«بين قاتل يذبح ضحاياه بدم بارد وفيلسوف يتجرع كأس السمّ بكل شجاعة ومجاهد خارج عن إرادة القانون يساق إلى مقصلته مرفوع الرأس رابط الجأش، اختلفت التسميات لشخصيات شكلت محاكماتها منعطفات إنسانية بعد أن شكلت كلمات البعض منها نورا يضيء الطريق نحو الحرية وإحراق الطغاة ومستعبدي الناس وينير الدرب للمعذبين في الأرض ويرشدهم إلى طريق الخلاص، طريق التحرّر من الظلم والاستعمار، بينما شكلت كلمات آخرين شعاعا نحو الظلم والاستبداد والقتل والهمجية والاستعباد.. كلمات صغيرة اختلفت باختلاف الزمن والمكان والغاية، لكنها التقت جميعها، في النهاية، لتشكل في ما بينها مداد الحبر الذي كتبت به أسماء هؤلاء في ذاكرة الزمن، وتشابكت خيوطها بطريقة غير مألوفة تاهت معها الحقائق وضللت معها العدالة في البداية قبل أن تظهر الحقيقة في النهاية.. كلمات أنهت حياة الكثير منهم عبر محاكمات عادلة وأخرى ظالمة، فكانت فعلا أشهر المحاكمات في التاريخ. عندما احتلت إنجلترا معظم أنحاء فرنسا في أوائل القرن الخامس عشر، كان شارل السابع لا يزال يلقب ب«الدوفان»، أي ولي العهد، ويطلق عليه تهكما لقب «ملك بورغ»، وهي المقاطعة التي حكمها بخمول شديد وهو يحكم ما تبقى له من فرنسا جنوبي نهر اللوار، بينما «جان دارك»، الفلاّحة التي لم تكن تبلغ بعد سن العشرين، تقاتل الإنجليز وتنتصر عليهم في عدد من المعارك، أهمها معركة اللورين، قبل أن تقنع ولي العهد بالمجيء إلى ريمس لتتويجه ملكا على فرنسا، ووقفت البطلة إلى جانبه في تلك اللحظة التاريخية. عمد شارل السابع، بمناسبة تتويجه، إلى مكافأة أنصاره الأوفياء، فمنح لقب «شوفالييه» (أي فارس) لعدد منهم وكرّسهم في الكنيسة فرسانا بنفسه، وخص بالمكافأة الكبرى «جيل دولافال» بارون دوري، أحد رفقاء جان دارك الشجعان، فمنحه لقب ماريشال فرنسا وهو بالكاد في الخامسة والعشرين من العمر. انطلقت «جان دارك»، بعد ذلك الاحتفال، لمتابعة نضالها ومقاتلة الجيوش الغازية وهي تحلم بالوصول إلى العاصمة باريس لتحريرها، فاحتلت في الطريق إليها كلا من لاون وسواسون وكولومبيه وبرفاس وشاتو تيري وبوفي، لكنها تعرضت أمام العاصمة للهزيمة فلجأت إلى مدينة كومبيين المحاصرة حيث تم أسرها، وباعها الدوق «دوبور غوني» للإنجليز، فأحيلت على محكمة التفتيش وأحرقت وهي على قيد الحياة في مدينة روان. متهم بالخيانة كان للخبر وقعه الجسيم على مناصري ومحبي تلك الفلاحة المناضلة «جان دارك»، فازدادت الثورة وازداد عنفوانها ضد القوات المحتلة، وسرعان ما اتجهت إلى أحد رجالاتها وأحد المقربين إليها قبل قتلها، وهو «جيل دوري» الذي أشارت إليه أصابع الاتهام بالخيانة بعد اطلاعه على مخطط اغتيال «جان دارك» الذي أعده ابن عمه «جورج دولاتو مويل» والذي انتهى بتسليم الفلاحة المناضلة إلى الإنجليز وقتلها حرقا، رغم أنه استنكر ذلك داعيا أنصاره بقوله: إنني بريء من تلك التهمة، بل إنني توسلت مرارا وتكرارا تحت قدمي الملك لإنقاذها، ولكن الملك العاق لم يصغ إلي ولم يستجب لطلباتي. أقنعت تلك الكلمات الثوار الثائرين على الاحتلال والذين ثاروا في وجهه لبعض الوقت، وعاد بالتالي إلى أملاكه ليحيا حياته المعتادة، حيث يملك الكثير من الأموال التي يستطيع من خلالها أن يحيا الحياة التي يريدها، فقد ورث عن والده ووالدته العديد من المزارع والحقول والقصور والحصون بعد أن تزوج وهو في سن الرابعة عشرة من السيدة «كاترين دوتوار» التي أضافت إلى ثروته الكثير، ليصبح بذلك من أكبر أثرياء أوربا ومن أعظمهم شأنا وأعلاهم مركزا. وحينما انتقل إلى مزارعه المفضلة في «تيفوح» صحبة مائتي فارس من أعلى الرتب، أخذ ينفق عليهم الكثير من المال مؤمِّنا لهم الإقامة المريحة والطعام الجيد والثياب الأنيقة بغية الحفاظ على ولائهم له بعد أن كان قد أخذ يخطط عن طريق السحر للانقلاب على الحكم، فالقناع الذي يلبسه الآن والذي يبدو معه محبا للفلسفة والأدب والفنون والعلوم التي امتلأت مكتبته الفخمة بكتبها إلى جانب العديد من التماثيل واللوحات النادرة وشغوفا كبيرا بالمسرح، خاصة المسرحيات الأدبية والدينية، ذلك القناع سرعان ما أخذ في الزوال ليرتدي قناعا آخر يعكس رغباته وأمنياته التي رسمها من قبل، فلم يكن أحد ليتخيل أن وراء مظاهر النبل والشجاعة والطهارة كانت ثمة بؤرة للفساد والرذيلة والخيانة التي ربطته بابن عمه «جورج دولاتو مويل» الذي اتهم بتسليم الفلاحة الثائرة «جان دارك» إلى الإنجليز لإعدامها، لكن ثروته الهائلة كانت تسهل عليه شراء الضمائر التي كانت تحاول كشفه شيئا فشيئا حتى بدأت ثروته تختفي تدريجيا نتيجة لإسرافه الكبير وإدمانه على لعب القمار التي أخذ يبيع معها قصوره وأملاكه حتى شارف على الانهيار، الأمر الذي دفع بزوجته «كاترين» وابنته «ماري» إلى الالتجاء إلى الملك شارل السابع والتوسل إليه ليضع حدا لهذا الضياع والاستهتار الذي أصاب زوجها جيل دوري. متهم بالسحر لم يبال البارون جيل دوري بقرار الملك شارل السابع القاضي بمنعه من التصرف في أملاكه، من جهة، ودعوة الضباط والحرس العاملين لديهم إلى الحفاظ على أملاكه، وإن كان قد سبق للبارون بيعها أو رهنها، من جهة أخرى، بل أخذ يبحث عن الطريقة التي تحقق له هدفه في الحفاظ على أملاكه والسيطرة على الحكم، فأخذ يبحث في كتب الكيمياء التي يستطيع من خلالها تحويل المعادن إلى ذهب، وقام بإرسال رسله يجوبون أنحاء فرنسا وإيطاليا وألمانيا بحثا عن السحرة الذين يستطيعون مساعدته على صياغة حجر الفلاسفة (كان هدف الكيمياء القديمة هو تحويل المعادن إلى ذهب، وهمها البحث عن حجر الفلاسفة وإكسير الحياة الذي يحيل المعادن الخسيسة إلى معادن كريمة ويعيد الشباب إلى الإنسان)، وبدأ السحرة يتوافدون على قصر تيفوج وعكفوا على العمل في قبو القصر الذي تحول إلى بؤرة للسحر والشعوذة. ظل السحرة يتوافدون ويتوافدون، لكنهم لم ينجحوا في تحقيق غاية جيل دوري وأقنع نفسه بأن أفضل السحرة هم فقط سحرة «توسكان»، فسارع إلى جلب عدد كبير منهم لتحقيق الغاية المنشودة دون جدوى، حتى جاء الساحر «فرانسيسكو بريلاتي»، ذلك الشاب فائق الجمال، ابن الثالثة والعشرين والضليع في العلوم الكيميائية الذي طلب، لتحقيق تلك الغاية، أن يقدم له «جيل دوري» عينا ويدا وقلبا ودما ساخنا يتم نزعهم من طفل صغير، ولما سمع سيد القصر بذلك ابتهج كثيرا، فما أكثر الأطفال الذين يقتلون من أجل المتعة فلماذا لا يقتل الآن طفلا من أجل المنفعة؟! واستذكر للتو أن خادمته «ميفراي» قد جلبت معها هذا الصباح طفلا جميلا في الخامسة من عمره، ليقول: فلماذا لا يكون هذا الطفل هو القربان الأول الذي يقدم للشيطان؟! لم يأت قتل الطفل وجلب يده ودمائه بنتيجة تذكر، فالشيطان -حسب الساحر «بريلاتي»- يريد المزيد والمزيد، فرغم إقدام سيد القصر على ذلك فإن هدفه لم يتحقق، وأخذت خزائنه تفرغ من محتوياتها وأخذ المقربون منه يبتعدون عنه خشية معرفة الملك شارل السابع، ولهذا قرّر «جيل دوري» استعادة أملاكه التي أخذها منه الملك شارل السابع نتيجة لإسرافه الشديد، فأنشأ جيشا وبدأ بالزحف على «سان دوميرمورت» لاستعادتها أولا بعد اقتحامه الكنيسة واعتقال من فيها والزجّ بهم في السجن، ليصبح «جيل دوري» بذلك بين مطرقة الملك الذي سجل عليه إنشاء جيش دون علمه وسندان الكنيسة التي أهان معابدها وسجن كهنتها ليتم توجيه التهمة إليه بعد الشكاوى العديدة التي رفعت ضده والاتهامات التي حملها العديدون بالوقوف وراء اختفاء العديد من الأطفال وليصدر قرار المحكمة بتاريخ 29 يوليوز 1440 بإدانته بالقتل واستحضار الشياطين، حيث جاء في لائحة الاتهام: ثبت لنا أن جيل دوري وبعض شركائه قد أقدموا على خنق عدد كبير من الأطفال الأبرياء وقتلهم والتمثيل بجثثهم بوحشية، وأنهم مارسوا معهم علاقات غير طبيعية وتعد بمثابة رذيلة سودوم (اللواط) وعملوا على استحضار الشياطين، ليبدأ «جيل دوري» بالاعتراف بجرائمه شيئا فشيئا رغم محاولاته المتكررة التهرب منها بداية، ويتم إصدار الحكم عليه بالإعدام شنقا وإحراق جثته ودفن رمادها بعد ذلك في حفرة عميقة بمقبرة كنيسة «موستيه دونوتردام» حسب طلبه الذي جاء فيه: «إني أشكركم جزيل الشكر على هذا العطف، وأرجو أن يتم دفن جثتي في مقبرة كنيسة موستيه دونوتردام دي كارس». كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب