«بين قاتل يذبح ضحاياه بدم بارد وفيلسوف يتجرع كأس السمّ بكل شجاعة ومجاهد خارج عن إرادة القانون يساق إلى مقصلته مرفوع الرأس رابط الجأش، اختلفت التسميات لشخصيات شكلت محاكماتها منعطفات إنسانية بعد أن شكلت كلمات البعض منها نورا يضيء الطريق نحو الحرية وإحراق الطغاة ومستعبدي الناس وينير الدرب للمعذبين في الأرض ويرشدهم إلى طريق الخلاص، طريق التحرّر من الظلم والاستعمار، بينما شكلت كلمات آخرين شعاعا نحو الظلم والاستبداد والقتل والهمجية والاستعباد.. كلمات صغيرة اختلفت باختلاف الزمن والمكان والغاية، لكنها التقت جميعها، في النهاية، لتشكل في ما بينها مداد الحبر الذي كتبت به أسماء هؤلاء في ذاكرة الزمن، وتشابكت خيوطها بطريقة غير مألوفة تاهت معها الحقائق وضللت معها العدالة في البداية قبل أن تظهر الحقيقة في النهاية.. كلمات أنهت حياة الكثير منهم عبر محاكمات عادلة وأخرى ظالمة، فكانت فعلا أشهر المحاكمات في التاريخ. الشيخ يضحك مثل طفل صغير كان بودلير يبدو في المحكمة في العاشر من يوليوز 1857 كمن يساق إلى المقصلة، حيث غطى القلق الشديد ملامحه، وبدت يداه مضطربتين، ونظراته الملهمة المسكونة كنظرات الطيور التي تسكن أعشاشها بالليل وتخشى أن تنقض على صغارها إحدى الفرائس التي تتربص بها. كان وجهه مبتسما وعلت ضحكته وهو يسمع الحشود، التي امتلأت بها القاعة وقد بدأت تردد الأنغام البودليرية وهي تقول: «أنا ندية الشفة وأعرف فن إضاعة الضمير في غابة السرير، أكفكف كل الدموع على نهدي المظفرتين وأجعل الشيخ يضحك مثل طفل صغير، وأحل لدى من يراني عارية محل الشمس والنجم والقمر المنير». وهنا قاطعهم النائب العام بينار وأخذ بمهاجمتهم وهو يقول: «أيها السادة، أعتقد بأنني سردت ما يكفي من المقاطع لأؤكد على ما فيها من إهانة للآداب العامة وتجاوز للحدود التي يفرضها الحياء العام بوقاحة صريحة والإساءة إلى الدين كما تفضل به وزير العدل، وبالتالي أنا أعذر هذا الحشد من الحضور على هتافه بتلك الكلمات النابية لعلمي اليقين بأنه لا يعلم بعد ما تعنيه تلك الكلمات سوى رغبته الشديدة بالجنس الإيحائي فقط». وختم المدعي العام مرافعته بالقول: «سوف تقدرون بأنفسكم أيها السادة إذا ما كان بودلير قد أقدم على التجديف أم كان يعي بأنه يجدف فعلا. وبالتالي ليكن حكمكم على تلك الميول غير الأخلاقية المتنامية التي تحمل أصحابها على أن يرسموا كل شيء ويقولوا كل شيء كأن عقوبة الإساءة إلى الآداب والدين قد ألغيت ولا وجود لها أمام العدالة». هنا تقدم محامي الدفاع شيكس ديست أنج وبدا بقراءة مرافعته التي كتبها بدقة وعناية حسب التقاليد القضائية، مستشهدا بذلك بالعديد من الأبيات التي قالها بودلير في قصائده، والتي تخالف ما ردده المدعي العام بينار في ادعاءاته السابقة ضد بودلير، قائلا: «أيها السادة إذا كان بودلير يصف الرذيلة فإنه يهدف من وراء ذلك إلى محاربتها وإدانتها، فهو يقول: الحماقة والخطأ والخطيئة والبخل تحتل أفكارنا وتشغل أجسادنا، وعذابات الضمير الحبيبة نغذيها كما يغذي قملهم الشحاذون، وبالتالي فإن نواياه تبقى صادقة وسليمة، وما تلاه النائب العام من أبيات لا تنم عن حقيقة مقصد بودلير وربما أعذره في ذلك لكون اختياره لتلك الأبيات كان خاطئا جدا». وأخذ شيكس بتلاوة مقاطع مجزأة وأبياتا منفصلة من قصائد لموسيه وبيرانجيه وتيوفيل غوتيه وغيرهم، والتي لا تقل إباحية عن تلك المقاطع والأبيات التي تلاها النائب العام في تناوله لقصائد بودلير، خاتما مرافعته بالقول: «إنني أتساءل أيها السادة لماذا لم تمنع تلك القصائد؟ وإذا كان علينا أن نحكم عليها بأجزاء منها فقط دون المضمون العام، وإذا كان سيحكم على بودلير فيجب إذن أن يحكم على رابليه من أجل كل إنتاجه وعلى لافونتين من أجل أقاصيصه وعلى روسو من أجل اعترافاته وعلى فولتير وبومارشيه، اللذين كتبا أيضاً كثيراً من النصوص الإباحية، وبالتالي ليس على الفنان أن يؤدي حساباً أمام الأخلاق ولا يطلب منه أن يكون ذا نوايا حسنة، بل أن يكون ذا موهبة». وهنا علت الأصوات المؤيدة لما قاله محامي الدفاع، والتي أخذت تطالب بالإفراج عن بودلير فورا، الشيء الذي جعل رئيس المحكمة ينصاع إليها بشكل جزئي ويصدر قراره دون أن يخالجه أي انفعال أو تردد قائلا: «بما أن بودلير قد اقترف جنحة الإساءة إلى الآداب العامة والأخلاق الحميدة، فإن المحكمة تقضي بتغريمه 300 فرنك. كما أنها تقضي بحذف القصائد ذات الرقم (20 و30 و39 و80 و81 و87) من مجموعة «أزهار الشر». براءة صريحة بعد ثمانين عاما على وفاته كان الشاعر هادئاً وما لبث أن غادر قاعة المحكمة دون أن يقول أي كلمة، وما هي إلا أيام حتى بدأ يتلقى من أدباء فرنسا رسائل المودة والتأييد والتقدير، وكانت في مقدمتها رسالة من فيكتور هوغو، وهو يومذاك في قمة مجده. هذا نصها: إن الفن كالأفق.. إنه نشيد لا ينتهي وأنت قد أثبت ذلك. إن قصائد أزهار الشر تشع وتسطع كالنجوم فواصل عطاءك. إني لأهتف بكل قواي أمام فكرك الشجاع: لقد أحسنت، إني أشد على يدك أيها الشاعر». ويمر الزمن وبودلير تتسع حوله يوماً فيوماً هالة المجد حتى جاء يوم الواحد والثلاثين من ماي من العام 1949، وتم الإقرار ببراءته من كل التهم التي وجهت إليه بناء على قرار محكمة التمييز، التي أصدرت قرارها بالغرفة التأديبية السادسة بباريس، وجاء فيه «بما أن القصائد موضوع الدعوى لا تتضمن أي تعبير بذيء أو فاحش ولا تتجاوز الحريات المسموح بها للفنان، فإن جنحة الإساءة إلى الآداب العامة لم تحدث، ولهذا فإن المحكمة تنقض وتلغي المحاكمة التي تمت في 20غشت 1857 وتبرئ ذكرى بودلير من الحكم الذي صدر بحقه. «وبالتالي جاء هذا القرار بعد أن انقضت على وفاته ثمانين عاما وعلى صدور الحكم بحقه تسعين عاما ليتأكد الاقتناع من جديد بأن الصراع غالبا ما يدور بين الفنان المبدع والعقلية السائدة في مرحلة من مراحل التطور الإنساني، والتي ينتصر فيها الفنان والمثقف غالبا في نهاية المطاف ولو تأخر الزمن. كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب