«بين قاتل يذبح ضحاياه بدم بارد وفيلسوف يتجرع كأس السمّ بكل شجاعة ومجاهد خارج عن إرادة القانون يساق إلى مقصلته مرفوع الرأس رابط الجأش، اختلفت التسميات لشخصيات شكلت محاكماتها منعطفات إنسانية بعد أن شكلت كلمات البعض منها نورا يضيء الطريق نحو الحرية وإحراق الطغاة ومستعبدي الناس وينير الدرب للمعذبين في الأرض ويرشدهم إلى طريق الخلاص، طريق التحرّر من الظلم والاستعمار، بينما شكلت كلمات آخرين شعاعا نحو الظلم والاستبداد والقتل والهمجية والاستعباد.. كلمات صغيرة اختلفت باختلاف الزمن والمكان والغاية، لكنها التقت جميعها، في النهاية، لتشكل في ما بينها مداد الحبر الذي كتبت به أسماء هؤلاء في ذاكرة الزمن، وتشابكت خيوطها بطريقة غير مألوفة تاهت معها الحقائق وضللت معها العدالة في البداية قبل أن تظهر الحقيقة في النهاية.. كلمات أنهت حياة الكثير منهم عبر محاكمات عادلة وأخرى ظالمة، فكانت فعلا أشهر المحاكمات في التاريخ. في أصيل اليوم الرابع من ديسمبر 1891 فتحت الخادمة لينابيرل باب المنزل، الكائن في الطابق الثاني من البناية رقم 42 في حي التامبل بالعاصمة باريس، لزائر يقرع الباب، وقد بادر بسؤالها:هل البارونة ديللار في المنزل؟، فأجابته الخادمة: لقد أخطأت في العنوان يا سيدي فالبارونة ديللار تسكن في الطابق السفلي. مساء شتوي كان المساء الشتوي المبكر قد أرخى بظلاله على الرواق، وبالتالي لم تتمكن لينابيرل من تحديد ملامح الرجل بشكل جيد بقدر ما وصفته بأنه شاب في حدود الخامسة والعشرين من عمره، أميل إلى الطول وعيناه زرقاوان، وهو ذو شعر رطب ويرتدي معطفا مقلّما ويحمل في يده كيسا أسود صغيرا. نزل الرجل إلى الطابق الأول وضغط على زر الجرس قبل أن تفتح له الباب امرأة متقدمة في السن، وقد ارتفع صوتها وهي تقول : آه يا ولدي يا لها من مفاجأة ادخل إلى الصالون، سأشعل المصباح فدلفين خادمتي خرجت وتركتني بمفردي ولا ريب في أنها تثرثر الآن كعادتها مع صديقتها بائعة الحلوى. كان صالون المنزل قد فرش على الأسلوب القديم بشكل يتلاءم مع عمر صاحبته البارونة ديللار. وكانت على بعض جدرانه رسوم لبعض العسكريين، ووزّعت بعض التحف والذكريات الثمينة في بعض زواياه. بدا ذلك الصالون للزائر كأنه متحف عسكري يعرض أمجاد العائلة (ابنة الجنرال بولار الذي اشترك في حروب الجمهورية) وأرملة الجنرال ديللار الذي مات وهو يحمل رتبة عسكرية رفيعة في الجيش الفرنسي. وبينما كانت لينابيرل الخادمة بالطابق الثاني تعمل داخل مطبخها الصغير إذا بها تسمع صرخات تأتي من الطابق السفلي حيث تسكن البارونة ديللار، وقد أخذت تشاهد خادمتها دلفين من إحدى النوافذ تصرخ وهي ملطخة بالدماء، التي كانت تسيل من أعلى رقبتها البيضاء قبل أن يصعد خادم البناية وقد التقى على أسفل السلم بالشاب الأنيق ذي المعطف المقلم، فقال له وهو يهم بالمغادرة: لعل هناك كارثة قد وقعت والقاتل أو السارق لا يزال في البناية، فأغلق الباب جيدا بينما أذهب لاستدعاء الشرطة. الشقي المحترم سرعان ما اختفى الرجل في جنح الظلام دون استدعائه الشرطة، التي جاء رجالها متأخرين بعض الشيء بعد اتصال أحد الجيران بهم، وقد وجدوا جثة البارونة ديللار ممدّدة أمام صورة زوجها وقد ذبحت وتناثرت حولها بعض الأوراق المالية والتحف والمجوهرات التي تلوثت بالدماء بعد أن أخرجها القاتل من الخزائن والأدراج دون أن يقوى على حملها كلها، خاصة بعد خوفه الشديد من صراخ الخادمة دلفين، التي لم تتمكن مديته الصغيرة من إنهاء حياتها قبل أن يتركها ويلوذ بالفرار، تاركا وراءه سلاح الجريمة الذي لم يكن سوى مدية صغيرة نقش عليها حرفان اثنان، هما «ف» و«نون»، إلى جانب رسالة مختومة بختم وزارة الحربية ومؤرخة في نفس اليوم الذي بعث بها ابنها الضابط بول ديللار مخبرا والدته بعدم استطاعته القدوم للعشاء وأنه سيتأخر قليلا حتى متصف الليل. كانت الخادمة دلفين ممدّدة على أحد الأسرّة وقد بدأت في روايتها التي قالت فيها: «عندما ولجت المنزل وأردت الدخول إلى الصالون حيث البارونة ديللار فوجئت بظهور رجل مجهول وقد أخذ بطعني بمدية يحملها بيده قبل أن أسقط على الأرض وأبدأ بالصراخ ويفر هاربا بعد حمله بعض الأوراق النقدية التي استطاع حملها، رغم أنني أستطيع وصفه لك بأنه شاب في العشرينات من عمره، يرتدي معطفا مقلما، ويبدو عليه بأنه رجل محترم . ذلك الشقي. آه. إنني أتالم يا معلمتي المسكينة. آه يا بول المسكين». اكتشاف المجهول كان رئيس الأمن العام للشرطة المفوض غورون شرطيا بالفطرة يتصف بالعناد والدأب ولا يتراجع أمام أي صعوبة أو عقبة، رغم مرور عشرين يوما على تحرياته التي لم يتوصل من خلالها إلى أي نتيجة، ولم يحظ إلا بانتقاد الصحافة النهمة دائما إلى معرفة الحقيقة واكتشاف المجهول، الذي توصل إليه المفوض غورون بعد التحقيق في شأن المدّية (سلاح الجريمة)، حيث تبين له بأن القاتل ابتاعها من أحد المحلات بمدينة ليون الفرنسية، فطار إليها مسرعا لاكتشاف الرجل الذي قال له صاحب المحل بأن باستطاعته معرفته من بين ألف رجل ورجل، فهو شاب في العشرينات من عمره، رطب الشعر، طويل القامة، ويرتدي على الدوام معطفا مقلما. وكانت هذه هي الصفات نفسها، التي وصف بها القاتل من طرف الخادمتين دلفين ولينابيرل وخادم البناية كذلك. وأشارت التحقيقات إلى أن المشتري ليس سوى لويس أناستاي الجندي الهارب من الخدمة العسكرية، الذي كان على علاقة قوية بالبارونة ديللار وابنها الجندي بول، يتردّد عليهما بين الحين والآخر في محل سكناهما القديم بمدينة ليون قبل أن يفقد عنوانهما في إقامتهما الجديدة دون أن تكون الخادمة دلفين قد شاهدته سابقا. نحو المقصلة اكتملت الخيوط وأخذ المفوض غورون ينتظر ساعات الصباح لإصدار أمر بالقبض على أناستاي، الذي يكتري إحدى الشقق المفروضة المجاورة للحي، الذي تسكنه البارونة ديللار حاليا. وتبين من خلال التحقيق معه بأنه أقدم على جريمته بفعل تزايد الديون وعلمه السبق (بعد تردّده على البارونة ديللار وابنها بول في إقامتهما القديمة) بتوفر البارونة ديللار على أموال كثيرة وأوراق توفير داخل منزلها.وأضاف «نعم، أنا الشقي ذو المدية والمعطف المقلّم، أنا الشقي الذي قتل البارونة ديللار، التي كان ابنها بول يساعدني ببعض الأموال قبل انتقالهما إلى هذا الحي الجديد، الذي استطعت معرفته ومعرفة محل سكناهما هذا. لقد أقدمت على جريمتي وقمت بقتل البارونة ديللار للحصول على الأموال التي ستساعدني في تسديد ديوني الكثيرة، لكنني لا أعلم كيف وضعت المدية وقمت بقتلها وحاولت قتل خادمتها دلفين». كان أناستاي يتلفظ تلك الكلمات بهدوء شديد أصاب القضاة في المحكمة بدهشة كبيرة قبل أن يصدروا أمرهم بإعدامه بالمقصلة بتاريخ 29 مارس 1892 ليلقى حتفه رابط الجأش وهو يحمل بيده اليمنى كتابه الذي كان قد بدأ في تأليفه، ويحمل عنوان «منشأ جريمة». كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب