تجربة الانتخابات الرئاسية، التي تابعناها عبر شاشات التلفزة، تستحق منا كعرب الكثير من التأمل لاستخلاص الدروس والعبر، ومعرفة الأسباب التي جعلت من إيران قوة إقليمية عظمى مرهوبة الجانب من الدول الكبرى، بينما نحن العرب نحتل مكانة متدنية في دوائر التأثير السياسي والعسكري في المعادلات الدولية. أكثر من 70 في المائة، من أصل 46 مليون ناخب إيراني، توجهوا إلى صناديق الاقتراع لاختيار الرئيس المقبل، اصطفوا في طوابير بهدوء انتظارا لدورهم للإدلاء بأصواتهم دون تسجيل أي مخالفة أو حادثة تعكر الأجواء الأمنية. أثناء الحملات الانتخابية، شاهدنا المرشحين الأربعة يتواجهون أمام عدسات التلفزة، يشرحون برامجهم الانتخابية، ويدافعون عن سياساتهم، ويتبادلون الاتهامات، ويردون على أسئلة المذيع المحرجة دون أي تردد، في سابقة لم نر لها مثيلا إلا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ندرك جيدا أن الانتخابات الإيرانية تخضع لمعايير مختلفة عن معايير نظيراتها في العالم الغربي، وأن اللجنة المختصة بالحفاظ على الدستور هي التي «تغربل» المرشحين للرئاسة، وتختار عددا قليلا منهم يجب أن تتوفر فيهم صفات محددة، مثل الانتماء إلى المذهب الشيعي والإيمان بقيم الثورة الخمينية وولاية الفقيه والتمسك بنظام الملالي، ولكن علينا، في الوقت نفسه، أن نتابع مدى تطور العملية الانتخابية في السنوات الأخيرة، واتساع دائرة المشاركة الشعبية فيها، وتعرض المرشحين للرئاسة للمرشد العام بالنقد وعدم الحياد ولسياسات الرئيس بالتفنيد بل واتهامه بالغوغائية، وتدمير سمعة البلاد وتعريضها للعزلة الدولية، وإغراقها في أزمات اقتصادية طاحنة أدت إلى زيادة نسبة التضخم إلى أكثر من عشرين في المائة وتفاقم معدلات البطالة. هذا النموذج الديمقراطي، ورغم تحفظاتنا على بعض جوانبه، غير موجود في الغالبية الساحقة من دولنا العربية، والكبرى منها على وجه الخصوص، نقولها وفي قلوبنا حسرة على أوضاعنا المتدهورة، وأموالنا المنهوبة، وحقوقنا الوطنية والإنسانية المهدورة. لا نستغرب، ولن نستبعد، أن نتعرض لحملة شرسة من قبل البعض المتأثر بعمليات «الشيطنة» المكثفة التي تمارسها حاليا الأوساط الإعلامية التابعة لدول محور الاعتدال ضد إيران، وإحلالها محل إسرائيل كعدو أول للأمة العربية، تحت مسميات طائفية وقومية. وعدم استغرابنا هذا يعود إلى تجربتنا السابقة مع الأوساط الإعلامية نفسها، عندما «شيطنت» النظام العراقي السابق العربي القومي لإطالة أمد الحصار على العراق، وتسهيل مهمة القوات الأمريكية في احتلاله وقتل مليونين من أبنائه، نصفهم بسبب الحصار الذي سبق الغزو، واتهمت كل من يقف في خندق الدفاع عن هذا البلد العربي بالدكتاتورية ومساندة المقابر الجماعية، والآن بات هؤلاء يتباكون على العراق بعد أن طُمست هويته العربية والتوازن الاستراتيجي الذي حققه مع إيران، ويشتكون مر الشكوى من تغلغل النفوذ الإيراني فيه. لسنا معجبين بإيران ونظامها، كما أننا لسنا غافلين عن طموحاتها الإقليمية، ودورها في العراق حاليا، ولكننا نضرب بها مثلا لإظهار مدى تخلف أمتنا العربية، وتراجع مكانتها بين الأمم الأخرى، ونبين كيف أن إيران، التي خرجت مهزومة أو غير منتصرة من حرب استمرت ثماني سنوات، استطاعت، في أقل من عشرين عاما، تطوير قدرات عسكرية جبارة، ومكانة إقليمية ودولية متقدمة، وديمقراطية لا يشكك إلا أصحاب الآراء المسبقة في نزاهتها. نعم، هناك تجارب عربية ديمقراطية، شاهدنا أنصع صورها قبل أيام في لبنان وقبلها بشهر في الكويت، وأخرى جرى إجهاضها في موريتانيا، ولكن جميع هذه التجارب تأخذ مكانها في الأطراف وليس في دول المركز الفاعلة المؤثرة، مثل مصر وسورية والمملكة العربية السعودية، محور الثقل الاقتصادي والاستراتيجي والبشري في الوطن العربي. وهنا بعض الأمثلة: أولا: السلطات المصرية عدلت الدستور بضغط من الحكومة الأمريكية، وبما يسمح بإلغاء الاستفتاء على تجديد انتخاب الرئيس، ومنافسة مرشحين من الشعب له في انتخابات من المفترض أن تكون حرة ونزيهة. ما حدث أن الدكتور أيمن نور، رئيس حزب الغد، الذي تجرأ على منافسة الرئيس في الانتخابات وفاز بالمرتبة الثانية، اقتيد إلى السجن بتهم ملفقة، وخسر زوجته وصحته وحزبه، ولم يخرج إلا مع وصول الديمقراطيين إلى حكم البيت الأبيض تحسبا. أما المرشحون المحتملون في الانتخابات المقبلة، فقد بدأت عمليات إبعادهم وحصارهم منذ زمن بعيد، فالسيد عمرو موسى جرى «تصديره» إلى جامعة الدول العربية مبكرا، في «رشوة سياسية» محسوبة بعناية، ولا يمر يوم دون أن نقرأ تقارير إخبارية عن مضايقة الداعية عمرو خالد من قبل النظام ومنعه من إلقاء محاضرات دينية في بلده، لأنه يمكن أن يشكل خطرا على مرشح المستقبل جمال مبارك بسبب شعبيته. ثانيا: المملكة العربية السعودية، التي تمثل الاقتصاد الأكبر عربيا، عرفت نصف انتخابات بلدية قبل أربعة أعوام، أي أن ينتخب الشعب من الرجال نصف المجالس البلدية، وتعين الحكومة النصف الثاني؛ وحتى هذا التطور، الذي جاء بضغوط أمريكية أيضا، تعرض لعملية إجهاض مؤخرا، فقد تأجلت الانتخابات البلدية التي كانت مقررة الشهر الماضي لثلاث سنوات تحت ذريعة إصلاح النظام. ثالثا: إذا كانت مصر سمحت بتعديل الدستور بما يسمح بنزول مرشحين لمنافسة الرئيس، فإن الدستور السوري مقدس لا يمس، وبالتالي فهو محصن من التعديل، فما زال الرئيس هو المرشح الوحيد في استفتاء ب»نعم» أو «لا». ومن الطبيعي أن يقول الشعب «نعم»، ولا فرق مطلقا إن قالها أو لم يقلها على أي حال. ولا يمكن أن ننسى في هذه العجالة أن هناك دولا لم تسمع بانتخابات الرئاسة مثل ليبيا، أو تعدّل الدستور للسماح لرئيس مريض (الجزائر) بالترشح للانتخابات مرة ثالثة ورابعة وخامسة. ولعل أحد المرشحين للرئاسة في تونس قد بزّ الجميع عندما «بدأ من الآخر» مثلما يقول المثل الشعبي، وتوجه إلى صناديق الاقتراع مصوتا للرئيس، معلنا الولاء له أمام عدسات التلفزة. الإقبال الشعبي المكثف على صناديق الاقتراع (70 ٪) في أكثر من مائتي ألف مقر انتخابي على طول البلاد وعرضها يؤكد أن العملية الانتخابية تحظى بالحد الأدنى من القبول، وأن الرئيس الجديد سيملك تفويضا من القاعدة الانتخابية لتطبيق برنامجه الانتخابي الذي أوصله إلى الرئاسة. القاسم المشترك للمرشحين الأربعة الأبرز في الانتخابات الإيرانية هو اتفاقهم على نهضة بلادهم، وتعزيز مكانتها، والدفاع عن مصالحها، وحقها في امتلاك برنامج نووي مستقل، بل وتطوير أسلحة نووية، وإن اختلفوا حول طرق الوصول إلى هذه الأهداف. فإيران هي الدولة الوحيدة المستقلة فعلا، ولا ترتهن في قرارها لأي جهة خارجية، ولا تمد يدها طلبا لتسول المساعدات. مرة أخرى، أحب أن أؤكد أننا لسنا من أنصار المشروع الإيراني، بقدر ما نحن محبطون من غياب المشروع العربي، بسبب تفرغ دول محور الاعتدال لقتل هذا المشروع بتعليمات أمريكية واضحة وصريحة، فقد أصبح دور هذا المحور هو التخريب وليس البناء، ومساندة حروب الآخرين، ولهذا تتعاظم المشاريع غير العربية في المنطقة. وليست صدفة أن كل القوى الإقليمية العظمى الديمقراطية في المنطقة (تركيا، إيران، إسرائيل) ليست عربية.