«بين قاتل يذبح ضحاياه بدم بارد وفيلسوف يتجرع كأس السمّ بكل شجاعة ومجاهد خارج عن إرادة القانون يساق إلى مقصلته مرفوع الرأس رابط الجأش، اختلفت التسميات لشخصيات شكلت محاكماتها منعطفات إنسانية بعد أن شكلت كلمات البعض منها نورا يضيء الطريق نحو الحرية وإحراق الطغاة ومستعبدي الناس وينير الدرب للمعذبين في الأرض ويرشدهم إلى طريق الخلاص، طريق التحرّر من الظلم والاستعمار، بينما شكلت كلمات آخرين شعاعا نحو الظلم والاستبداد والقتل والهمجية والاستعباد.. كلمات صغيرة اختلفت باختلاف الزمن والمكان والغاية، لكنها التقت جميعها، في النهاية، لتشكل في ما بينها مداد الحبر الذي كتبت به أسماء هؤلاء في ذاكرة الزمن، وتشابكت خيوطها بطريقة غير مألوفة تاهت معها الحقائق وضللت معها العدالة في البداية قبل أن تظهر الحقيقة في النهاية.. كلمات أنهت حياة الكثير منهم عبر محاكمات عادلة وأخرى ظالمة، فكانت فعلا أشهر المحاكمات في التاريخ. في 24 مارس1919، كان رجال الشرطة المسلحون يحيطون بقصر العدل في باريس وقد أغلقت الأبواب والنوافذ واتخذت جميع الاحتياطات لمواجهة كل طارئ، فالاشتراكيون قد توافدوا بالآلاف من جميع مناطق فرنسا إلى باريس للإعراب عن تقديرهم لزعيمهم الراحل «جان جوريس» ولمشاهدة «راؤول فيلان» الذي أطلق عليه النار في 31 يوليوز 1914 في مقهى الهلال (كافييه دو كرواسان) فأرداه قتيلا. كانت تلك الجريمة قد وقعت قبل الحرب العالمية الثانية وفي سبيلها، لكن المحاكمة أرجئت منذ ذلك الحين حرصا على الوحدة الوطنية أثناء الحرب وخوفا من انقسام صفوف الشعب الفرنسي الذي يجابه الألمان في فترة كانت فيها الأمة في أشد الحاجة إلى وحدتها وتضامنها، ليخرج القاتل من سجنه الذي أودع فيه طيلة أربع سنوات تقريبا بمجيء حكومة «جورج كليمنصو»، عدو «جان جوريس» الأشد صرامة، ليساق إلى قصر العدل بغية استجوابه ومحاكمته ومعرفة الجهة التي حرضته على الجريمة بعد أن شاعت حوله أجوبة غامضة يكاد بعضها يكون خياليا أو طفوليا، فمما قيل فيها أن اليمين المتطرف كان وراء عملية الاغتيال، وقيل إن المحرض هو حركة العمل الفرنسي، وقيل إنه شرطة القيصر الروسي، وقيل إن ألمانيا نفسها هي التي حرضت راؤول على قتل جوريس بعد إيمانها بأن مقتله سيؤدي إلى إشعال حرب أهلية في فرنسا تغرقها في الفوضى وتشلّ مقاومتها في الحرب التي تقرع أبوابها. محرر فرنسا كان كليمنصو، الذي حكم البلاد بيد من حديد منذ 1917 وقادها إلى النصر في الحرب العالمية الضارية، قد أمر بتشديد الحراسة حول مقر قصر العدل للحفاظ على النظام، مرخصا للصحفيين وحدهم بحضور جلسات المحاكمة والذين جحظت أعينهم لحظة رؤيتهم المتهم راؤول، ولم يتمالكوا أنفسهم من الدهشة والذهول فتساءلوا مستغربين: أهذا هو قاتل جوريس، هذا الشاب الهزيل ذو الشعر الأشقر والشارب الصغير هو الذي قتل بطلقتين من مسدسه أحد كبار المفكرين في عصره! قتلته.. لأنه خائن سرعان ما بدأ رئيس المحكمة في استجواب القاتل راؤول بحضور الرئيس كليمنصو وبعض أعضاء حكومته، ليتبين أن القاتل قد نشأ في أسرة قلقة، فقد كان والده كاتب المحكمة في مدينة «نيس الفرنسية» أنانيا وزير نساء، وكانت والدته وجدّته لأمه تعانيان نوبات عصبية، وقد أدخلتا مرات عديدة إلى مستشفى الأمراض العقلية وهو في سن صغيرة جدا، وكان شقيقه الأكبر منصرفا عنه إلى دروسه وشؤونه الشخصية، وبالتالي فقد كان يعاني الوحدة والوحشة، وكان متدينا إلى درجة بعيدة حتى إنه لم يقم أي علاقة تذكر مع امرأة، فقد كان كاثوليكيا متمسكا بعقيدته ولم يكن يؤمن بالتالي سوى بالحب الطاهر فقط. وقد انتسب إلى الحركة الاجتماعية المسيحية التي كان يتزعمها السيد «مارك» الذي وجد فيه راؤول الأخ الذي افتقده ووجد في زوجته الأم التي طالما تشوّق إلى حنانها، وظل يتشوق إلى الحرب على الدوام بعد إيمانه بأنها ستعيد إليهم «الألزاس واللورين» من ألمانيا، حسب زعمه، لذلك قال للقاضي في محضر استجوابه: «لم أكن أقوم على الإطلاق بعمل سياسي، فأنا اكره هذه الأعمال، وجلّ ما كنت أتمناه أنا وأصدقائي أن تقع الحرب في أقرب وقت ممكن كي نستطيع استعادة الألزاس واللورين من ألمانيا، فالوطن وحده هو الذي يهمني، وكنت أعتقد أن جميع الفرنسيين كان لهم الموقف نفسه، لكنني عندما اكتشفت في إحدى الصحف أن السيد جوريس كان يعارض الحرب ويقاومها استولى علي الغضب والقلق فقتلته، لإيماني الكبير بأنه لم يكن في وسع أحد أن يتصرف بهذا الشكل إلا إذا كان خائنا لوطنه، والخائن لوطنه يجب قتله يا سيدي». الضمير الحي وفي صبيحة اليوم الثاني للمحاكمة، سمحت المحكمة بحضور الجماهير الغفيرة التي تقاطرت من كل حدب وصوب لمشاهدة فصول المحاكمة التي ابتدأت بسماع شهادات الشهود لاستعادة ما حدث في تلك الليلة في شارع كرواسان. وقد ورد في الشهادات ما يلي: «كان جان جوريس يتناول طعام العشاء في مقهى الهلال، وقد كان الألم باديا على الزعيم الاشتراكي بعدما تبين له أن الحرب واقعة لا محالة، وكان من فرط قلقه يتحرك ذهابا وإيابا حول المائدة التي يجلس إليها، وما هي إلا لحظات حتى أزيحت ستائر النافذة المطلة على الشارع وامتد من ورائها مسدس أطلقت منه رصاصتان ليرتفع الصراخ: لقد قتلوا جوريس، قتلوا جوريس! ويتدافع الناس إلى الخارج ويتم القبض على القاتل «راؤول فيلان» الذي تسمّر في مكانه دون حراك وحيدا مشدوها ويده تقبض على المسدس». وفي هذه اللحظة، تحول رئيس المحكمة إلى القاتل راؤول وسأله: هل تريد أن تضيف شيئا آخر يا فيلان؟ فأجاب: نعم يا سيدي: إنني أشعر بالراحة يا سيدي، فضميري الآن مرتاح كما كان تماما في اللحظات التي أطلقت فيها النار على جوريس. فأجابه القاضي بالقول: إذن فقد فعلت ذلك في لحظة من لحظات الغضب الوطني! فأجاب راؤول: نعم بالضبط يا سيدي! تتابعت الشهادات من كلا الطرفين (شهادات الاتهام وشهادات الدفاع) والتي حاولت في مجملها الوقوف إلى جانب الشريك ضد الخصم بعد تعداد مناقب ومميزات الشريك المثالية والوقوف على ثغرات الخصم، فعد شهود الادعاء لوائح طويلة بمناقب جوريس كحبه للحرب والثورة واستعادة الألزاس واللورين، ووصل بهم الأمر إلى درجة وصفه بكونه جنرالا من جنرالات الحرب العالمية، الشيء الذي أثار حينها سخط الحاضرين على القاتل راؤول بعد أن اتضحت لهم حقيقة رئيسهم جوريس التي كانت غائبة عنهم لسنوات طويلة، ولكن جمهور هؤلاء الحاضرين سرعان ما سيعود إلى مناقضة نفسه والوقوف إلى جانب راؤول في مواجهة جوريس بعد سماع شهادته ومعرفتهم بأنه رجل وطني دافع، ولا يزال يدافع بكل ما أوتي من قوة، عن بلاده واستمات في مقاومة الألمان واستعادة مقاطعتي الألزاس واللورين المحتلتين. وكانت من تلك الشهادات شهادة الشاعر «روجيه بولان» الذي قال في وصفه لراؤول: أنا لا أفهم كيف يعامل راؤول فيلان كمجرم، إنه شاب نظامي خجول لا يحب الظهور، متشبث بوطنية ويعتز بها، وإذا كان قد قتل جوريس فقد كان ذلك بدافع من وطنيته، ونحن ضد الصورة التي صنعوها لجوريس، هذا الأخير الذي ظل يقاوم تسليح فرنسا، وكان جلّ المواطنين يرون فيه خطرا عظيما على الوطن، ولولا قتله من طرف راؤول لما انتصرت فرنسا في الحرب واستعدنا أراضينا المحتلة. كانت كلمات هذا الشاعر العظيم قد حرّكت مشاعر الحاضرين داخل المحكمة وزاد تعاطفهم مع راؤول حتى انعكس ذلك التعاطف على النائب العام الذي التفت بانتباه إلى المحلفين وقد بدا حزينا ومستنكرا لأي حكم قاس قد يصدره القضاة عليه حينما قال: «كانت ظروف هذه المحاكمة غامضة لمدة طويلة، وكان الجميع -بمن فيهم خصوم جوريس- يستنكرون هذه الجريمة الرهيبة، أما الآن وبعد سماع أقوال الشهود لكلا الطرفين فقد تبدّل كل شيء، كل شيء. لكنني الآن أنبّه فقط المحلفين إلى أن راؤول فيلان قد قضى في السجن ستة وخمسين شهرا في انتظار محاكمته، ويجب أن تخصم هذه المدة من أي عقوبة قد تصدر ضده، فهذه الجريمة تحيّر العقل، ولكنني لا أستطيع أن أؤكد مسؤولية فيلان الكاملة عنها وأنه ارتكبها بتصميم روحي بعد تفكر طويل، لكن جلّ ما أطلبه هو الحكم على المتهم حكما مخففا بسبب الظروف الدقيقة التي ارتكبت فيها الجريمة وبدافع الوطنية المستميتة، رغم أنني أطلب البراءة الكاملة له باسم الشعب وباسم جميع الآمال التي تعقد عليه، خاصة وأن العاطفة التي حركت فيلان كانت رهيبة في نتيجتها، نبيلة في دوافعها، إذ كان محمولا على الموجة الوطنية التي طغت في تلك الأيام على كل شيء». وعلى إثر تلك الكلمات التي أدلى بها النائب العام، اختلى المحلفون نصف ساعة تقريبا قبل أن يعودوا معلنين براءة راؤول فيلان من التهمة الموجهة إليه بعد أن اتخذوا قرارهم بأغلبية أحد عشر عضوا، من أصل اثني عشر عضوا، وأمروا بإخلاء سبيله بعد أن حكموا على أرملة جوريس بدفع نفقات المحاكمة. كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب