ليس من قبيل الصدف أن يصدر القرار الأمريكي بشأن العراق ومستقبله ، باعلان تشكيل " مجلس الحكم الإنتقالي " في 13 تموز ، يوم قبل مرور ذكرى ثورة 14 تموز 1958 . وليس من المفارقة أن يتقدم أعضاء المجلس أثناء دخولهم القاعة ، رئيس المؤتمر الوطني السيد أحمد الجلبي الذي يعاني من اتهامات اقليمية وداخلية . ولا يخفي دفاعه عن أمريكا ومساعيه الحثيثة للحصول على 25% من صفقات شراء الشركات الأمريكية للنفط العراقي ، كونه وسيطاً مؤتمناً ، عهد له بهذه المهمة كما صرح في ندوة أقيمت سابقاً في برلين . بيد أنه رد على سؤال لم يحرجه على الاطلاق كيف يتعامل بهذا المنطق وهو عراقي يزعم أنه يريد الخير لشعبه ، والبديل السياسي الديمقراطي هدفه قائلاً ، ومن يعنيه الأمر !! . وليس من الغرابة بمكان أن تتحول خاتمة الاعلان عن المجلس ، بتحريض أمريكي ، إلى حملة هيستيرية ضد الإعلام العربي والعالمي ، كونه تحمل مسؤوليته المهنية وسلط الأضواء كما ينبغي على حقيقة الوضع من موقع الحدث ، فاضحاً زيف من روج للحرب ومن يسعى لتجميل صورة الاحتلال . الأمر الذي جعل السياسيين العراقيين القادمين من خارج الحدود تحت حماية امريكية ، خائفين على مستقبلهم السياسي ، المضطرب أصلاً .. بعضهم يساوم تارة وينقلب على عقيدته تارة اخرى ، يتدحرج بين اليمين وبين اليسار، ليستقر تحت طائلة المبررات الزائفة " داعية اكذوبة " للرومانسية الأمريكية. يتقلد وثيقة انتساب (...) ورقم حساب مصرفي وحماية على درجة عالية من الأهمية والكتمان على الطريقة الثقافية والديمقراطية الأمريكية . لقد سقط القرار لينهي آثار العزلة التي تحيط بالمندوب السامي بشكل واضح ، في ظرف تعاني منه السياسة الأمريكية البريطانية حتى النخاع . منسجماً بين رغبات الإدارة الأمريكية وطموحات قوى عراقية تقول أن مصالحها قد توافقت مع المصالح الأمريكية حد القبول بإلغاء الدولة واعتبار يوم التاسع من أبريل 2003 عيداً وطنياً ، فرضه الحاكم الأمريكي بالقوة . دون أن تكشف لحد هذه الساعة عن الثمن الحقيقي الذي سيتحمله المجتمع العراقي ، الذي عانى من وطأة النظام الدكتاتوري السابق ، ويعاني الآن بقسوة ، نفسياً وحياتياً وفكرياً تحت مظلة الاحتلال . وبسبب افتقار قوى الائتلاف العراقية المدعومة من قوى الاحتلال أي برامج انتقالية وخطط سياسية انتقائية عاجلة ، تخرج البلد ستراتيجياً لا تكتيكياً من ازمته المعقدة وتعيد للمواطن العراقي الأمل في الاستقرار والبناء . وإذ ادرك الأمريكيون بعد اكثر من ثلاثة شهور ، من أنهم لم يحققوا للمجتمع العراقي أي مطلب يذكر في كافة المجالات الأمنية والاقتصادية والانمائية والصحية والاعمارية . خطورة الموقف وخروج الأزمة عن نطاقها الضيّق ، وانتقالها من الرحم العراقي إلى عقر دارهم ، مما اضطرهم تقديم تنازلات واعداد تشكيلة " مجلس الحكم الإنتقالي " على عجالة . كان لا بد على النشطاء السياسيين العراقيين أن يدركوا أهمية الظرف المناسب داخلياً واقليمياً ودولياً. فيتنهزوا فرصة الاصرار على تشكيل حكومة عراقية مؤقتة بكامل عددها وعدتها ، تمثل الطيف السياسي العراقي دون وصاية أمريكية ، تريد بقاء الشأن السياسي والأمني والعسكري العراقي بيدها . حكومة متوازنة تمنح مهلة زمنية لا تتجاوز السنتين ، خلالها يعد للاستفتاء على الدستور الدائم كما يحضر للانتخابات .. عندئذ ستحصل على ثقة المجتمع العراقي ، وستجد أيضاً فرصتها للتعايش معه ، في اطار يسمح لها تحرير نفسها من أي قيود لتنفيذ ما تعهدت به من التزامات . واضح أن صاحب السلطة الحقيقي " بريمر" قد استطاع بسط نفوذه بذكاء على مجلس حكم إنتقالي ، لا صلاحيات له . شبيه بمجلس " سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني " المنبثق عن اتفاقية اوسلو وما بعدها من مشاريع . لدرجة انه وجد لا ضرورة لالقاء كلمة بالمناسبة ، تاركاً للمجلس الموقر حق الدفاع عن التواجد الأمريكي البريطاني في العراق ، سعيداً للاطراء الوافر الذي أغدقه الحاضرون عليه وعلى السيد بوش ، واصفين الاحتلال بالتحرير والنهب والقتل بالحرية والخراب بالاعمار .. وواضح ، أيضاً ، أن الحركات والاحزاب المشاركة في المجلس ، لها موقفاً منسجماً مع موقف قوى الاحتلال من مستقبل العراق واستقلاله الوطني . كشف عنه بوضوح الشعار المعلق على جدار المسرح ، خلف منصة الرئاسة ، الذي يرمز بشكل صريح ومقصود لعراق مقسم إلى ثلاث مناطق ( وليس كما يوحى بانه علم العراق ) . ان موقف قادة الائتلاف العراقي في المجلس وخارجه من المسائل الوطنية الهامة ، لا يدعوا للارتياح على الاطلاق .. خذ على سبيل المثال لا الحصر ، التهاون في مسألة الأمن الوطني والموافقة على حل الجيش والشرطة ، السكوت عن نهب النفط وثروات العراق الاخرى ، عدم الاصرار على حق المجتمع العراقي في استصدار القوانين الملائمة وبناء مؤسسات الدولة الضرورية . والأهم من ذلك عدم الكشف عن وجود 4 مسودات مختلفة لدستور عراقي أعده مكتب الاستخبارات المركزية والادارة الأمريكية ، وتروج له لجنة عراقية يترأسها بحماس كنعان مكية الذي لا يجد حرجاً في تطبيع العلاقات مع اسرائيل ، ولا تتأصل فيه مشاعرالانتماء للعرب .. كذلك السكوت عن هتك الأعراض وقتل المواطنين والاعتداء على حرمة المساجد والبيوت على يد قوات الاحتلال . واخيراً وليس آخر تضليل المجتمع العربي والدولي بالادعاء بأن عمليات المقاومة هامشية وان من يقف وراءها جماعة صغيرة من فلول النظام البائد . بينما هي حقيقة يشد ازرها تعاظم الرفض الشعبي للاحتلال وللمجلس نفسه في كافة أنحاء العراق ، حتى بات يشكل خطراً عظيماً ومحرجاً لهما . امور كثيرة كالأمن والأستقرار ، هي التي تشغل بال المواطن العراقي في الداخل والخارج . ولا أعتقد أن هناك أهم من حماية المواطن وعدم السماح باستباحة دمه على يد قوات احتلال لا شرعية دولية لها .. ولا أستطيع من خلال مشاهداتي للاوضاع في العراق اثناء زيارتي له بعد السقوط بأيام وإلى يوم قريب ، انكار رغبة العراقيين معرفة السقف الزمني لبقاء قوات الاحتلال . أو إلى أين يذهب النفط العراقي وعائداته منذ اول أيام الغزو ، ومن مسؤول عنه ؟ . حق التصرف باموال العراق الموجودة في البنوك الدولية ، ولماذا لا توضع تحت تصرف الجهات العراقية لسد العجز المعاشي للمواطنين وصيانة البنية التحتية التي تضررت جراء الحرب وأعمال النهب والسلب . من أعطى ممثلي القوى المشاركة في هذا المجلس حق التفاوض والتحدث باسم الشعب ، والموافقة على حل الجيش العراقي وتقليصه إلى حجم غير قادر فيه على مواجهة حتى حالات النزاعات الداخلية والفياضانات والكوارث الطبيعية وهو ما عهد به منذ تأسيسه . أنه لمن المثير للجدل أن تكون نواة الجيش العراقي من الأكراد ويبدأ تدريبه في كردستان العراق وتحت اشراف قوات الاحتلال والقيادة المركزية الأمريكية . الامر الذي سيجعل العراق ، ضعيفاً ، عرضة للتهديد والابتزاز ، كما ويحجب السلطة الوطنية المقبلة دورها لتفعيل الارادة العراقية والنهوض بمهامها خلال المرحلة القادمة بشكل مواز للتوزيع الجيوديمغرافي . ولا يخفي العراقيون امتعاضهم من التمييز المفرط في مفردات الحياة اليومية على المستوى الفردي والجماعي على يد حفنة أتت من الخارج لا لها رصيد شعبي وسياسي ، تتحكم بمقدراتهم ومستقبل بلدهم بتوجيه وضغط أمريكي . فهم يشعرون بمرارة عندما يجري التأكيد على ذكر الطوائف والقوميات بالاسم إلا القومية العربية صاحبة أهم وأعرق حضارة في التأريخ الانساني يجري تجاهلها وعدم ذكرها في مسار الحديث أو الخطاب السياسي . يغيضهم تدفق الاموال للمناطق الكردية التي لم تنالها الحرب والحصار ، بينما تفتقر مناطق الوسط والجنوب لابسط مقومات الحياة اليومية من ماء وكهرباء وغذاء ودواء بالاضافة للخراب والخوف والمداهمات اليومية . يتسائلون لماذا يهجر العرب بطريقة قسرية وأحيانأ عنصرية من مناطق العراق الشمالية " كردستان العراق " ولا يحق لهم التملك والسكن هناك بموجب القانون ، فيما يعيش أكثر من مليون ونصف كردي عراقي في بغداد ووسط العراق وجنوبه . يملكون مؤسسات وعقارات وقصور ، ويعاملون على قدم المساواة مع اخوانهم العرب . حتى احزابهم وحركاتهم السياسية والدينية الكردية التي احتلت مبان ومؤسسات للدولة في بغداد ، لم تتعرض لاي ضغوط ، غير أنها أصبحت بتصرفها هذا مثالاً سيئاً يثير داخل المجتمع العراقي السخرية والجدل ، كالحركات والاحزاب العراقية الاخرى التي مارست ذات الاسلوب فاسقط عنها المصداقية السياسية والاخلاقية . على أي حال لنعط هذا " المجلس " الفرصة وننتظر ما إذا سيحقق على الصعيد الوطني والسياسي والاقتصادي والاعماري خلال المرحلة القادمة نصراً ملموساً . وعليه أن يدرك أن الشعب العراقي كما تشير الوقائع والاحداث اليومية على الصعيد الأمني والمعاشي ، لم يعد يتحمل ، وأنه سأم الانبطاح . بيد أن الفرصة أمامه ( اي المجلس ) محدودة ومرهونة ، فقط ، بكيفية تعامله مع قوى الاحتلال على اساس أن المصلحة الوطنية العراقية فوق كل شيء ، وليس على أساس الدفاع عن مصالح الأجنبي أولا ً.. يبقى إن لم يستطع " مجلس الحكم الانتقالي " حل مشاكل المجتمع العراقي الاساسية ، التي لم يتجرأ أي طرف من الاطراف تناولها بشكل صريح وموضوعي . هل سيتمكن من معالجة أوضاعه وتجاوز تباين وجهات النظر بين منتسبيه في الكثير من الامور بما يكفل استمراريته في ظل رفض شعبي وتزايد عمليات المقاومة والاحتجاج على طبيعة تشكيله في أغلب المدن العراقية ، لانه يرسخ الطائفية ويفتح الباب على مصراعيه أمام صراعات داخلية لا تحمد عقباها . ولأن معظم أعضائه متعطشون للوصول للحكم بأي وسيلة غير صناديق الاقتراع ، لانهم يدركون استحالة ذلك بسبب انفضاح ولائهم الأمريكي ومواقفهم السياسية التي تتعارض مع الحس والمطامح الوطنية ، بالاضافة إلى أن الشعب العراقي لا يعرفهم ولا يعرف شيئاً عن برامجهم السياسية ومدى جديتهم واخلاصهم . بالقدر الذي يتطلع فيه إلى مبادرات عراقية أكثر نضجاً وموضوعية مثل تشكيل الحكومة العراقية المؤقته المنبثقة مؤخراُ عن مؤتمر يمثل الطيف العراقي بمبادرة من مجلس المحامين في العراق . أن هموم العراقيين كثيرة وتساؤلاتهم مشروعة ، ولكن ينبغي أن لا يكون الكتمان وعدم المصارحة ومواجهة التساؤلات ، الشكل السافر لتجنب حل كل ما هو عالق في المحيط العراقي بكل خصائصه ومؤثراته وانفعالاته في أهم مرحلة من مراحل تأريخه. ونأمل أن لا يغلب العنصر الطائفي أو القومي والسياسي الذي تتاصل فيه نزعة الاحتكار والهيمنة من اجل المكاسب الخاصة على بمبدأ الشعور بالمسؤولية ، الذي يأطر ، السؤال ، عن الحقوق قبل الواجبات. فينقل الصراع من مواجهة الاحتلال والعبثية ، إلى صراع سياسي بين فصيل عراقي ضد فصيل آخر ، يكون المتضرر الأول دون سواه ، الشعب والوطن .. ولكن اذا ما أراد طاقم المؤسسة الجديدة حكم البلاد كما تعهد به تجنباً لحدوث كارثة وطنية أبعادها خطيرة ولا لاحد مصلحة فيها ، فعليه أن يعمل على تأكيد شرعيته الوطنية أولاً واستقلاليته عن النفوذ والهيمنة الأمريكية ثانياً . من خلال اجراء استفتاء شعبي على كل عضو من أعضاء المجلس لقطع الشك باليقين من أنه موضع ثقة المجتمع العراقي ويعمل لمصلحته ، قبل التأويل بأنه داعية عدل وبناء وسلام برعاية أجنبية ، طالما أننا نتعامل مع مشروع سياسي وليس مشروعاً ثقافي يبحث في الاخلاقيات عند خط التماس . عصام الياسري / صحفي عراقي مقيم في برلين