لم يكن من قبيل الصدفة أن تحرص الإدارة الأمريكية الحالية على إجراء انتخابات عامة، حرة ونزيهة، في بلدين ولشعبين تحت الاحتلال، في العراق وفلسطين، وتغض النظر كلياً عن دكتاتوريات متجذرة ومتبحرة في قمعها لشعوبها في معظم الدول العربية الأخرى. فالأهداف الأمريكية بدأت تتكشف في أنصع صورها الآن، بعد خمس سنوات على احتلال العراق، وثلاث سنوات تقريباً على اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات مسموماً. الإصرار الأمريكي على الاستفتاء الشعبي على الدستور العراقي أولا، ثم إجراء انتخابات عامة لاختيار برلمان منتخب، وحكومة تتمتع بالأغلبية فيه، لم يكن من منطلق الحرص على الشعب العراقي، وتمتعه بالحريات، وتحسين ظروفه المعيشية، وإنما لجر هذه الحكومة، ومن ثم البرلمان، لتشريع المعاهدة الأمنية، التي تنص على إقامة قواعد عسكرية أمريكية دائمة في العراق، وإحكام سيطرة الشركات الأمريكية على ثروات العراق النفطية، من خلال القانون الجديد المتعلق بالاستكشافات وعمليات التنقيب عن النفط. الإدارة الأمريكية تريد أن تعقد معاهدة أمنية مع حكومة عراقية منتخبة، ويصادق عليها برلمان منتخب، ولهذا عملت منذ الأشهر الأولى لاحتلالها على التمهيد لهذه الخطوة، بكل الطرق والوسائل، وبما يؤدي إلى وصول رجالاتها الذين جاءوا مع قواتها من الخارج إلى دائرة صنع القرار. فاللافت أن هذه الإدارة تمسكت بأظافرها وأسنانها بالسيد نوري المالكي وحكومته، رغم إخفاقاتها العديدة في مجالات الأمن والمصالحة الوطنية وضبط الفساد. والأكثر من ذلك أنها أرسلت قوات إضافية من أجل تحسين الأوضاع الأمنية في بغداد، وأجبرت حلفاءها العرب، أو معظمهم، على التطبيع مع هذه الحكومة وإعادة فتح السفارات في بغداد لإضفاء صفة الشرعية عليها. العراق الجديد يفتقد لمعظم أوجه الحياة العادية، من خدمات أساسية مثل الماء والكهرباء والأمن والتعليم والصحة، ويغادره أبناؤه بعشرات الآلاف شهرياً، والشيء الوحيد الباقي شكلياً هو الديمقراطية الأمريكية، وبهدف توقيع معاهدة الأمن وقانون النفط وبما يؤدي إلى ديمومتهما، وشرعيتهما، ومنع أي حكومة في المستقبل من إلغائهما. الشيء نفسه يقال أيضا عن الانتخابات الفلسطينية، التشريعية والرئاسية، لأن المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً، هو وصول رئيس منتخب يوقع على اتفاق سلام، ومجلس تشريعي يصادق عليه، وعندما جاءت النتائج على عكس التمنيات الأمريكية والإسرائيلية، خاصة على صعيد المجلس التشريعي، وحصول حركة حماس على أغلبية المقاعد، جرت عملية إجهاض لها، واعتقال معظم النواب المنتخبين، ورفض الاعتراف بحكومة حماس. الرئيس محمود عباس لم يكن متحمساً لإجراء انتخابات تشريعية، وحذر الأمريكان من احتمالات فوز حركة حماس، ولكن أصدقاء واشنطن، من مدراء مراكز الأبحاث ومراكز استطلاعات الرأي، قدموا أكبر خدمة للشعب الفلسطيني دون أن يقصدوا، عندما قدموا للإدارة الأمريكية دراسات ونتائج استطلاع مطمئنة، وفق المقاسات التي تريدها، وتؤكد أن حركة فتح بقيادة الرئيس الفلسطيني ستحصل على أغلبية المقاعد، الأمر الذي شجع الرئيس بوش وأعضاء إدارته على إعطاء الضوء الأخضر لإجرائها. الأهداف الأمريكية في فلسطينالمحتلة بدأت تتبلور في مبادرتين أساسيتين، الأولى مبادرة السلام العربية التي أعيد إطلاقها من قمة الرياض العربية بضغوط أمريكية، والثانية من خلال الدعوة إلى عقد مؤتمر أنابوليس للسلام بحضور معظم وزراء الخارجية العرب في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي لإطلاق مفاوضات السلام الفلسطينية-الإسرائيلية في الشكل الذي نراه حالياً. الأنباء متضاربة حول سير هذه المفاوضات، فهناك مدرسة تقول إنها لم تحقق أي تقدم حتى الآن رغم اللقاءات الدورية المتكررة بين عباس وأولمرت وفريقي المفاوضات الفلسطيني والإسرائيلي، ومدرسة ثانية تقول إن الاتفاق قد تبلور فعلاً، ولم تبق غير بعض الرتوش البسيطة، وكل ما يقال عن الفشل وعدم تحقيق تقدم هو من قبيل التعمية وحرف الأنظار عما يجري خلف الأبواب المغلقة من تفاهمات، وتخفيض سقف توقعات الشعب الفلسطيني وبما يؤدي إلى تمرير أي اتفاق نهائي. من الصعب الانحياز إلى هذا الرأي أو ذاك، بسبب حالة التكتم الشديد حول هذه المسألة، وغياب أي مرجعيات فلسطينية دستورية يمكن أن تراقب أو تضبط إيقاعها وفق المصالح الوطنية، فالمجلس الوطني الفلسطيني مغيب بالكامل، والمجلس التشريعي معطل ونصف أعضائه في المعتقلات الإسرائيلية، ومنظمة التحرير ومؤسساتها ماتت وتحللت، والأمور كلها في يد رجل واحد اسمه محمود عباس وثلاثة أشخاص يحيطون به، ولا يعلم أحد غيرهم ماذا يطبخون للشعب الفلسطيني مع أصدقائهم الإسرائيليين. قنابل دخان عديدة جرى إطلاقها في الأيام الأخيرة من قبل أنصار التسوية، والمقربين إلى رئاسة السلطة في رام الله، أولاها من السيد ياسر عبد ربه الذي كرر أكثر من مرة نوايا السلطة بالانسحاب من المفاوضات بسبب الاستيطان المتسارع في القدس والضفة الغربية المحتلتين. ثم جاء الدكتور سري نسيبة شيخ الليبراليين الفلسطينيين وأحد رواد المفاوضات المباشرة وإلغاء حق العودة باعتباره غير عملي، ليحرض الولاياتالمتحدة وأوروبا على وقف المساعدات المالية للسلطة لأنها تأتي تمويلاً للاحتلال الإسرائيلي، وتشجيعاً على الفساد، أما السيد سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني المؤقت (احتفل قبل أيام بمرور عام على تشكيل وزارته) فقد هدد بالأمس بوقف الخطة الأمنية وسحب القوات الفلسطينية من نابلس إذا استمرت التوغلات الإسرائيلية فيها وما يتبعها من اعتقالات واغتيالات للنشطاء الفلسطينيين. تهديدات عديدة من أكثر من مصدر، ولكن لا تنفيذ لأي منها عملياً، فهل هذه التهديدات للاستهلاك المحلي، وامتصاص غضبة الشارع الفلسطيني، أم أنها للضغط على الأوروبيين والأمريكان للتدخل لإنقاذ المفاوضات، أو تذليل ما يقف في طريقها من عقبات بسيطة، وصولاً إلى بلورة الاتفاق النهائي؟ الرئيس عباس أكد لنا بالأمس أن الفلسطينيين يخوضون مفاوضات صعبة وشاقة مع الجانب الإسرائيلي وبشرنا بأن نتيجة هذه المفاوضات ستعرض على الشعب الفلسطيني للاستفتاء العام. حديث الرئيس عباس عن الاستفتاء العام يبث الرعب في قلوبنا، لأنه يوحي بأن الاتفاق وشيك، وإلا لماذا إلقاء هذه القنبلة، وبعد اللقاء الذي عقده مع نظيره الإسرائيلي شمعون بيريز في مقر الأخير في القدسالمحتلة؟ ثم كيف سيجري هذا الاستفتاء في ظل الانقسام الفلسطيني الراهن، وإغلاق كل قنوات الحوار بين طرفي المعادلة السياسية الفلسطينية الأبرز أي حماس وفتح ! الاستفتاء العراقي جاء بدستور يقسم العراق على أسس طائفية وعرقية تحت مسمى الفيدرالية، وحكومة تتفاوض حالياً على رهن العراق وثرواته وسيادته في إطار اتفاقية أمنية مع الولاياتالمتحدة تمتد لعقود قادمة. فبماذا سيأتي إلينا الاستفتاء الفلسطيني الموعود، في ظل الضعف العربي، والانقسام الفلسطيني، وغياب المؤسسات الشرعية، غير اتفاق مسخ يفرط بكل الثوابت الفلسطينية أو معظمها وخاصة حق العودة واستعادة القدس المحتلة؟