضايا التي نظرت فيها المحكمة الدستورية العليا في مجال حرية الصحافة. وكانت الدعوى القضائية موجهة من مسؤول من ولاية «ألاباما»، حيث اتهم المسؤول جريدة «نيويورك تايمز» بالقذف. ولكن المحكمة قررت، عام 1964، أن الجريدة بريئة من تلك التهمة. وأصدرت بذلك عبرة قضائية (legal precedent) تعطي حماية لوسائل الإعلام من دعاوى التعويض في القضايا المعنية بتداعيات القذف. كما قدمت المحكمة العليا حماية أخرى للصحافة من خلال دعوى قضائية ضد الجريدة عام 1970. وكانت الدعوى مقدمة من الحكومة الأمريكية بعدما رفض أحد صحافيي «نيويورك تايمز» التعاون مع الهيئات القضائية التي كانت تجري تحريا عن جماعة «بلاك بانثرز» (Black Panthers).